المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | الشيخ د عبدالرحمن السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
ذلكم شأنُ شهر رمضان، خيرُ مغنَم ومكنز للحسنات وتكفيرِ السيئات، ولكن مع شديدِ الأسَى والأسف ضلَّ أقوامٌ عن مسالك الرّشاد في هذه الأيّام الغرِّ المباركة، فصاموا عن الطعامِ والشراب، وما صاموا عن فضائيَّات الخلاعة والمجونِ ومشاهدة فنونِ الفتون ومجالِس الغيبة والنميمةِ والبهتان ومنتديَات الشائعاتِ والطعون والاتِّهامات عبرَ وسائل الاتِّصال الحديثة التي تُعَدّ أعتَى مِقراض لفَريِ الأعراض، لا سيَّما أعراض العلماءِ والدعاة وأهل الفضلِ والخير والصّلاح.
الخطبة الأولى:
أمّا بعد:
فيا عِبادَ الله، خيرُ ما استكنَّ في الجَنان وثرَّ بهِ اللّسان الوصية بتقوى المولى الرحيم الرّحمن، فاتَّقوا الله ـ رحمَكم الله ـ في السّرِّ والعلن، وأصلِحوا من أنفسكم ما ظهر وما بطَن.
أيّها المسلمون:
في نَجوًى عن الحياةِ النّمطيَّة الرتيبة ونأيٍ عن مألوفِ الزّمان وتطابُقِه تُنيخ أمّتُنا الإسلاميَّة مطاياها بين يدَي شهرٍ عظيم وضيفٍ مبجَّل كريم، بالخيراتِ جَميم، وبالفضائلِ عَميم، قد غمَر الكونَ بضِيائه، وعمر القلوب المعنَّاةَ بحبِّه ببهائِه وسنائه، شهرٍ جرَت بالطاعات أنهارُه، وتفتَّقَت عن أكمام الخير والبر أزهارُه، واستَمَع المسلمون في لهفٍ وشوق لمقاصده وأسرارِه، وأصاخوا في خشوعٍ وإهطاعٍ إلى مَراميه المستكِنَّة وأخبارِه. تفيضُ أيّامه بالقرُبات والسرور، وتنيرُ لياليه بالآيات المتلوَّات والنور، موسِمٌ باركَه الرحمن وخلَّده القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].
معاشرَ المسلمين:
وشهر رمضان المبارك الذي نجتَني فيه أزهَى أيّام العمر بالازدِلاف إلى مرضاة المولى -جلّ في علاه- والتّنافس في عبادته لهو موسِمٌ حفيلٌ بالطاعات، جعَلَه المولى من الصُّوى التي ينتهي إليها العباد؛ ليستأنِفوا حياةً جديدة، متدَفِّقةً بالزّكاءِ والنّبلِ، مكتَنِزةً بالقوّة والفضل، متوافينَ على قيمةِ الحياةِ الروحيّة ولذَّتِها وسرورِ النفس البهيّة وبهجتِها.
إخوةَ الإيمان:
ولم يقِفِ الشارع الحكيمُ عند مظاهرِ الصوم وصوَرِه من تحريمِ تناول المباحاتِ والطيِّبات فحَسب، بل حرَّم كلَّ ما ينافي مقاصِدَ الصيام وغاياتِه الساميَة، وكلَّ ما يخدِش حِكَمه الروحية والخُلُقية. ولا جرَم، فقد أحاطَه بسياجٍ منيع من عفَّة اللسان والجوارِح وطُهرِ النفوس وصفائها وانجفالها إلى ربِّها وبارئها، في الحديثِ الصحيح أن رسول الله قال: "إذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، وإن سابّه أحد أو قاتَله فليقل: إني صائم"(صحيح البخاري 1904).
وفي زَجرٍ شديدٍ يقول عليه الصلاة والسلام فيمَا أخرجه البخاريّ وغيره: "من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فلَيس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه"(صحيح البخاري 1903).
ولِما للصيام الحقيقيّ من فوائدَ شتى ومنافِعَ جُلّى، ولِما بنِيَت عليه الكَمَالات والفضائلُ من الصبرِ والورَع والعفّة والحياء والجود والعطاء وإشراقِ الروح وكَسرِ سَورة الشهوة وزَجرِ مدِّها أُفعِمَت أعطافُ الصائم بالسّموِّ والإعزاز وخُصّ بالحَظوةِ والعِنديِّة الأثيرةِ لَدى البارِي جلّ وعلا، يقول فيما يرويهِ عن ربِّ العزّة تبارك وتعالى: "ولخَلوف الصائم أطيَب عند الله من ريح المسك"(صحيح البخاري 1904).
ويمتدُّ امتنانُ المنان على عباده الصائمين والاحتفاءِ بعبادتهم الشريفةِ هذه فيقول في الحديث القدسيّ: "كلّ عمل ابنِ آدم له إلاّ الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"(صحيح البخاري 1904).
الله أكبر، فإلامَ تطمَحون - عبادَ الله - مِن خير عميمٍ ونعيم مقيم من ربٍّ رحيم ومولًى حليم كريم.
ناهيكم - يا إخوةَ الإيمان - بالفرَحِ الوارِف والغِبطة الدِّهاق اللَّذَين يستولِيان على الصائم إبَّان فِطرِه أن وفَّقه الله لحسنِ الصّيام في هذه الحياة ويَوم القيامِ للمَلِك العلاَّم، وتلك البشرَى مزفوفةٌ في قوله عليه الصلاة والسلام: "للصائم فرحَتان يفرَحُهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه"(صحيح البخاري 1904).
أمّةَ الإسلام:
ومن جُلَّى المقاصد والمآلاتِ التي تنوَّرها الشارع من الصيام وأمَّلها صفةٌ راسخة في الصائمين، تضيء دُروبَهم وتندِّي بالبصيرة قلوبَهم، تلكم - يا رَعاكم الله - هي التّقوَى، وأعظِم بها من ركنٍ أقوى، هي في الدنيا بَريد السعادةِ، وفي الآخرة رائدُ الحسنى وزِيادة، جاء ذلك مشرِقًا في ختامِ آية الصّيام في قوله سبحانه: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
وتلك حقيقةٌ لا نراها غائبةً عن شُراة رضوانِ الله وبُغاة مغفِرَته وهداه، الذين اتَّخذوا رمضانَ لقلوبهم ربيعًا، وعن الآثام سدًّا منيعًا، وللأنسِ بالله وسيلةً وشفيعا، فيا نُعماهم، ويا سُعدَاهم، الرحمةُ بهم قد حفَّت، والألطافُ الربانيّة بجَرعائِهم رفّت، جازوا بحادي الأذكار والضَّراعات فدافِدَ الغفَلات والمغرِيَات، وعرَجوا سامِقَ الدرَجات بكتابِ الله وبلذيذ المناجاةِ.
معاشرَ الصائمين:
ذلكم شأنُ شهر رمضان، خيرُ مغنَم ومكنز للحسنات وتكفيرِ السيئات، ولكن مع شديدِ الأسَى والأسف ضلَّ أقوامٌ عن مسالك الرّشاد في هذه الأيّام الغرِّ المباركة، فصاموا عن الطعامِ والشراب، وما صاموا عن فضائيَّات الخلاعة والمجونِ ومشاهدة فنونِ الفتون ومجالِس الغيبة والنميمةِ والبهتان ومنتديَات الشائعاتِ والطعون والاتِّهامات عبرَ وسائل الاتِّصال الحديثة التي تُعَدّ أعتَى مِقراض لفَريِ الأعراض، لا سيَّما أعراض العلماءِ والدعاة وأهل الفضلِ والخير والصّلاح.
حصِّن صيامَك بالسكوتِ عن الخَنا | أطبِق على عَينَيك بالأجفانِ |
فيا لله، لقد هتَكوا حجابَ الفضيلة هتكًا، وسفكوا حرمَة شهرِ القرآن سفكًا!!
ومن المخزِيات القواصم التي أقضَّت منَ الغيورِ المضجَع وفضَّت منه المدمَع أنّ كثيرًا من الناسِ يكرَعون من وجَارِ تلك الشّبَكاتِ والقَنَوات الآسِن، فتسَمَّرَ بعضُ الأفرادِ والأسَر على تلك الموائِدِ الوبِيئَة دونَ ارعواءٍ أو خجَل، وا حَسرتاه أين آثارُ الصيام؟! وا خَجَلتاه أين أنوارُ القيام؟! لقد ارتَكَسوا في المآثم والمهالِك، وأحالوا اللياليَ الغُرَّ حوالك. وأقوامٌ لا يجعَلون التصوُّنَ والفضيلة مِلاكهم قد عجَّلوا هلاكَهم.
فعَفوًا عفوًا يا رمضان، فمَع كَونِ الشياطين تصفَّد فيك إلاّ أنّ بعضَ القنوَات لا تجِد رواجًا لها إلاّ في غرِّ لياليك، في سِباقٍ محموم وطرحٍ مَسموم لاَ يليق بزمانٍ فاضل وأمّة واعيةٍ.
فرُحماك ربَّنا رُحمَاك، أما يكفِي واعظا ويُغني رادِعًا قولُه سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل:92]؟!
فأنَّى وكَيف ومَتى يَستفيق هؤلاءِ من رَقدَتهم ويَنهَضون من كَبوتِهم وهَذا شهرُ النّفَحاتِ والهِداياتِ والفتوحَاتِ بين أيدِينا، يَؤزُّنا إلى السّؤدَدِ والعَلياءِ، وفِئامٌ لا يَزالونَ في غَفَلاتهم سادِرين وعَن مجدِ أمَّتِهم لاهِين.
فإلى الممكَّنين من تلك القنواتِ والشّبكات يوَجَّه النداءُ الحارّ أنِ اتَّقوا الله، اتّقوا الله واخشَوه في هذهِ الأمّة أمةِ الصيام والقيام، فلها في جديدِ مآسيهَا ما تحتاج معَه إلى من يواسِيهَا.
فيا شديدَ الطَّول والإنعامِ | إليك نَشكو محنَةَ الإسلامِ |
وهنا لَفتةٌ لِلمرَّبين والمربِّيَات والآباءِ والأمّهاتِ أن يتَّقوا الله في أسَرِهم ومَن تحت أيدِيهم، فيُربّوهم ويُؤدِّبوهم، فكلُّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رَعيَّته، كما صحَّ بذلك الخبرُ عن سيِّد البشَر عليه الصلاة والسّلام مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهما. (صحيح البخاري 893).
كما أنَّ هنا هَمسةً للأختِ المسلِمة في رَمضانَ بأن تجعَلَ مِنه فرصةً للتّوبة والإنابةِ والمحَاسبةِ والمراجَعة والتزامِ مَسلَك العَفاف والحِشمةِ والحِجاب والحَياءِ ومجَانَبة مَسالِكِ التبرُّج والسّفور والاختِلاط المحرَّم.
إِخوتِي الصائمين والصائِمات، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21]، يقول العلاّمة ابن القيِّم -رحمه الله-: "وكان هديُه فيه علَيه الصلاة والسّلام أكمَلَ هديٍ وأعظَمَه تحصيلاً للمَقصود وأسهلَه علَى النفوس"(زاد المعاد: 2/27)، وكان من هديِه في رَمضانَ الإكثارُ من العِبادةِ.
أمّةَ الصّيام والقيامِ، وإنَّ مِن كَمال هديِه عليه الصّلاة والسلام في رمضانَ البذلَ والإنفاق، قال الإمام الماوردِي رحمه الله: "مُنِح من السّخاء والجودِ حتى جاد بكلِّ موجود وآثرَ بكلِّ مطلوبٍ ومحبوب، كيف لا وهو القائلُ عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمّي: "أنفِق بِلالا، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً" (رواه رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 922).
وما الإنفاقُ والإحسان في هذا الشهرِ المبارَك الميمون للمعوِزين والمعسِرين والمدينِين إلاّ دليل حبٍّ شفيف وإيمان مزهِرٍ رهيف يحمِل النفسَ على المشاعر الرقيقةِ الحانية، فتسري في الأمّةِ الإسلاميّة كالريح الرُّخاء، فتبذُل في نداوةٍ ورَخاء. فمدّوا أيديَكم - يا رعاكم الله - لإخوانِكم بالعطاء تحوزُوا مرضاةَ ربِّ الأرض والسماء.
وإنَّا - أيّها الأحبة - إذ نقرَع بابَ الودِّ والعَطف ونشرَع قناةَ الحبِّ واللّطف لَنقول: شاهَت وجوهُ الشّانِئين على الأعمالِ الخيريَّة والإغاثيّة التي يفوح شَذاها في هذهِ الأرض المباركةِ، ولستم - يا بُغاةَ الخير والمعروفِ - الذين تفلُّ في هِمَمكم وعَزائِمِكم الأراجيفُ والافتِراءات والأكاذيبُ والمثبِّطات، ولا ينافي هذا ضبطَ المواردِ والمصارِف وترشيدَها. وإنَّنا لنَحمَد الله -عزّ وجلّ- أنَّ الجِهات الموثوقَةَ كثيرةٌ والمؤسّساتِ الأمينةَ عديدة، فلا تمسِك - يا محِبُّ - الكَفَّ لعلَّك عن النار تُذَادُ وتُكَفُّ بمنِّ الله وكرمه.
ولعلَّه غيرُ خافٍ على شريفِ عِلمكم - يا رعاكم الله - ما تعرَّض له إخوانٌ لنا في العقيدةِ مِن جرّاء الفَيَضانات والأعاصيرِ والكوارث والزّلازل والمحَن والحوادث، وآخرون مِن ضَرَاوةِ المجاعةِ والمسغَبَة وضَنك العَيش وشظَفِه، ممّا يُعَدّ من الفواجعِ المحزِنة وما يتطلَّب يدَ العون والمساعَدَة ورفعَ أكفِّ الضراعةِ بالدعاء لهم؛ شعورًا بالواجِبِ الإسلاميّ تجاهَ إخواننا المسلِمين المنكوبِين في كلّ مكان، ومسارعةً في التنفيسِ عن كربَتِهم لا سيّما في هذا الشهر المبارَك.
وهُنا يُذكَر فيُشكَر ويروَى فلا يطوَى الموقفُ المشرِّف لبلادِ الحرمين حرسها الله في مبادَرَتها لمساعدةِ إخوانِنا المتضرِّرين منَ الزلازل في باكِستان وكَشمير وغيرها.
ويجدُرُ التذكيرُ في هذا الشهر الكريم بفريضةِ الزكاة؛ فهي قرينَةُ الصلاة في كتابِ الله، فأدُّوها طيّبةً بها نفوسُكم.
رمضانُ - يا إخوةَ الإسلام - فرصةٌ لوحدةِ الأمّة على الكِتاب والسنة بمنهَج سلفِ الأمّة وتربيةِ الشبابِ والأجيَال على مَنهج الوَسَطيّة والاعتدال، في تجافٍ عن مَسالك الغلوِّ والجفاء وصَرَعات العولمةِ الثقافية والفِكر التغريبيّ أو التخريبيِّ المنحرِف وإعزاز شأنِ الحِسبة وأهلِها وإعلاءِ شَعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتأييدِ القائمين عليها وشدِّ أيدِيهم والحِفاظ على أمنِ الأمّة ورعاية مَصالحها وتجفيف منابِعِ الشّرِّ والفساد فيها.
فهل نحن مستَفيدون من مَدرسَته وناهلون من مَعين خيراتِه وبركاته؟! هذا هو المأمَّل، وعلى الله وحدَه المعوَّل، إنّه خَير مسئول وأكرَم مأمول.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج:77، 78].
نفعني الله وإيّاكم بالنور المبين وبهديِ سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وزكّوا أعمالكم وأقوالَكم في شهر القرآنِ بالصّدق والإخلاص، واغتَنِموا أوقاتَه الشريفةَ قبل أن يؤخَذَ بالنّواص، ولاتَ حِين مَناص.
معاشِر الإخوة الأحبّة في الله:
ها هي العَشرُ الأولى عشرُ الرّحمة من شهرِنا قد تفصَّت وفارقتنا، ودَلَفت علينا عشرُ المغفِرة وعانقَتنا. فيا بغاةَ الخير ألا فجِدُّوا وأنيبوا، وبغاةَ الشّرّ ألا فأقصِروا وتوبوا وأضمِروا حُسنَ الفَال وجليلَ الفِعال وبادِروا بالأخذِ بأسباب المغفِرةِ والجدِّ في المحاسبة، فها هو الشهرُ الكريم كادَ أن ينتَصِف وكثيرٌ منّا من نفسِه لم ينتَصِف.
تنصَّفَ الشهر ولهفاه وانصرَما | واختصَّ بالفَوز بالجنّاتِ من خدَمَا |
ولْيَكن منا بحسبانٍ - يا رعاكم الله - أنّا في هذا الشهرِ الكَريم الميمونِ نجدِّد عهدَ الولاء لله والوفاءِ لدينه والاقتداءِ برسوله ومُصطفاه على حالٍ نرجو بها نصرَ الله وتأييدَه. وإنّنا في هذه العشرِ المباركة لنستَروِح نَوافِح أيّامِ الانتِصاراتِ والفتوح والظّفَرِ والبطولات، حيث وقعَت معركةُ بدرٍ الكبرى في السابِعَ عشَرَ من رمضان، حسَمَت بين حياتَين في تاريخِ البشريّة، يوم الفرقانِ يومَ التقى الجمعان: جمعُ الإيمان وهم قِلّة، وجمعُ الكفرِ الصّلِفِ وهم كثرة.
خرَج المؤمنون بسلاحِ الإيمان واليَقين ودُروع الصّبر والعقيدة ومَراكب الصّبر والدّعوات المعطَّرة بخلوفِ الصيام والرّسول قائم يدعو ربَّه في إلحاحٍ وإنابة: "اللّهمّ آتِني ما وعدتَني، اللّهمّ أنجز لي ما وَعدتني، اللّهمّ إن تهلِك هذه العصابةُ من أهل الإسلام لا تعبَدُ في الأرض أبدًا"(صحيح مسلم 1763).
وقَضى الحكيمُ الخبيرُ سبحانه ببُشرى النّصر المؤزَّر: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:45].
وانهزَمَ حِزب الشيطان في ذِلّة وصَغار بعد العتوِّ والاستكبار، وانجَابَ قتامُ الشّركِ والضلال عن النورِ المنبَجِس من أفئِدَة المؤمنين الصائمين، وارتَفَع الحقُّ شامخًا إلى الآفاقِ، واستقام بهذَا النّصرِ العَظيم أودُ التّأريخ، وطلَع بدرُ يومِ بَدر عن دِينٍ خالص زيَّن الدنيا بالحقّ والعدل والأمن والسّلام، وطَبق الأرضَ بالرّحمةِ والخير للبشريّة جمعاء.
وإنّه لقمينٌ بنا - معاشرَ المؤمنين - والمحنُ قد برَّحَتنا وأثخنَتنا في بقاع كثيرةٍ - لا سيما في مسرَى سيّد الثقلَين وأولى القبلتين في فلسطين المجاهِدة وكذا في بلادِ الرافدَين - أن نستلهِمَ العِبَر والعِظات ونَنتَزِع القوّةَ والعزّة من هذه الأوقات المباركات، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8]، فلا مكانَ لليَأس، ولا مجالَ للإحباط، بل جِدّ وإيجابيّة وإخلاص وفاعليّة، وليَكُن ملء بُرودِكم أنّ لنا في كلّ يومٍ بدرًا أخرَى مع الشّهواتِ والملذّات وتيّارات الأهواءِ الفكريّة والشبهات.
ألا فلتبادِروا بالأعمال الصالحات في هذا الزمانِ الشريف وهذا الوقت المنيفِ لعلَّكم تفلحون.
هذا وصلّوا وسلموا - رحمكم الله - على النبيّ المجتبى والرسول المصطفى والحبيب المرتضى، سيّدِ الأنام، خير من صلّى وصام وتهجّد لله وقام، كما أمركم بذلك المولى الملك العلاّم، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين نبِيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين...