الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
أحبتي: الله -جل جلاله-، الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: "مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟!" أين نحن من هذه العروض الربانية الضخمة، والدعوة الكريمة المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر ونغفل عن هذه العروض ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟! آه من تقصيرنا! ثم آه! ثم آه! فما لنا عن هذا الباب المشرع للإجابة غافلين، وفي طَرقه مترددين، وعن ولوجه متأخرين، وعن إجابته متثاقلين؟! والله! لو ألحّ علينا سائل بقليل لاستجبنا وأسرعنا، فما لنا لا نستجيب لهذا النداء..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد: أيها الإخوة: المؤمنون هم الذين (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]، أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منها وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه تعالى.. وقد كافأهم ربهم بمكافأة جزلة عندما قال (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
هذه الليالي الحسان التي نعيشها وما فيها من قيام ميدان رحب من ميادين المسابقة على الطاعة؛ لأن مشاركة المسلم لإخوانه فيها بالمساجد أعظم عون على أدائها.
ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلّم- يجتهدُ بالعملِ الصالح فيها أكثرَ مِن غيرها، فعن عائشةَ -رضي الله عنها- "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلّم- كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره"، وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلّم- إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظَ أهلَه" (رواه البخاري ومسلم).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلّم- يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ، فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ" (رواه أحمد).
وهذا فيه دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، وأنه ينبغي للمسلم أن يقوم فيها بجميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها، وهي فرصة لا تعوض للمسلم باجتماع تلك الطاعات في تلك الليالي المباركات.
أيها الإخوة: لقد كان النبيَّ -صلى الله عليه وسلّم- يُوقِظُ أهلَه في هذه العشر للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنامها، ولأنَّها نعمة كبيرة لمنْ وفَّقه الله –تعالى- لإدراكها والاجتهاد فيها، فلا ينبغِي للمسلم العاقلِ أنْ يُفَوِّتها على نفسه وأهله، فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودات عسى أن يدركَ كل واحد منّا نفحةً من نَفَحَاتِ الرب الكريم فتكتب له سعادة الدنيا والآخرةِ.
وليالي العشر ليالي الدعاء، تفرّغ فيها عموم المسلمين للطاعة، يرفع فيها الأئمة الدعوات إلى الباري -جل وعلا- في آخر كل ليلة في قنوتهم ويُؤمّنُ عليها المصلون، ويلهجون جميعًا لله بالدعاء في سجودهم وجلوسهم وخلواتهم.
جميل أن نتذكر النداء الرباني الودود الذي ينادي فيه عندما "يَنْزِلُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟! وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟!"(متفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رسول الله).
أحبتي: الله -جل جلاله-، الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: "مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟!" أين نحن من هذه العروض الربانية الضخمة، والدعوة الكريمة المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر ونغفل عن هذه العروض ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟! آه من تقصيرنا! ثم آه! ثم آه!
فما لنا عن هذا الباب المشرع للإجابة غافلين، وفي طَرقه مترددين، وعن ولوجه متأخرين، وعن إجابته متثاقلين؟! والله! لو ألحّ علينا سائل بقليل لاستجبنا وأسرعنا، فما لنا لا نستجيب لهذا النداء؟!
واحذروا من الغفلة أثناء الدعاء والتأمين عليه، فقد حذّر من ذلك رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فقَالَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ". (رواه الترمذي وحسنه الألباني عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عن رسول الله).
واستحضِروا معاني الدعاء، وأَظْهِروا الافتقار والذل بين يدي لله أثناء دعائكم، ولا تستبطئوا الإجابة قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟! قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ". أي: ينقطع عن الدعاء. (رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عَنه).
أيها الأحبة: أدعو نفسي وإخواني من الأئمة والمأمومين لترتيب دعائهم، بأن نرتب دعاءنا فندعو لأنفسنا، ونستوعب حاجاتنا، ثم ندعو لوالدينا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب بخيري الدنيا والآخرة، ثم ندعو لإخواننا المسلمين من السابقين الأولين واللاحقين عمومًا، ثم نخص المظلومين والمعوزين في سوريا وفلسطين والعراق واليمن وبورما وغيرها، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
قال الشيخ السعدي: "وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين السابقين من الصحابة، ومَن قبلهم، ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا".
وندعو لولاة الأمر من العلماء والأمراء والولاة بخير؛ قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "دُعَاءُ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، مَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ إِلا قَالَ لَهُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ" (رواه البغوي واللفظ له، وابن ماجه، وصححه الألباني).
وإن من الحرمان أن ترى بعض الأئمة يبالغ في تنويع الألفاظ بالأدعية ثم يدع الولدين ولا يخصهما بدعاء!! وأول الرسل -عليهم السلام- خصهم بالدعاء بعد نفسه فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28]. وخليل الله -عليه السلام- يقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم:41]. ومن الحرمان عدم الدعاء لإخواننا خصوصاً المظلومين وكذا الدعاء لولاة الأمر بالتوفيق والتسديد.
أيها الأئمة، أيها الإخوة: احرصوا على جوامع الدعاء، ولو لم تطيلوا فيه، ودعوا التفاصيل الدقيقة التي قد توقعكم بالاعتداء بالدعاء.
أما دعاء المأمومين الخاص في أي ركن من الصلاة فالواجب فيه خفض الأصوات، فكل واحد منهم يناجي ربه، ولا يخفى عليه -سبحانه- شيء في الأرض ولا في السماء.
لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ! لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ". (رواه البخاري).
ومعنى (اربعوا على أنفسكم): ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله -تعالى-، وليس هو بأصمَّ ولا غائب؛ بل هو سميع قريب..
أسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يوفّقنا لقيام ليلة القدر، ويتقبل منا، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ربما تكون هذه الجمعة آخر جمعة في رمضان وعليه لا بد من الإشارة إلى بعض أحكام ختام الشهر؛ فقد شرع الله لنا في ختام الشهر عباداتٍ جليلةً نزداد بها إيمانًا، وتكمل بها عبادتُنا؛ شرع لنا زكاةَ الفطرِ، والتكبيرَ، وصلاةَ العيد.
أما زكاةُ الفطر فقد فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زكاةَ الفطرِ من رمضان صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغيرِ والكبير من المسلمين" (متفق عليه).
ومقدارها صاع، ومقدار الصاع النبوي كيلوان وأربعون غرامًا ;كما ذكر ذلك شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-، ويجب على المسلم أن يخرجها عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب، إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم. ومن أخرجها عن خَدَمِهِ فعليه أن يستأذنهم في ذلك.. وتجب بغروب الشمس ليلة العيد، وتسن عن المولود بعد الغروب، وعن الجنين.
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ومن أخرجها بعد صلاة العيد بلا عذر فهي صدقة من الصدقات، لا تبرأ بها ذمته إلا أن يكون معذورًا.
وتدفع إلى فقراء المكان الذي أنتم فيه وقت الإخراج، سواء أكان محل الإقامة أم غيره من بلاد المسلمين، لا سيما إن كان مكانًا فاضلاً كمكة أو المدينة، أو كان فقراؤه أشد حاجة.
والأفضل أن يدفعها الإنسان بنفسه، فإن لم يستطع أو لم يعرف الفقراء فجمعية البر الخيرية بعنيزة تستقبلها في مواقع متعددة من البلد وتقوم بدفعها للفقراء. وحسِّنوها وكملوها، ولتكن من أطيب أموالكم الذي تجدون، فـ(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
أيها الأحبة: ومما يشرع لكم بعد إكمال العدة التكبير، ووقته من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، إلى فراغ خطبة العيد.
وصيغة التكبير معروفة. ويسن الجهر به للرجال في المساجد والأسواق والبيوت، إعلانًا لتعظيم الله، وإظهارًا لعبادته وشكره..
الله أكبر! يا عباد الله: ما أجمل حال الناس وهم يكبرون الله تعظيمًا وإجلالاً في كل مكان عند انتهاء صومهم! فتمتلئ الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً رجاءَ رحمةِ اللهِ، وخوفَ عذابه، وإحياءً لسنة نبيهم.
أيها الإخوة: اخرجوا إلى صلاة العيد متنظفين متطيبين، والبسوا أحسن الثياب، وأخرجوا لها نساءكم وأطفالكم ومَن تحت أيديكم، اخرجوا امتثالاً لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابتغاء الخير، ودعوة المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل، وجوائز من الرب الكريم تحصل، ودعوات طيبات تقبل.
والسنة أن يأكل قبل الخروج إلى المصلى تمراتٍ وتْرًا، ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
واخرجوا إلى هذه الصلاة مشيًا إلا من عذرٍ كعجز أو بُعد.. وستقام الصلاة -إن شاء الله- الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، وتذكروا بجمعكم اجتماع الناس في يوم الجمع الأكبر: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]..
بلَّغَنا الله يوم العيد من عمر مديد بطاعة الله، ومنَّ علينا بالقبول، إنه جواد كريم.