القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
إن العداوة بيننا -نحن المسلمين وبين اليهود- مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل، ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا -نحن المسلمين- بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة، وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود - فإن ذلك محال ..
أما بعد:
فإن قلوب المسلمين وأنظارهم في مشارق الأرض ومغاربها متوجهة هذه الأيام صوب أرض شريفة ومسجد مبارك، قد بورك وما حوله من الأراضي والديار، ترقب أحداث معركة غير متكافئة في العدة والعتاد.. معركة بين فريقين؛ أولهما: القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمصلحين، عرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَلْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً وَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة:64]، فهم أحفاد اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187].
أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد ونقضوا عهده، فإنه لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله أموالهم. وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد فحاصرهم النبي وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب فأجابهم إلى ذلك، فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام.
وأما بنو قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب في يوم عصيب وكرب شديد حين اجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي بعد انتهاء المعركة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة. هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء.
ومن غدرهم وخيانتهم له صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة، فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه كان يقول في مرض الموت: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري" رواه أبو داود.
فهم اليهود -وما أدراك ما اليهود-، حفنة من البشر وشذاذ من البلدان تجمعوا في أرض فلسطين المباركة -بقدر من الله تعالى وحكمة-، ومن ورائهم قوى الكفر كلها من نصارى ووثنيين على اختلاف ديارهم وتباعد أقطارهم تؤزهم أزاًّ حامية النصرانية وحاملة لوائها في عصرنا الحاضر: أمريكا، أمريكا التي أغدقت المليارات على عصابات اليهود وزودتهم بكل سلاح فتاك يضمن لهذه الشرذمة التفوق العسكري الواضح على جميع مجاوريها، وحمت هذه الدويلة الشاذة بالقرارات اللازمة من المجامع والمجالس الدولية، وقد تناوب حكام هذه الدويلة النشاز على الفتك بالمسلمين في فلسطين وسلب حقوقهم ومصادرة ممتلكاتهم، فكم قتيل أسقطوه، وكم مخيم للاجئين قد اجتاحوه وعاثوا في الأرض فساداً فلم يسلم من شرهم طفل ولا رضيع فضلاً عن العجوز والمريض.
هذا هو الفريق الأول في المعركة الدائرة الآن في القدس.
أما الفريق الثاني: ويا للعجب ويا للحسرة فهم أطفال في عمر المراهقة وشباب غض لم يخط الشعر في وجوههم، سلاحهم الحجر وقاذفاته من النباطات فقط، وأحياناً يكون بيدهم قنابل يدوية ضعيفة المفعول، لا رشاش معهم ولا قنابل ولا مدرعات، يشتكون من قلة الناصر والمعين، وأول من خذلهم أبناء جلدتهم الذين يساومون بقضيتهم ويقدمونهم قرابين تثبت ولاءهم للشرق والغرب ،ومع هذا استطاع هذا الفريق الأعزل الضعيف الخالي الوفاض من السلاح الرادع، استطاع أن يبعث الرعب في صفوف اليهود ويزلزل أركانهم، فأصبحوا في قلق وحيرة أمام هذه الجموع الصاخبة التي تنادي بعودة الأقصى إلى حوزة المسلمين.
عباد الله: إن تاريخ أمتنا ونصوص شريعتنا تشهد بما للمسجد الأقصى من قدسية ومكانة؛ فقد أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" أخرجه البخاري ومسلم.
فهي مساجد الأنبياء؛ فالأول قبلة الناس وإليه الحج، والثاني شرف بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم فيه وسكناه المدينة النبوية، والمسجد الثالث، كان قبلة الأمم السالفة، وظل كذلك قبلة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تصلي نحوه ستة عشر شهراً، ثم أمروا بالتحول إلى الكعبة المشرفة.
وقد ذكر الله بيت المقدس في كتابه في مواضع عدة، وجاء فضل المسجد الأقصى في غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1]، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: "المسجد الحرام فقلت: يا رسول الله ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة" أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت" رواه مسلم.
أما عن تاريخ المسجد الأقصى؛ فقد بقي بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي بنحو ثلاثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحق وهم المسلمون: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ) [النور:55].
وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفاً ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوماً عصيباً على المسلمين أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة النصارى أن الله ثالث ثلاثة و أن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله، وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن.
وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583 هـ، وكان فتحاً مبيناً ويوماً عظيماً مشهوداً أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان، ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولاً.
واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه المسلمون سنة 642 هـ، وبقي في أيدي المسلمين قروناً كثيرة إلى شهر ربيع الأول سنة 1387هـ، حيث أحتله اليهود بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم.
ولن يتخل اليهود عن الأقصى بإرادتهم مهما حصل، وقد قال حكامهم: "إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة"، ولا زال الأقصى يئن تحت أقدام اليهود ويستصرخ همم المسلمين لاستنقاذه.
فنسأل الله -عز وجل- أن يعجل بفرج بيت المقدس وأن يرزقنا الصلاة فيه، وأن يقضي على اليهود ومن شايعهم ومالأهم من النصارى والمنافقين، وهو يوم قادم لا محالة. يوم ترتفع فيه راية الحق ويندحر فيه اليهود ومناصروهم، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: "أنتم شرقي النهر، وهم غربيه" فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ،وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام وبما أخبر به من علم الغيب الذي سيقع في المستقبل.
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ * إِنَّ فِى هَـاذَا لَبَلَـاغاً لّقَوْمٍ عَـابِدِينَ) [الأنبياء:105-106].
الخطبة الثانية
أما بعد:
فعلينا نحن المسلمين أن نتذكر وأن نعلم الحقائق التالية ونحفظها ونحافظ عليها:
أولاً: إن العداوة بيننا -نحن المسلمين وبين اليهود- مبدأ ثابت لا يتغير ولا يزول كما قرره كتابنا وأخبرنا به ربنا عز وجل، ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا -نحن المسلمين- بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة، وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود - فإن ذلك محال؛ كيف والله -عز وجل- يقول: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120]، ويقول -عز وجل-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَلَّذِينَ أَشْرَكُوا)ْ [المائدة:82].
الحقيقة الثانية: أن الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها أن ندافع مكر اليهود وأن نرد مكرهم في نحورهم، وأن نوقف غزوهم ونكف شرهم عنا وعن البشرية جميعًا، الوسيلة الوحيدة هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
والجهاد مراتب: أولها: مجاهدة النفس، وأعلاها القتال في سبيل الله؛ فأهم مراتب الجهاد وأولها أن ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا وعلى أهوائنا. وأن يكون رضا الله -عز وجل- مقدماً عندنا على رضا غيره، فإذا رضي عنا ربنا دافع عنا، ومن يدافع عنه رب العالمين؛ فمن ذا الذي يقوى على مقاومته؟ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ) [الحج:38].
ثم إن القتال في سبيل الله شرف ورفعة، وبه تسترد الحقوق، وهو السبيل الأوحد لرد الاعتبار ومنع الظلم، ولا زال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير كثير، ولا زال فيها من يرغب في قتال الكفار متى حانت الفرصة، وقد رأينا كيف استطاعت قلة مؤمنة في بلاد الشيشان أن تذيق الروس ألواناً من الذلة والمهانة وتردهم على أعقابهم خاضعين، بل رأينا كيف دب الذعر في قلوب النصارى واليهود من أطفال الحجارة والنباطات في فلسطين، حين قرنوا رمي الحجارة بالتكبير والتسبيح والمطالبة بإعلان الجهاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.