السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | علي عبد الرحمن الحذيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أهل السنة والجماعة |
أيّها الناس، دينُ المسلم مرتبِطٌ بالأمن، مصالح الناسِ الدنيويّة أساسُها الأمن، فتبادُلُ المنافع والمصالح وانتظامُ التّجارة وتوظيف الأموال واستثمارها واتّساع العمران وفشوّ الماشية وأمان الأسفار والطرق وتزايد التنمية وانبساط الآمال في الحال والاستقبال كلّ ذلك لا يكون إلاّ مع الأمن، وضدُّ ذلك كلّه لا يكون إلا مع الخوف والفوضى.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، فتقوى ربِّكم عدّتُكم للشدائد، وذخرٌ لكم يومَ القيامة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا ولا يقبَل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصَرون.
أيّها الناس، اذكروا نعمَ الله عليكم التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، واحمدوا ربَّكم واشكروه على نعمة الإسلام الذي هو أجلّ النعم، فبه تدوم النِّعم، وتتمّ به، ويتمّ به إحسانُ الله على العباد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نعمةَ الأمن جزءٌ عظيم لا يتجزّأ من الإسلام. الأمنُ من تمام الدين، ولا يتحقَّق الإسلام إلاّ بالأمن، ولا يُعمل بشعائر الدين إلا في ظلِّ الأمن، قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
روى ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن أبي العالية قال: مكَث النبي صلى الله عليه و سلم عشر سنين خائفًا، يدعو إلى الله سرًّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفين، يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: متى يأتي علينا يومٌ نأمَن فيه ونضَع عنا السلاح؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم: "لا تلبثون إلا يسيرًا، حتى يجلسَ الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا فيه ليس معه حديدة" فأنزل الله هذه الآية.
وبيّن الله تعالى أنَّ الصلاةَ لا تكون في تمامٍ وطمأنينة إلاّ في ظلّ الأمن، قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:238، 239]، وقال تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103].
والزكاة لا تتحقّق جبايتها في الزروع والثمار وبهيمة الأنعام إلاّ مع الأمن ووجود جماعة المسلمين وإمامهم؛ لأن نوّاب الإمام هم الذين يجبون الزكاةَ في الأموال الظاهرة، ويفرّقونها في مستحقّيها، وقد قال الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [النور:56].
وصيامُ رمضان لا يكون إلا برؤيةِ هلاله، والفطرُ برؤية هلال شوّال، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، وهذا يقتضي ثبوتَ الرؤيةِ عند الإمام أو نُوّابه وتبليغَ المسلمين ليصوموا وليفطروا، ولا يتحقّقَ هذا إلا باستتباب الأمن.
والحجّ لا يتحقّق إلاّ مع الأمن، قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) [البقرة:196].
والحدود لا تُقام ولا يُؤخَذ على يدِ المفسدين المجرمين العابثين إلاّ مع تحقُّق الأمن؛ لأنّ ذلك يقتضي قوةَ ونفوذَ وليِّ الأمر على الجماعة، قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:41].
ولو تتبّع المسلم نصوصَ الكتاب والسنّة لوجَد أنّ الأمنَ جزءٌ لا يتجزَّأ ولا ينفصِل عن الإسلام، ولعلِم يقينًا بأن الأمنَ من تمام الإسلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعديّ بن حاتم رضي الله عنه حين وفد عليه:"أتعرفُ الحِيرة؟" قال له: لم أعرفها ولكن قد سمعتُ بها، قال: "فوالذي نفسي بيده، ليُتمّنّ الله هذا الأمرَ حتى تخرجَ الظعينة ـ أي: المرأة ـ من الحِيرة حتى تطوفَ بالبيت في غير جوارِ أحَد، ولتُفتَحَنَّ كنوز كِسرى بن هرمز"، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: "نعم كِسرى بن هرمز، وليُبذلَنَّ المالُ حتى لا يقبله أحَد" قال عديّ: فهذه الظعينة تخرج من الحِيرة فتطوف بالبيت في غير جِوار أحد، ولقد كنتُ فيمَن فتح كنوزَ كسرى بنِ هُرمز، والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قالها.
أيّها الناس، دينُ المسلم مرتبِطٌ بالأمن، مصالح الناسِ الدنيويّة أساسُها الأمن، فتبادُلُ المنافع والمصالح وانتظامُ التّجارة وتوظيف الأموال واستثمارها واتّساع العمران وفشوّ الماشية وأمان الأسفار والطرق وتزايد التنمية وانبساط الآمال في الحال والاستقبال كلّ ذلك لا يكون إلاّ مع الأمن، وضدُّ ذلك كلّه لا يكون إلا مع الخوف والفوضى.
وقد امتنّ الله تعالى بالأمن على أهل حَرَمه فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67].
وإنّ هذه البلادَ قد منّ الله عليها بالأمنِ والإيمان وبنعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصى، حتى صارت ـ ولله الحمد ـ مضربَ المثل في الأمن، ولكنها ابتُليت في هذه الأيامِ بشِرذمةٍ اعتنقت أفكارًا تخالف كتابَ الله وتخالف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وخرجت على جماعةِ المسلمين وإمامهم، وعصى هؤلاء الخوارجُ الله تعالى، وعصَوا رسوله صلى الله عليه و سلم، وعصَوا الإمام، وقد أُمِروا بالطاعة في قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلاّ أن يؤمَر بمعصية" رواه البخاري ومسلم.
وعصى هؤلاء الخوارج الوالدين لمن كان له والِد، وشَقّوا عصَى المسلمين، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من فارَق الجماعة شبرًا فقد خلَع رِبقة الإسلامِ من عُنُقه"رواه أبو داود.
وإنَ أعمى العَمى الضلالةُ بعد الهدى والعياذ بالله، فهؤلاء الخوارجُ قاموا بأعمالٍ شنيعة، وجمعوا بين معاصٍ وكبائر كثيرة، لا تفسَّر إلا أنها تخدِم أعداءَ الإسلام والمسلمين، وتضرّ غايةَ الضرَر الدينَ والمجتمع، فسفكوا الدمَ الحرام، واستحلّوا ما حرّم الله تعالى من دِماء المسلمين وأموالهم، واستحلّوا من رِجال الأمن ما حرّمه الله تبارك وتعالى.
ندعو الله تعالى ونتوسّل إليه بقُدرته ورحمته أن يتقبّل رجالَ الأمن الذين قُتِلوا في الشهداء، وأن يرفعَ درجاتهم في جنّات النعيم بما قدّموا لدينهم وبما خدَموا وطنَهم، وأن يُطفئ فتنةَ الخوارج المفسدين ويكُفّ شَرّهم عن الإسلام والمسلمين أبدَ الآبدين.
وإنّ ما يقوم به هؤلاء المفسدون ومَن وراءَهم لا يؤثِّر ولا يهزُّ أمنَ هذه البلادِ ولله الحمد، فالمجتمع مع ولاة أمره وعلمائه يقفون صفًّا واحدًا، ويتّخذون خندقًا واحدًا، يصدّون ويحاربون منه كلَّ فِكرٍ منحرِفٍ وكلَّ متربِّص بهذه البلاد حاقد، سواءً كان من الداخل أو من الخارج، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]، وقوله تبارك وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة:2].
وإنّنا نوصي بأن يكونَ الجميع يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا ضدَّ هذه الأعمال الإرهابية الآثمةِ لتُدفَن في مهدها، ويجب شرعًا البلاغُ عن أيِّ عملٍ من هذه الأعمال المحرّمة الآثمة بالرفع للسّلُطات، ومن لم يفعل ذلك فقد خان الله ورسولَه والمؤمنين؛ لأنّ شرَّ ذلك عامٌّ على الكافَّة.
وإنّا لندعو هؤلاء الذين تشرَّبوا هذه الأفكارَ التكفيريّة أن يرجعوا إلى الله تعالى، وأن يعودوا إلى رُشدهم، وأن لا ينجرفوا وراءَ أحدٍ في الغيِّ والضلال كائنًا من كان، وأن يُقبلوا على العلم الشرعيّ من الكتاب والسنة، وأن يسألوا أهلَ العلم عمّا يُشكل عليهم ليرشدوهم ويزيلوا عن قلوبهم هذا العمى بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأن يحذروا هذه الأعمالَ الإرهابيّة المفسدة التخريبيّة التي أُهدِرت فيها الدماء المحرّمة والأموال المعصومة، ففي الحديث: "لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلم".
وندعو هؤلاء الخارجين على جماعةِ المسلمين أن يشكروا اللهَ على نعمةِ الأمن؛ فإنّ كفرانَ النِّعَم ضامنٌ لتحوُّلها إلى ضدِّها، ولينظُروا إلى ما منّ الله به على هذه البلاد من النِّعم التي لا تُحصَى، وأن يتذكّروا مصائبَ وفتنَ الخوف والفوضى والفتنَ المظلمة المضِلَّة، وليعلموا أنّ الخروج على وليّ الأمر جامعٌ لكلّ المفاسدِ في الدين والدنيا، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ تقواه، وتقرّبوا إليه بما يرضاه.
أيّها المسلمون، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:24، 25] أي: اتّقوا أسبابَ كلِّ فتنةٍ، إذا وقع جزاؤها وعقابُها لا تختصُّ بمن ظلم.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظةً وجِلت منها القلوب وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا..
قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعة ضلالة". فتمسَّكوا بهذه الوصيّة العظيمةِ في أموركم كلِّها عباد الله.
أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقد قال صلى الله عليه و سلم: "من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا".
فصلوا وسلّوا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...