البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

الثقة بالله تعالى

العربية

المؤلف إبراهيم التميمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. مكانة الثقة بالله تعالى .
  2. معنى الثقة بالله .
  3. أهمية الثقة بالله .
  4. تلازم الإيمان بالابتلاء .
  5. عظيم ثقة الأنبياء والرسل بالله تعالى. .

اقتباس

إن الثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وحبل وصول المقربين, وسلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين.ومن تدبر آيات القرآن وجد منها آيات هي مثلُ قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون! إنها آيات لها قرعُها الشديد لانتباه التالي والسامع.

الخطبة الأولى:

الحمد لله مستحقِّ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهابُ المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميلُ العوائدِ، الجزيلُ الفوائدِ، أكرمُ مسؤول، وأعظم مأمول، علّام الغيوب مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي بعهده، الصادق في وعده، الواثق بربه, ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّدُ بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة -صلى الله عليه-، وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان وسلم تسليمًا.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمر, واتركوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر, وأعلموا أن الدنيا دار ممر وأن الآخرة هي دار المقر.

عباد الله: أمرٌ من أمور الدين ينتظم كل أعمال القلوب وأقوالها, ولا تخلو سورة من سور القرآن المجيد بدون بنائه في قلب المؤمن التالي للقرآن، عبادةٌ قلبية هي حصن السابقين, ومنتجع العابدين, ومهيع السالكين, وهي مزيجٌ من قول القلب وعمله, ولها علاقة بأقوال وأعمال القلب الأخرى، فهي ثمرة العلم بالله, ومن ثمارها حسن الظن والتوكل وبردُهَا باليقين, إنها الثقة بالله تعالى وبصدق وعده ولقائه.إذا كان الإيمان تصديقٌ خاصٌّ وإقرار؛ فالثقة بالله هي أصله وصلبه, فعلى أساسها يقوم بنيانه, وكل آيةِ إيمانٍ مهما تصرّفتْ فهي متضمنة للثقة بالله سبحانه.

الثقة بالله هي عمود التوكّل, وهي ساقُ التفويض التي يقوم عليها, فلا توكّلَ بدون ثقة, وعلى قدر الثقة تكون قوّة التوكّل, فلهذا العمل القلبي العظيم علاقة مطردة طردًا وعكسًا بالتوكل وبحسن الظن بل بالتوحيد والعبودية ذاتها, فهي لباب السكينة وبلسم الانشراح ودواء القلق.

ومعنى الثقة بالله هو: اليقين الثابت بكمال الله بصفات الجلال والجمال, وبصدق وعده, وعظيم قدرته, وإحاطة علمه بكل شيء، فإذا استقر هذا اليقين بهذه الصفة في قلب عبدٍ فلا تسل عن كبير الثقة وتمامها في هذا القلب المؤمن الواثق بربه سبحانه وبحمده.

 اعلم يا عبد الله: أن الثقة بالله هي السلك الناظم لأمور التديّن بعامّة, وهي الجدار الحافظ بإذن الله لقلب المؤمن من قواصف الشبهات وعواصف الشهوات, فهي الميدان الذي يجري فيه فؤاد المؤمن ويستن بطِوَلِه في أنحائه, ويستظلّ متنعمًا في أفيائه.

 إن الثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وحبل وصول المقربين, وسلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين.ومن تدبر آيات القرآن وجد منها آيات هي مثلُ قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون! إنها آيات لها قرعُها الشديد لانتباه التالي والسامع, ففيها إيقاظ وتنبيه وإرشاد لقِبلة التوجّه القلبي, مع بلسم سكينة لا يصفه الواصفون, ووقودٌ تام لمحرّك مركبة المهاجر لربه, وزاد وافٍ لمن حمل همّ إصلاح نفسه وأمته, فهي شاطئ أمان العُبّاد والدّعاة والعلماء والمربين.

ليس لمؤمن ولا مؤمنة غنية عن فقهها علمًا وعملًا, وكم من عامِّيٍّ لا يُؤبهُ له مدفوع بالأبواب يقف أما فتن الدنيا بثبات يبزّ به الجبال الرواسي! بينما يقع حامل أسفار العلوم تحت جناح أهونِ فتنة! ذلك لأن العلم النافع هو العلم بالله قبل العلم بشرعه, وإن اجتمعا في قلب فواهًا! لذا فلم يكن الحبر الحكيم ابن مسعود -رضي الله عنه- مبالغًا حينما قال: فيما رواه (أحمد) في الزهد: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية.

وأولى بنا قول ربنا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فإن مررت على تلك الآيات فردِّدْها وتدبرها وتفكّر فيها, ففيها نداء لروحك, وخطاب لفؤادك, وطوق نجاة لمصيرك, ومنشور فلاح لنشرك ومعادك،كثيرٌ من الناس يبدأ صلاحه فتيًّا, وتنبت أزاهير قلبه, ويفوح أرج ربيع فؤاده؛ ولكن إذا هبت رياح القيظ بابتلاء لا بد منه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله، أو ما يحب من علائق الفانية؛ ذبلت زهور الهمة, وتساقطت أوراق العزيمة, وخبا نور المحبة وضياء اليقين, أتدري لماذا؟ إنه ضعف الثقة بالله.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11]، وصاحبه ليس عن بؤسه ببعيد: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 10].

إنه الابتلاء الذي لا مفر منه لمؤمن وعلى قدر براءته من أوضاره في الدنيا تكون براءته عند عبور الصراط يوم الدين: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) [مريم: 71]، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72].

 قد يعطى الإنسان بسطة في العلم, لكن سوس حب الدنيا يأكل ثمار علمه حتى تكون معرفته جهلًا وعلمه وبالًا: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175 ، 176], فأمثاله من أهل العلم النافع تستغفر لهم الملائكة في سماواتها والحيتان في بحورها والنمل في جحوره, ويحشر يوم القيامة مع الصديقين، وهذا البائس كالكلب! فراجِعْ عِلمَكَ لا يكن مدخولًا, وحاسب خطراتك لا تكن شِراكًا لسرقة كنز قلبك, وهو العلم بالله أولًا ثم العلم بشريعته.

 ثانيًا: قف عند الآيات التي تبني في قلبك حصن الثقة بربك, وكل القرآن كذلك لمن وفقه الله لتلاوته حق التلاوة, ولكن هذا القرآن شفاء لعلل القلوب وأغراض النفوس, فيقرأ الجماعة الموضع الواحد أو يستمعوا لها فتداوي مرض شهوة هذا وتهتك شبهة ذاك وتقوّي عزم ثالث, وتزهد قلب رابع, وتعظم رجاء رغبة خامس، والآيات هي الآيات وهو من أسرار القرآن العزيز, ولا عجب, فالقرآن من كلام الله, وكلام الله من صفاته, وفضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه, فيا ليت قومي يعلمون!، ولئن كان تأثير القرآن على الجبال الصم الصلاب بالخشوع والتصدّع فأولى لقلب الإنسان أن يخشع ويحيا ويوقن، ويثق الثقة المطلقة بوعد ربه.

 إن القرآن مليء بوعود الكريم الوهاب سبحانه, وبعضها مشروط بالإيمان والعمل الصالح إجمالًا, كالوعد بالجنة والنجاة من النار, وبعضها مشروط بشروط إضافية، وإن كانت داخلة دخولًا أوليًا في الإيمان العمل الصالح ؛ كنصر الله لمن ينصره, وحفظ الله لمن يتوكل عليه, وإجابته من دعاه، بل إن الدين كلَّه مبني على وعدِ غيبٍ لم نره حسًّا, وهنا يكون محك الإيمان وبرهان التصديق ودليل التسليم, وعلى قدر الثقة بوجود الله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأفعاله تكون الثقة به وبوعده.

 ومن هنا افترقت الخليقة, فمنهم من يثق الثقة المطلقة التي لم تتزعزع ولم تضطرب مهما عصفت بها زلازل الخطوب وبلايا الفتن والرزايا وهذا مقام المرسلين, وتدبّر كلّ قصص الأنبياء بلا مثنوية تجد أن عنوان الثقة بالله وبوعده موجود باضطراد في تضاعيف أحداث القصص, ولو تأملت السلك الناظم والخيط الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فمن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقة بوعد الله ولقائه، فآدم -عليه السلام- تاب من فوره لثقته بكمال ربه وعظيم حسن ظنه به وكبير خشيته منه وجليل حيائه منه فقال مباشرة كلماته التي تلقاها من فضل ربه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]،  ونوح -عليه السلام-: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 114]، فرزقي وكفايتي وإياهم ليست عليكم بل على الله, وبنائه للسفينة في الصحراء! حتى كان مدعاة للسخرية، وما أشد وقعها على الدعاة!: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [هود: 38]؛ لكن الواثق بربه ليس كغيره ممن ينظرون إلى ظواهر الأمور دون النفاذ لبواطنها ولم يكن يلهيهم بهرجها عن حقائقها فقال:  (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود: 38 ، 39].

 وخطيب الأنبياء شعيبُ -عليه السلام- قال لقومه بعدما استهزأوا به واتهموه بالسحر وتحدّوه أن يسقط عليهم السماء إن كان صادقًا, ووصموه بالضعف وتهدّدوه بالرجم وغيره فقال وقد ملأ الله قلبه ثقة ويقينًا: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الشعراء: 188]، فكان عذابهم أسرع وأشد مما تصوّروه: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: 189].

لقد ذكر الله -عز وجل- في سورة الشعراء آية كافية لملء القلب ثقة بالله دون سواه, مهما أجلبت على الخطوب وادلهمت الحتوف, وقد قدم الله تعالى قصة موسى في هذه السورة على غيرها من القصص, وقد اشتملت على تلك الآية الفاذّة الجامعة المانعة, إنها قول موسى -عليه السلام- فيما ذكره عنه ربه, حينما خرج بقومه من فرعون وجيشه اللجب الكثيف,(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء: 60]، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61 ، 62].

 لقد نظر أصحابه للحسابات المادية الأرضية, فالبحر أمامهم قد حجزهم لعدوهم الغاضب الباطش الحاذر من خلفهم, ولكن لأنبياء الله تعالى كلمة أخرى, ولأرواحهم موردٌ لا كموارد البشر, ولقلوبهم تعلّق وثقةٌ مطلقةٌ تامة وافية بحفظ الله أوليائه ونصره دينه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة: 21]، فصرخ بها الكليم -عليه السلام- فيهم: (كَلَّا) [الشعراء: 62]، أي ليس الأمر كما ظننتم بخذلان الله لكم, وتحدثتم بكسرة حملة دين الله وفنائهم: (إن معي ربي سيهدين) [الشعراء: 62]، وفي هذا المعنى الإيماني والشعور الوجداني قمةُ مرتقى الواصلين لتمام الثقة برب العالمين سبحانه وبحمده, ولا عجب أن  زاد الله ثوابه ومكافأته بعد إنجاء قومه بإغراق عدوه وهلاكه واضمحلاله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]، وفي هذا السورة العظيمة المبيّنة لمصارع الأمم المكذبة وحفظ الله ونصره لأوليائه ورسله وأتباعهم بإحسان أتبع الله سبحانه قصة أبي الأنبياء خليل الرحمن بقصة موسى -عليهما السلام- مقدمةً على قصص نوح وهود وصالح -عليهم السلام-.

 وقد تضمّنت قصته معنًى شريفًا وعَلَمًا منيفًا في الثقة بالله -تبارك وتعالى- حينما قال مادحًا ربّه وحامدًا إلهه الحق, ومتبرئًا من الثقة بغيره: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 75 - 82]، وتأمل لحظة إلقائه في النار وتسليمه أمره لله تعالى ثقة به, فقد أخرج (البخاري) في صحيحيه عن بن عباس-رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، أما هودُ   -عليه السلام- فقد تحدى جمع الكفرة فقال بكل ثقة وتوحيد لربه القوي ذي الركن الشديد: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) [هود: 55]، لماذا هذا التحدي وما هو اللطف الذي ينتظره؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [هود: 56 ، 57].

أما رسول الهدى -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- فلا تكاد تمر على صفحة من سيرته الجليلة حتى ترى براهين الثقة برب العالمين في حاله ومقاله, قف مع قوله لصَدِيقه وصِدِّيقه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (متفق عليه)، وفي (الصحيحين) عن جابر -رضي الله عنه-: أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نجدٍ, فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه, فأدركتهم القافلة في وادٍ كثير العضاة _أي الشجرِ الكبير _ فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر, فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة ٍ فعلق بها سيفه, ونمنا نومة, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا وإذا عنده أعرابيٌّ فقال: "إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائمٌ, فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال: من يمنعك مني فقلت: الله ثلاثاً" ولم يعاقبه وجلس  (متفق عليه).

وعند ابن عساكر بسند حسنه (الألباني) عن عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يؤذينا في نادينا، وفي مسجدنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل، ائتني بمحمد، فذهبت فأتيته به، فقال: يا ابن أخي, إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم، وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره (وفي رواية: فحلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره ) إلى السماء فقال: "ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة" _ يعني الشمس _ قال: فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي, فارجعوا.

 وفي تبليغه لقريش لحين نزل قول ربه تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94]، وفي بدر حين قابل المشركين بجيش بلا عدد ولا عتاد حسّي, وفي أحد حين ثبت ثبات أحدٍ, وفي الأحزاب حين كانت يديه تعمل وقلبه معلق بربه واثق بنصره ووعده, وهو يبشر أمته بكنوز فارس والشام واليمن, وفي حنين حين صاح في الناس بكل ثقة: "أنا النبي لا كذب" وقد أدبر عنه جيشه وكاد أن يحيط به المشركون, ولكن من كان مع الله كان الله معه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- ومن تبعهم بإحسان, أما بعد: 

 فاتقوا الله عباد الله, وعليكم بالثقة التامة بالله تعالى, وبوعده ولقائه, فلا دين ولا إيمان لمن لا يثق ثقةً مطلقة برب العالمين سبحانه. 

 أيها المؤمنون: ذكر (البخاري في صحيحه) في سياق قصة الحديبية من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وفيه: "إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبةَ نصحٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا" أي استراحوا وأخذوا وقتًا كافيًا لاستعدادهم للحرب "وإن هم أبوا فوالذى نفسى بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره".

 فتأمّل يا عبد الله هذه الثقة بالله, فإنها من ناصع الأمثلة بمكان، وانظر كيف أخذها صاحبه الأول عنه, فقال في حروب المرتدين وقد خُوِّف بهم: "لأقاتلنّهم حتى تنفرد سالفتي. وتأمّل ثقتَهُ بالله في إنفاذ جيش أسامة وقد أقبلت جموع الأعراب على المدينة تريد نهبها وقد أكثر عليه كبار الصحابة أن يحبس جيش أسامة حتى يكون حامية لبيضة المسلمين في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبى الواثق بربه إلا إنفاذه, وكان الخير كله في ذلك، وتأمل حال أبي بكر حينما أتى بكل ماله صدقة لله, فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. رواه أبو داود وحسنه (الألباني).

 وتأمل حروب الرده وثقة الصحابة بربهم وموعوده؛ كذلك تأمل حال عمر منذ إسلامه, وتدبّر دعوته ربه عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر -رضي الله عنه- "قال اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك -صلى الله عليه وسلم-" (البخاري)، وفي رواية عن حفصة -رضي الله عنها- قالت: فقلت: "أنى يكون هذا؟ فقال: يأتيني به الله إذا شاء وتذكّر مواقف عليَّ وشجاعته, وعثمانَ وإنفاقه, والحسنَ وزهده في الرئاسة, والصحابةٍ في نشرهم الدين وبلائهم العظيم.

 تأمل حال الصحابة -رضوان الله عليهم- في بدر وأحد والأحزاب ومؤته والردة وغيرها, وثباتهم العظيم في تلك المواقف المزلزلة, حتى استحقوا أن يُخلّد ذكر ثنائهم في سفر الخالدين, قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[الأحزاب: 22]، نعم, هذا وعد الله ورسوله لهم حينما قال الله في سورة البقرة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].

 إن هذا الثقة الباذخة الشامخة هي التي أهّلتهم بتوفيق الله تعالى إلى أن يكونوا كما قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب: 23].

معاشر الموحدين: إن مورد عيشِ أرواح الصالحين في كل زمن الثقة بالحافظ المدبر المتصرف الصادق وعده, فثق بالله أيها الموحد الحنيف, وأبشر بألطافه التي لا يحيطها فكر ولا يقترب منها خيال!   لقد كان إمام الواثقين بربهم رسولُ الهدى -صلوات الله وسلامه عليه- يحيي زرع الثقة في قلوب أصحابه حتى إذا زلزلتهم الخطوب وجدوها أحوج ما كانوا إليها, فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: "شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها, ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون" (متفق عليه).

وتدبر قوله سبحانه: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 5]، فلا إله إلا الله! كم في هذا الوعد الصادق الكريم من تثبيت لعزائم المحبين, وربط على قلوب المجاهدين بألسنتهم وأيديهم.

 فيا ذا الجلال والإكرام املأ قلوبنا ثقة بك وإيمانًا وبرّا وإحسانًا, يا حي يا قيوم يا رب العالمين.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].