الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إنهم ألْفَوا قومَهم بعيدين عن الهدى والإيمان، مغرقين في الكفر والظلم والضلال والطغيان، فلم تأخذهم الحميَّةُ الدينيَّة، أو العاطفة الإيمانيَّة، لتكوين خلايا سريَّة، وجماعات إرهابيَّة، تعيث في الأرض قتلا للأبرياء والنساء والمدنيين، وترويعا للأطفال والشيوخ والعجزة والآمنين، ولم يستخدموا ما معهم من حقٍّ وصواب؛ لتأليب العامة وشحن صدورهم، للخروج الذي...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الإِنْسَانَ ،عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَخَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَالْقُوَى وَالْجَوَارِحَ وَالْبَنَان، وَشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَتِهِ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَصَّهُ بِالنَّهْيِ وَالأَمْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَمَنَحَهُ الْحِلْمَ وَالْحَزْمَ، وَالذِّكْرَ وَالْعِلْمَ، وَالتَّحَقُّقَ وَالْعِرْفَانَ، وَنَحَلَهُ الرِّضَى وَالْغَضَبَ، وَالتَّوَدُّدَ وَالأَدَبَ، وَالتَّذَكُّرَ وَالنِّسْيَانَ.
سُبْحَانَهُ مِنْ إلَهٍ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَعْطَى وَمَنَعَ، وَخَفَضَ وَرَفَعَ، وَأَتَمَّ الدِّينَ، وَأَعْلَنَ الْبُرْهَانَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَلا ضِدَّ وَلا نِدَّ، وَلا وَزِيرَ، وَلا أَعْوَانَ، بَلْ هُوَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصمد، الْمُنَزَّهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، فَهُوَ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، الْحَكِيمُ الدَّيَّانُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ نبينا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، خُلاصَةُ الأَكْوَانِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ عَدْنَانَ، الَّذِي أَكْمَلَ خَلْقَهُ، وَعَظَّمَ خُلُقَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، فَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَأَيَّدَهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَالْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ، وَضَاعِفْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، بِأَعْظَمِ نَعْتٍ وَأَتَمِّ تَفْخِيمٍ، بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
فَيَالَهَا مِنْ مَزِيَّةٍ سَادَ بِهَا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجَانِّ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْصَارِهِ وَأَصْهَارِهِ وَأَحْبَابِهِ، الْمُتَخَلِّقِينَ بِخُلُقِهِ بِآدَابِهِ، فِي السِّرِّ وَالإِعْلانِ، الَّذِينَ بَذَلُوا نُفُوسَهُمْ النَّفِيسَةَ فِي إظْهَارِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَجَاهَدُوا مَنْ حَادَ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَنَشَرُوا السُّنَّةَ وَالْكِتَابَ، وَأَظْهَرُوا الْفُرُوضَ وَالآدَابَ، بِأَسْلَمِ قَلْبٍ وَأَفْصَحِ لِسَانٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَالأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ" من مقدمة: [غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 5)].
لقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على قراءة سورة الكهف في ليلة الجمعة ويومها، والإكثار خلال الأسبوع من ترداد العشر آيات من أوائلها وحفظها، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ" [مسلم (809)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ؛ كُتِبَ فِي رَقٍّ، ثُمَّ جُعِلَتْ فِي طَابَعٍ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [الصحيحة (2651)].
وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ" [صحيح الترغيب (736)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ" [صحيح الترغيب (736)].
وقراءتها عاصمة من فتنة الدجال بإذن الله -تعالى؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ" [مسلم (2937)].
عند تلاوة سورة الكهف تتنزل الملائكة معهم السكينة، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ"[البخاري (5011) مسلم (795)].
وسميت بهذا الاسم؛ تخليدا لذكرى شباب مؤمنين خرجوا على عادات قومهم الباطلة، وتقاليدهم الزائفة، واعتقاداتهم الشركية، وعباداتهم الكفرية، فوفقهم الله للصدع بالحق والهدى، بعيدا عن كل غرض شخصي أو هوى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف: 13].
إنهم ألْفَوا قومَهم بعيدين عن الهدى والإيمان، مغرقين في الكفر والظلم والضلال والطغيان، فلم تأخذهم الحميَّةُ الدينيَّة، أو العاطفة الإيمانيَّة، لتكوين خلايا سريَّة، وجماعات إرهابيَّة، تعيث في الأرض قتلا للأبرياء والنساء والمدنيين، وترويعا للأطفال والشيوخ والعجزة والآمنين، ولم يستخدموا ما معهم من حقٍّ وصواب؛ لتأليب العامة وشحن صدورهم، للخروج الذي لا تُحمد عقباه، ولا تُعرف نتائجُه، وما يعقب ذلك من سفك للدماء، وقتل للأبرياء، لكنهم صدعوا بالحقِّ، ونصحوا للخلق، بالكلمة النابعة من القلب، لا باللَّكمة الناتجة عن الانقلاب، كل ذلك كان بتثبيت هذه القلوب، وتوفيق علاَّمِ الغيوب: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف: 14 - 15].
صدعوا بالحقِّ، على مسمع ومرآى من الخلق: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14].
فلم يخالفوا قومَهم لأغراض شخصيّة، أو أمورٍ وهميَّة، أو استرداد أموالٍ منهوبة، أو حقوقٍ مسلوبة، بل خالفوا قومهم؛ لأنهم اتخذوا من دون الله آلهة، لا برهان لهم عليها ولا سلطان، لأن قومهم يعبدون غير الله، ويسجدون لغير الله، ويدعون غير الله، ويتوكلون على غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويستعيذون بغير الله، ويستنصرون بغير الله، ويخافون من غير الله، ويرجون غير الله، ويذبحون لغير الله، وينذرون لغير الله.
هل هذا وأمثاله من الشركِ والكفر، ومعاندةِ رب السموات والأرض، ربِّ العالمين؛ ألا يستحق أن يقوم هؤلاء الشباب، هؤلاء الفتيان، وسط ميدان من ميادين قومهم، أو ساحة من ساحات دولتهم فيعلنوها مدويَّة: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14].
لن نعبدَ غيرَ الله، ولن نسجد لغير الله، ولن ندعوَ غير الله، ولن نتوكلَ على غير الله، ولن نستغيث بغير الله، ولن نستعيذ بغير الله، ولن نستنصرَ بغير الله، ولن نخاف من غير الله، ولن نرجوَ غيرَ الله، ولن نذبحَ لغير الله، ولن ننذرَ لغير الله، هذا هو الهدف الواضح لهؤلاء الشباب، وهذا هو سبب الاعتراض والصدع بالحق، هو أنَّ قومَهم تركوا عبادة الله و (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف: 15].
توجَّهوا إلى كهف هيأه الله -جل جلاله- لهم، بابُه لا تدخله الشمس؛ لا عند طلوعها ولا عند غروبها، وذلك حتى لا تحرقهم، ورافقهم في تلك الهجرة كلبٌ لهم، هو أهدى سبيلا من أولئك الذين كفروا بالله ورسله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) [الكهف: 17].
وعندما لم يَستمِعْ لنصحهم أحد، ولم يجدوا لدعوتهم مناصرا ولا مساندا، اجتمعوا وقرروا اعتزالَ قومهم، والتفرغَ لعبادة ربهم، فقال بعضهم لبعض: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16].
إنهم لم يدروا ولم يعلموا؛ أنهم سيكونون آيةً من آيات الله الكونية، فأبقى اللهُ ذكرَهم في كتابه الكريم يُتلا، ومَدْحَهم والثناءَ عليهم إلى يوم القيامة يُحكى ويُروى، وحُقّ لهم ذلك، ومن لم يكونوا كذلك؛ فإمَّا أنَّ ذكرَهم يرويه التاريخ بالقدح، والذمِّ والفضح، أو يطوى وينسى فلا يروى!.
وعند استيقاظهم ولأمر أراده الله -سبحانه-، جعلهم يشعرون بحاجة مُلِحَّةٍ للطعام، وحتى لا ينتبه لهم أحد، فيعدوا للابتلاء والمحن، فهم يخشون على دعوتهم وإيمانهم وعبادتهم، فيفتنوا فيعودوا إلى دين قومهم، ويفقدوا الفلاح في الدنيا والآخرة، ولم يعلموا أن القوم غير القوم، وأن الدولة غير الدولة، ففطن القوم بهم وكانوا قد سمعوا بقصة هؤلاء الفتية قبل ثلاثمائة سنة، وأنهم اختفوا عن الأنظار، فآمنوا بما آمنوا به دون أن يروهم، فرجع المشتري يبشر أصحابه؛ أصحابَ الكهف بنتائج دعوتهم، التي أثمرت بعد هذه السنين الطوال، واستبشرت المدينة، وقامت الدولة على قدم وساق لاستقبال وضيافة من كانوا سببا في إيمانهم بالله، ونجاتهم من الشرك والكفر، وعمّ الفرح كلَّ بيت، فهذا الخبر ليس كأيِّ خبر! لقد حرَّك ذوي الجاهِ والسلطان، للتوجه إلى المكان، ليستخبروا الخبر من أهلِه؛ أصحابِ الكهف، وعندما وصلوا إلى الكهف، واستكشفوا أمرهم، وقدروا على خبرهم؛ وجدوهم قد فارقوا الحياة، بعد أن فرحوا بثمار دعوتهم، ولقلَّة الداعي بينهم على علم؛ حصل تنازع على اتخاذ هذا المكان للعبادة، بحجة ذكراهم، وعدم نسيانهم، أو لا يفعلون، فاستقر الأمر من أولياء الأمر على اتخاذ هذا المكان للعبادة: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) [الكهف: 21].
وألقى الله عليهم المهابةَ والرهبة، إنهم يتحرَّكون وهم نائمون، ويقلِّبُهم ربهم: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) [الكهف: 18].
وهكذا المؤمنون الصادقون؛ شأنهم في قلوب المشركين والكافرين والمنافقين، ولو كان هؤلاء المؤمنون لا يملكون أي نوع من أنواع الأسلحة المادية: (لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الحشر: 13].
وهكذا أراد الله -جل جلاله- إرادةً كونية لا تغيير لها ولا تبديل أن يبقى هؤلاء الفتية، حتى يروا نتيجة دعوتهم الصادقة بعد مئات السنين، كيف عاشوا هذه المدة دون طعام ولا شراب؟ وكيف لم تتغير أجسادهم أو تبلى ثيابهم؟ وكيف لم يعرفوا مدة نومهم؟: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 19 - 20].
إن الأمور المهمة لا يغفلها الشرع والدين، وأما ما لا فائدة من ورائه ترجى فلا يذكر، لذا لم ينصّ على عدد هؤلاء الفتية: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 22].
واجتهد العلماء في العدد، فقالوا: سبعة وثامنهم كلبهم؛ لأنه لم يقل بعدها رجما بالغيب -والله تعالى أعلم-.
أما مدةُ لبثهم نياما، فأخبر به سبحانه جزما، فقال: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف: 25].
لكن مع هذا الجزم يجب أن نتأدب مع الله، فنقول: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26].
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
وهذا بعض ما نستفيده من قصة أصحاب الكهف:
أولا: الوصية بالشباب: عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "مرحبا بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصينا بكم -يعني طلبة الحديث-" [الصحيحة (280)].
وقال أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ: قَالَ لَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَنَحْنُ حَوْلَهُ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! قُوَّتُكُمُ اجْعَلُوهَا فِي شَبَابِكُمْ، وَنَشَاطَكَمُ فِي طَاعَةِ اللهِ، يَا مَعْشَرَ الشُّيُوخِ، حَتَّى مَتَى؟" [حلية الأولياء (4/ 87)].
وعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: "طَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنَ الشَّبَابِ أَسْهَلُ مِنْهُ مِنَ الشُّيُوخِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [يوسف: 92].
وَقَالَ يَعْقُوبُ: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف: 98)] [حلية الأولياء (5/ 196)].
وذُكِرَ عَن أبي الأَسْوَد الدَّيلي أنه قال:
إِنَّ اْلأُمُورَ إِذَا اْلأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا | دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ |
إِنَّ الشَّبَابَ لَهُمْ فِي اْلأَمْرِ بَادِرَةٌ | وَلِلشُّيُوخِ أَنَاةٌ تَقْطَعُ الْعِلَلاَ |
[الطيوريات (3/ 1103) (1023)].
ثانيا: الإيمانُ بالله -تعالى-، وعبادتُه وحده لا شريك له، والدعوةُ إليه، وتقديم الخير والنفع للناس، يجب أن يكونَ الهمَّ الأكبرَ، والشغلَ الشاغلَ للأمَّةِ عموما، والشبابِ خصوصا، لا الأغراضُ الشخصية، والأمورُ الذاتية، والقضايا الدنيوية البحتة: (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ) [هود: 29].
ثالثا: عدم التعجل في اقتطاف ثمرة الدعوة، فما علينا إلا أن نزرع الصالحات، ونغرس الحسنات، ونتوكل على الله -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف: 35].
رابعا: عدم تعريض الدعوة للعنف والقهر المادي أو المعنوي، فـ(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256].
ولا بد من استخدام الترغيب والترهيب الأخروى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29].
والدعوة ذكرى وتذكير: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل: 19].
خامسا: اعتزال أماكن الكفر والفساد إذا توجد آذان صاغية للدعوة: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) [الشعراء: 21].
فهذا خليل الله -تعالى-، قال لقومه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 48].
سادسا: لا يجوز اتخاذ المساجد على القبور، فالذين غلبوا على أمرهم هم الذين اتخذوا مكانهم مسجدا وليسوا أهل العلم والدعوة الصحيحة السليمة، فقد قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا [البخاري (435)].
عن جُنْدَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: "... أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ" [مسلم (532)].
سابعا: فيها جواز اقتناء الكلب، قال ابن عثيمين: "وفي هذا دليل على جواز اتخاذ الكلب للحراسة" [تفسير العثيمين: الكهف (ص: 35)].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ".
وفي رواية: "إِلاَّ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ" [البخاري (2322)].