الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
عباد الله: يجب أن نعرفَ أن هناك أمورًا متفِقةٌ بين المساجد الثلاثة، وأخرى مختلِفة. فالاتفاق بينها: أنها جميعا في أرض واحدة، غرب قارة آسيا، وفي وسط ما يسمى ب"الشرق الأوسط"، وتشرق عليهما شمس واحدة. والمساجد تقع غربيها مياه مالحة؛ مياه البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، على مسافة واحدة تقريبا. وأنها كلها مقدسة، بناها الأنبياء -عليهم السلام-، من طين الأرض وحجارتها. والاختلاف بينها...
الحمد لله ...
سؤال: لماذا أهل الحرمين الشريفين يعيشون في أمن وأمان ورغد من العيش؟ وأهل الأقصى يذوقون مرارة الإقصاء، والخوف والطرد والحرمان؟
الجواب في ثنايا خطبتنا اليوم.
عباد الله: يجب أن نعرفَ أن هناك أمورًا متفِقةٌ بين المساجد الثلاثة، وأخرى مختلِفة.
فالاتفاق بينها: أنها جميعا في أرض واحدة، غرب قارة آسيا، وفي وسط ما يسمى ب"الشرق الأوسط"، وتشرق عليهما شمس واحدة.
والمساجد تقع غربيها مياه مالحة؛ مياه البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، على مسافة واحدة تقريبا.
وأنها كلها مقدسة، بناها الأنبياء -عليهم السلام-، من طين الأرض وحجارتها.
والصلاة فيها مضاعفة الأجر والثواب.
ولقد ربط الله -جل جلاله- بينها، فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1].
لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه.
والاختلاف بينها: أن المسجدين في بلاد الحجاز، والأقصى في بلاد الشام، والأقصى بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاما، ولكنه اتُّخِذ قبلةً للناس قبل المسجد الحرام، وبقي قبلةً للمسلمين بضعة عشر شهرا بعد الهجرة، ثم نُسِخ هذا الحكمُ، واستقرت قبلةُ المسلمين إلى بيت الله الحرام إلى يوم القيامة.
والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في الأجر والثواب.
وفي المسجد النبوي بألف صلاة.
وفي الأقصى بمائتين وخمسين صلاة، وقيل: بخمسمائة، وهو ضعيف سندا.
والأقصى حَرَمٌ لغةً لا شرعًا، فلا يُمنع من الصيد فيه، ولا في القدس، ولا يمنع من قطع الأشجار، ولا تحرم اللقطة فيه كما في الحرم المكي، ومكة كلها حرم شرعا.
وقال القاسمي في محاسن التأويل في أول تفسير سورة الإسراء: "وقيل في خصائص "الأقصى": إنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى.
بيتٌ نَوَّهَ الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة المنـزلة.
لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب، ليتيسر فتحُه على من وعدوا به ويقرب.
وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين.
وهو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، .. . ولا تشدُّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه" انتهى.
ولم ترد لفظة: "ثالث الحرمين" في حديث، ولا عن السلف الصالح.
ووقع المسجد الأقصى تحت سيطرة الكفار ردحا من الزمان، فتسلط عليه المشركون من الرومان، وغيرهم من الكفار وعبدة الأوثان، ثم حرره المسلمون في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه-.
وفي حال التفرق الذي اعترى المسلمين؛ سلبه منهم عُبَّادُ الصليب، قريبا من قرنٍ من الزمان، حتى استنقذه منهم القائد صلاح الدين الأيوبي، بالمجاهدين المخلصين معه.
ثم وفي هذا الزمان، وفي حال الضعف المزري الذي حلَّ بالمسلمين، نتيجة بعدهم عن الدين، وارتكابِ المعاصى أو استحلالِها، واقترافِ الموبقاتِ والكبائرِ بما فيها الشركُ بالله؛ من الطوافِ حول القبور، والاستغاثةِ والاستنجادِ بالمقبور، والاعتقادِ في الحلفِ بغير الله، والتوكلِ على غير الله، وشدِّ الرحال إلى الأضرحة والمقامات والمزارات، هذا ما انتشر وفشا في نهاية الدولة التركية العثمانية، التي كانت مسيطرةً على العالم العربي والإسلامي، فاشرأبت أعناق اليهود طمعا في سكنى جزء من فلسطين، فرفض السلطان عبد الحميد.
ومع استمرار الضعف في المسلمين، الضعفِ الديني والدنيوي؛ حقَّق يهود مآربَهم، فاستولوا بدعم من العالم على أجزاءَ من فلسطين، في الثمانيةِ والأربعين، ثم على كل فلسطين، في العام سبعةٍ وستين، وما زالوا إلى اليوم يُحْكِمون قبضتهم عليه، ويمنعوننا من شد الرحال إليه، ويهجِّرون ساكنيه، ويطردون مواطنيه، ويهينون زائريه، ويغيِّرون معالمَه، ويحفرون الأنفاقَ تحته، ومن حولِه يقومون بالحفريات، ويخنقونه بالمستوطنات... ولا توجد بارقةُ أملٍ لتحريره؛ أو فكاكه وتخليصه، ما دام المسلمون على ما هم عليه؛ من تفرُّقٍ وتشتٍّتٍ وانقسام، وابتداعٍ في دين الله، وارتكابٍ للكبائر والذنوب، ووقوعٍ في الشرك بالله -سبحانه-، واقتتالٍ بين الأخ وأخيه في مشارق الأرض ومغاربها باسم الدين، ولأجلِ رفع راية الإسلام، والاستهانةِ ببيوت الله، وعدمِ الورع من سفك الدماء فيها، أو تعريضِها لذلك، وتحويلِها من بيوتِ عبادة إلى بيوتِ لعبٍ ولهوٍ وتعليقٍ للملصقات، وجعلِها مكانا للدعايات الحزبية، أو التجارية أو الانتخابية، ناهيك عن التخاصم فيها ورفع الأصوات، بعضهم ينادي بتحرير المسجد الأقصى! وهو لا يصلي في المسجد المجاور له، فالأقصى غني عن هذا وأمثاله، وغني عمن يحمل هذه الصفات.
المسجد الأقصى في حاجة ملحَّةٍ لرجال خريجي مساجد، تربَّوا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 36 - 37].
تربوا على التوحيد والإخلاص، وعلى الألفة والمحبة للمسلمين عامة، تربوا على التآلف والتوحد والوئام، تربوا على أن نكون يدا على من سوانا.
وسيأتي يوم الخلاص، وسيأتي يوم الفكاك، وسيأتي يوم النجاة، أوَ إن ذلك لكائن؟!
إي والله إنه لكائن.
متى؟!
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].
فما علينا إلاَّ إصلاح الحال، والقلوب والأقوال والأفعال.
أما المسجد الحرام، الكعبة المشرفة، فلم يسلط عليها الأعداء على مرِّ الزمان؛ لا فرس ولا حبوش ولا رومان، وإن شاء الله ولا حتى روس ولا صين، ولا ألمان ولا أمريكان.
وما كان يحدث له من تدمير عبر التاريخ؛ فعن طريق السيول والأمطار، وعندما حاول الحبوش الأحباش غزوَه وهدمَه، واصطحبوا معهم الفيل؛ سلط الله عليهم مخلوقات ضعيفة، طيرا أبابيل: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) [الفيل: 1- 5].
وهُزم أصحاب الفيل.
فالمسجد الحرام؛ الله -جل جلاله-، وعَظُمَت قدرته؛ يتولى حفظَه ومنعَه من المعتدين.
أما المسجد الأقصى، فيهيِّئُ له رجالا اصطفاهم واختارهم للمدافعة والمنافحة عنه.
ومن بعد اندحار الدولة التركية العثمانية، عن بلاد الحجاز وشبهِ الجزيرة العربية؛ تحسَّن حالُ الحرمين الشريفين، وحلَّ الأمن والأمان، وانتهى عهد قطاع الطرق، وبمجرَّد دخول الحاجِّ حدود الجزيرة؛ فلا يخاف على نفسه إلا الذئب على غنمه، وذلك بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، وطُهِّرت الجزيرة من الأصنام والأوثان، واندثرت عبادةُ المقبور، ولم يبق هناك من يستنجد بالمقبور، ونُشر التعليم الديني المصفَّى من الخزعبلات، والمؤسسُ على الثابت من الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، ونُبذَ ما خالف.
ولن تجد هناك استهانة ببيوت الله -عز وجل-، ولا سفكَ دماءٍ فيها، ولا تعريضَها لذلك، ولا تحويلَها من بيوتِ عبادة إلى بيوتِ لعب ولهوٍ وتعليقِ الملصقات، ولا جعلَها مكانا للدعايات الحزبية والانتخابية، ناهيك عن التخاصم فيها ورفع الأصوات، كل هذا مصونةٌ عنه بيوت الله عندهم.
ومع ضعفهم وقلة عدتهم وعتادهم بالنسبة للأعداء؛ فإن الله -جل جلاله- قد حفظهم ومنعهم من الاعتداءات الخارجية، وحَفِظوا بعون الله أنفسهم في الداخلية.
أما إن سألتم عن الإنفاق، ففي شتى المجالات؛ في طباعة الكتب المفيدة والنافعة، وتوزيعِ كثيرا منها بالمجان، ولا ننسى طباعةَ المصحفِ الشريف والذي يوزع دون مقابل، وفي تعليم الكتابِ والسنة ومنهجِ سلف الأمة؛ أنشئت المعاهد والجامعات، وفي المساجدِ حلقاتُ تعليم القرآن، والإنفاقُ على الدعوة والدعاة في الداخل والخارج، وعلى مساكين المسلمين وفقرائهم وأيتامهم، بل ومساعدةُ الدول الفقيرة بمئات الملايين من الدولارات، ودون أن ينتظروا جزاء من أحد ولا شكورا.
وإن سألتم عن العطاء والجود، الكرمِ اللا محدود؛ فاسألوا الحجاج والمعتمرين، خصوصا في رمضان، حيث موائد الإفطار المجانية، وتسابقُ أصحابها ليصطحبوك كلٌّ إلى مائدته، وفي فترة الحجِّ هناك العبوَّاتُ الغذائية، والقواريرُ المائيةُ، وغيرَها دون مقابل، هذا ما يحدث في الحرمين الشريفين على مستوى الحكومة، والجمعيات الخيرية والأفراد. ولا أدعي لهم العصمةَ ولا الكمال، فالكمالُ لله -جل جلاله-، والعصمةُ لرسله وأنبيائه- عليهم الصلاة والسلام-.
وفي نهاية الزمان؛ تكون نجاة الأقصى وفكاكُه من براثن الغاصبين؛ الدجالِ واليهودِ والمنافقين، على يدي عيسى بنِ مريم -عليه السلام-، الذي يقتل الدجال، ويتخلص المسلمون معه من اليهود وأعوانهم، وتُملأ الأرض عدلا، كما ملئت ظلما وجورا، ويخلِّصهم الله -سبحانه- من فتنة يأجوج ومأجوج، ويتوجَّه عيسى -عليه السلام-، حاجًّا بيت الله الحرام، ويزور المسجد النبوي ويموت هناك ويدفن بين أخيه النبي محمد -عليهما الصلاة والسلام-، وبين أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-.
ثم تقترب القيامة بهدم بيت الله الحرام، فتهدمه الحبشة، ففي مسند أحمد وغيره عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ أَبَا قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "يُبَايَعُ لِرَجُلٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلَنْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ إِلاَّ أَهْلُهُ، فَإِذَا اسْتَحَلُّوهُ؛ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ هَلَكَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأْتِي الْحَبَشَةُ؛ فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لاَ يُعْمَرُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَهُمَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ كَنْزَهُ" [الصحيحة (579)].
لن تُفَجَّرَ الكعبةُ، ولن يُنسَفَ بيتُ الله الحرام، ولن تؤثِّرَ فيه المدافعُ ولا الصواريخُ بعيدةُ المدى ولا قريبتُه، هذا ظني وهذا اعتقادي -والله أعلم-، ولكنه في آخر الزمان يُدمَّر ويُخرَّبُ بفأس، وتُهدم جدرانه بمسحاة، وتنقض حجارته بمعول، يقوم بهذا العمل المشين البغيض رجلٌ حبشيٌّ، وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "كأني أنظر إليه؛ أسود، أفحج، ينقضها حجرا حجرا" يعني الكعبة [أخرجه البخاري وأحمد والسياق له].
وفي رواية عند الشيخين وزاد: "ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله" [أخرجه أحمد، انظر: الصحيحة (6/242)].
ثم تقوم الساعة.
(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].
(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
اللهم وحد صفوف المسلمين وألف بين قلوبهم، واجعلهم يدا على من سواهم، اللهم احفظ علينا مساجدنا عامة، والمساجدَ الثلاثةَ خاصة، وزد المسجدين الشريفين وأهلَهما حفظا وأمنا وكرامة، وانتقم لنا يا مولانا ممن دنس بيوتك عامة، والمسجد الأقصى خاصة، اللهم هيئ له من يخلِّصه وأهله من براثن المغتصبين اليهود، ومن كل كافر حقود.
اللهم من أراد الحج والعمرة، وزيارة الأقصى، فيسر له أمره، وسهل له طريقه.
اللهم ويسر لنا جميعا شدَّ الرحال إلى المساجد الثلاثة في غير ضراء مضرة، ولا فتنة ومضلة.
اللهم آمين!.