الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
الهجرة خصلتان: هجرة تامة فاضلة لا يساويها ولا يوازيها شيء، وهي الهجرة من مكة وغيرها إلى المدينة، وهذه انقطعت وانتهت بفتح مكة. وهجرة دائمة مستمرة، وهي هجر المنكرات والمعاصي والسيئات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
إن هَجْرَ المكانِ الذي لا يستطيع العبدُ أداءَ شعائر الله فيه، يُعد من الواجبات الدينية، والفرائض الشرعية، فقد هاجر الأنبياء عندما تعرضوا للبلاء من أقوامهم وضيقوا عليهم في أداء رسالتهم، فإبراهم -عليه السلام- دعا قومه فلم يؤمن معه إلا زوجته سارَّة ولوط ابن أخيه، قال سبحانه عن إبراهيم الخليل: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت: 26 - 27].
ففي الهجرة كان الفرج في الدنيا والآخرة.
ولقد هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرغما من وطنه مكة المكرمة، تحت ضغط وتهديدٍ من المشركين؛ بالحبس أو النفي والإبعاد، أو القتل والإعدام، وكلُّ هذا مكرٌ ومؤامرة ضدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
ترك وطنه مكة، وعاد بعد سنوات فاتحا منتصرا، وعندما دخلها وصار بالحجون وقف عَلَى الحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ".
وفي رواية: "وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ". "وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ" سنن الترمذي (3925)، وابن ماجة (3108) مسند أحمد، ط الرسالة (31/ 10) (18715)، المشكاة (2725)، صحيح الجامع (2418)].
وهناك هجْرٌ، أي مقاطعةُ من يسيئون إلى الدعوة والدعاة، والصبرُ على أذاهم، قال جل جلاله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) [المزمل: 10].
فعلينا: أن نهجر ما نهانا الله عنه، فمن ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه، عاجلا أو آجلا ولكنكم تستعجلون.
فالمسلم في هجرة دائمة؛ هَجْرٌ للشركِ والكفر والمعاصي، والذنوب والخطايا، قال سبحانه: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر: 5].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" [صحيح البخاري (10)].
وعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟! مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ" وفي رواية: "ودمائهم" "وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ" [مسند أحمد، ط الرسالة، واللفظ له (39/ 381) (23958)، وصححه بنحوه الألباني في "تحقيق الإيمان، لابن تيمية، ص: 6)].
وقد قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما الإسلام؟!" قال: "إطعام الطعام، وطيب الكلام" قيل: "فما الإيمان؟" قال: "السماحة والصبر" قيل: "فمن أفضل المسلمين إسلاما؟" قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" قيل: "فمن أفضل المؤمنين إيمانا؟" قال: "أحسنهم خلقا" قيل: "فما أفضل الهجرة؟" قال: "من هجر ما حرم الله عليه" قيل: "أي الصلاة أفضل؟" قال: "طول القنوت" قيل: "أي الصدقة أفضل؟" قال: "جهد مقل" قيل: "أي الجهاد أفضل؟" قال: "أن تجاهد بمالك ونفسك؛ فيعقر جوادك ويراق دمك" قيل: "أي الساعات أفضل؟" قال: "جوف الليل الغابر" [صححه في "تحقيق الإيمان، لابن تيمية ص: 7)].
والعبادة الخالصة لله -تعالى- وقت الفتن والشدائد والمحن تساوي هجرة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهو القائل: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" [رَوَاهُ مُسلم (2948)].
وفي رواية عند غيره: "الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" [المعجم الكبير للطبراني (20/ 213) (492)].
ويجب علينا: أن نهجرَ الصفاتِ الذميمةَ، والأخلاقَ الرذيلةَ، فقد حذرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أمثال هذه الصفات؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَبِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَبِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا".
قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟" قال: "أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ"، قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ: "يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟" قَالَ: "أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ اللهُ، وَالْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، فَأَمَّا الْبَادِي فَإِنَّهُ يُطِيعُ إِذَا أُمِرَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَأَعْظَمُهُمَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمَا أَجْرًا" [مسند أحمد، واللفظ له، ط الرسالة (11/ 428) (6837)، رواه أبو داود مختصرا، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، صحيح الترغيب (2/ 355) (2604)، الصحيحة (1462)].
عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ! إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟" قَالَ: "نَعَمْ!" قَالَ: "فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟" قَالَ: "نَعَمْ!" قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا" [صحيح مسلم (1865)].
قال النووي: "وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الأَعْرَابِيُّ؛ مُلازَمَةُ الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَرْكُ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ، فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أن لا يَقْوَى لَهَا، وَلا يَقُومَ بِحُقُوقِهَا، وَأَنْ يَنْكُصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا لَشَدِيدٌ، وَلَكِنِ اعْمَلْ بِالْخَيْرِ فِي وَطَنِكَ، وَحَيْثُ مَا كُنْتَ، فَهُوَ يَنْفَعُكَ، ولاينقصك اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-" [شرح النووي على مسلم (13/ 9)].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" [صحيح البخاري (2783)، ومسلم (1353)].
عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [سنن أبي داود (2479) صحيح الجامع (2642)، المشكاة (2346)، الإرواء (1208)].
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِيِّ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لَهُ: "احْفَظْ رِحَالَنَا، ثُمَّ تَدْخُلُ" وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَضَى لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: "ادْخُلْ" فَدَخَلَ، فَقَالَ: "حَاجَتُكَ؟" قَالَ: "حَاجَتِي؛ تُحَدِّثُنِي: أَنْقَضَتِ الْهِجْرَةُ؟" فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حَاجَتُكَ خَيْرٌ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ" [مسند أحمد، ط الرسالة (37/ 10) (22324) واللفظ له، وسنن النسائي (4172) صحيح الجامع (1687)، الصحيحة (1674)].
إذن، فالهجرة خصلتان: هجرة تامة فاضلة لا يساويها ولا يوازيها شيء، وهي الهجرة من مكة وغيرها إلى المدينة، وهذه انقطعت وانتهت بفتح مكة.
وهجرة دائمة مستمرة، وهي هجر المنكرات والمعاصي والسيئات، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ، وَالأُخْرَى أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِع" -وفي رواية: ختم- "عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ" [المعجم الكبير للطبراني (19/ 381) (895)، قال في إرواء الغليل (5/ 33): "وهذا إسناد شامى حسن, رجاله كلهم ثقات, وفى ضمضم بن زرعة كلام يسير"].
الخطبة الثانية:
واعلموا -عباد الله- أن هجر المسلم أكثر من ثلاث ليال لغير عذر شرعي لا يجوز، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ" [سنن أبي داود (4914)، الإرواء (2029)].
وفي رواية: "مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ فِي النَّارِ؛ إِلاَّ أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ مِنْهُ بِتَوْبَةٍ" [الجامع لابن وهب، ت مصطفى أبو الخير، (ص: 370) (261)].
فكيف بمن هجر أخاه أياما وشهورا؟!
عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ" [سنن أبي داود (4915) الصحيحة (928)].
فإن كان الهجر لعذر شرعي، هجر لله -تعالى- فلا مانع، وإن طالت المدة إن كان هناك طمع في أن يصلح الحال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ، وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَيْنِ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ إِلاّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" قَالَ أَبُو دَاوُدَ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَابْنُ عُمَرَ هَجَرَ ابْنًا لَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: "إِذَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ لِلَّهِ؛ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا بِشَيْءٍ" وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَطَّى وَجْهَهُ عَنْ رَجُلٍ" [سنن أبي داود (4916)].
و "هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحييهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم" [صحيح، وهو معنى قطعة من حديث كعب بن مالك في قصة التخلف، وتوبته، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود باختصار، والترمذي وأحمد عنه، انظر: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص: 232) (409)].
إن المهاجرين مع رسول الله وإليه أجرهم عند الله عظيم، ولهم عند بهم مكانةٌ رفيعةٌ عاليةٌ، حتى من وقع في خطأٍ أو معصية فهو مغفور له بحسنات ماحية، أو دعوة مستجابة، وإليكم قصة مهاجر مات منتحرا كيف غفر الله له ذلك، فقد روى مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟" -قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ-، فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ -أي كرهوا المقام بها- فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: "مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟!" فَقَالَ: "غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟!" قَالَ: "قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ" فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ" [صحيح مسلم (116)].
قال النووي: "فِيهِ حُجَّةٌ لِقَاعِدَةٍ عظيمة لأَهْلِ السُّنَّةِ؛ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ ... وَهَذَا الْحَدِيثُ شَرْحٌ لِلأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ، الْمُوهِمُ ظَاهِرُهَا تَخْلِيدَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ عُقُوبَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ فِي يَدَيْهِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لا تَضُرُّ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-" [شرح النووي على مسلم (2/ 132)].