التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
وإننا حين نستقرئ آراء بعض حكماء البشرية في القراءة؛ فإننا سنخرج بأنها أصل كل تفوق، وأساس كل نجاح، ودعامة كل حضارة، وحرس كل دولة، وأمان لكل إنسان، سئل أحدهم عمن سيقود الجنس البشري فأجاب: "الذين يعرفون كيف يقرءون". ولا عجب فإن أول كلمة آمرة وصلت أذن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- المرشحة لقيادة البشرية هي (اقرأ)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، النبي الأمي الذي ترتشف من حياض علمه العلماء، ويستلهم من أنوار بيانه البلغاء، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته والتابعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: اتقوا الله فإنها موجبة لمحبة الله -تعالى-، (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 76]، واتقوا الله فإنما (مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: 77] واتقوا الله فإن (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 15].
أيها الإخوة المؤمنون: كلما تأملت أيام الدراسة والاختبارات خصوصًا، ورأيت الطلبة والطالبات يعكفون ليل نهار على دروسهم، يقرؤونها قراءة المتدبر المتفهم، بل ويحاولون حفظها عن ظهر قلب، حتى إنه ليتمكن أحدهم من إجراء امتحان في أكثر من مئة أو مائتين من الصفحات في يوم واحد -كلما رأيت ذلك-؛ تتجدد في نفسي فكرةٌ ملحة، مفادها أن لدى شبابنا بل وحتى أطفالنا المميزين طاقة ليست عادية يمكنهم من خلالها أن يرقوا بأنفسهم في معارج الثقافة والعلم، ولكنهم لا يستغلون هذه النعمة العظيمة إلا مجبرين أيام الاختبارات.
وما إن تدخل الإجازة إلا وتجدهم قد عادوا إلى حالة العجز والكسل إلا من رحم ربك، والسؤال: كيف يمكننا أن نحول عزوف شبابنا وأطفالنا من القراءة إلى حبٍّ لها، وإقبال عليها؟، هذا ما ستحاول هذه الخطبة وربما خطب تتلوها بمشيئة الله أن تجيب عنه.
وعودة إلى بدء الوحي، وانبثاق فجر ديننا العظيم، يطالعنا الإمام البخاري في أول أبواب صحيحه الجامع، بحديث روته عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ.. قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية؛ حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) [العلق: 1-3]، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده..." (رواه البخاري).
(اقرأ) الأمر الإلهي لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولأمته من بعده، أن تمارس القراءة باسم الرب الأعلى؛ لأن الإنسان خليفة في أرض الله وليس لائقًا بالإنسان ألا يكون قارئًا، لقد تساءل الملائكة عن استخلاف الله للإنسان في الأرض؛ لأنهم توقعوا منه الفساد فيها وسفك الدماء، فأراد الله أن يثبت لهم أفضليته عليهم، فعلّمه الأسماء، ودعاهم للإدلاء بمعلوماتهم عن الأسماء فعجزوا، وأنبأهم آدم بالأسماء، فأثبت نجاحه في المسابقة وجدارته بالخلافة في الأرض بفضل العلم، وهذا القرآن الكريم يشتق اسمه من القراءة، ليضفي عليها مزيدًا من الأهمية.
وللقراءة بمفهومها المعاصر المرتبط بالقلم والكتاب مكانة عظيمة في القرآن، الذي تحدث عن كل ما يتعلق بالكتاب من أدوات، تحدث عن القلم وما يسطرون، وعن الخط والمداد والقرطاس، (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 27].
وإن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وإننا حين نستقرئ آراء بعض حكماء البشرية في القراءة؛ فإننا سنخرج بأنها أصل كل تفوق، وأساس كل نجاح، ودعامة كل حضارة، وحرس كل دولة، وأمان لكل إنسان، سئل أحدهم عمن سيقود الجنس البشري فأجاب: "الذين يعرفون كيف يقرءون".
ولا عجب فإن أول كلمة آمرة وصلت أذن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- المرشحة لقيادة البشرية هي (اقرأ).
وحينما نلتفت إلى من تزعم البشرية في التقدم المادي الحديث، سنجد كيف اهتزت الأوساط التربوية في أمريكا عندما أطلق الروس قمرهم الصناعي الأول، وكان السؤال الكبير هو: كيف استطاع الروس أن يسبقونا في مضمار الفضاء؟!.
وبعد الدراسات المستفيضة جاء الجواب: لقد أخفقت المدرسة الأمريكية في تعليم تلامذتها القراءة الجيدة، ورفع المسؤولون عن التربية شعارًا يؤكدون فيه أن "من حق كل طفل أن تُهيأَ له جميعُ الفرص ليكون قارئًا جيدًا". واستأنفوا مسيرتهم من جديد، فوصلوا اليوم إلى ما وصلوا إليه من تقدم حتى على من تقدم عليهم في جانب من جوانب العلم.
ترى هل تساءلت أمتنا الإسلامية عن أسباب تخلفها في كل جوانب العلم غير الشرعي؟ وهل لموقف أبنائها من القراءة علاقة بهذا التخلف؟!.
أمة قال فيها العليم الحكيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، أشهد ألا إله إلا هو لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم، وفيمن استرعاكم الله على تربيتهم، فلقد اصطادت وسائل الإعلام العالمية المرئية خصوصًا، قلوب شبابنا وفتياتنا، حتى غدوا كالمحنطين أمام الشاشات الصغيرة ليلهم ونهارهم، يتقلبون بين محطات العالم من مشهد جنسي مثير، إلى لعبة فارغة، إلى أغنية ماجنة، إلى عبث وضياع، معرضين حتى عما يمكن أن تبثه تلك المحطات من دروس علمية، وبرامج نافعة.
واستمالت سبل اللهو الأخرى بقية أوقاتهم، حتى لم يعد للمكتبة نصيب من أوقاتهم، إلا ما تأخذه منهم بالقوة أيام البحوث الدراسية، والاختبارات الإجبارية.
فأين هم من سلفهم الصالح الذين كانوا لا يفضلون على مجالسة الكتب مجالسة أحد، حتى إن أحد العلماء جاءه رسول الخليفة يقول له: "أمير المؤمنين يستدعيك" فقال له: "قل له عندي قوم من الحكماء أحادثهم، فإذا فرغت منهم حضرت"، فلما عاد الرسول إلى الخليفة وأخبره الخبر، سأله: ويحك! من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟ قال: "والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عنده أحدًا"، قال: "اذهب فأحضره الساعة"، فلما حضر سأله الخليفة عنهم فأجاب:
لنا جلساء ما نمـلُّ حديثهم | أمينون مأمونون غيبًا ومشهدًا |
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى | ورأيا وتأديبًا ومجدًا وسؤددًا |
فإن قلت أمواتٌ فلم تعدُ أمرهم | وإن قلت أحياءٌ فلست مفندًا |
فعلم الخليفة أنه يشير إلى الكتب، فلم ينكر عليه تأخره.
أيها الأحبة في الله: إذا كانت القراءة بهذه الأهمية؛ فكم ساعة نقضي معها كل يوم، بل كل أسبوع عذرًا، بل كل سنة؟
إن القراءة هي الوسيلة الأجدى لمعرفة الرب -عز وجل-، والتفقه في دينه، وهي أداة الإنسان لكسب المعارف والتعلم، وهي أداة المجتمع للربط بين أفراده، وهي أداة البشرية للتعارف بين شعوبها مهما تفرقت أوطانهم، وبين أجيالها مهما تباعدت أزمانهم.
وإذا كان الكتاب هو الخزانة التي تحفظ الخبرات المتراكمة من الأجيال الماضية، فإن القراءة هي المفتاح الذي يتيح الانتفاع بهذه الخزانة، وهي الوسيلة التي تمكن الخلف مهما كان قصيرًا أن يطل من فوق كتف السلف مهما كان عملاقًا، ليشاهد كل ما شاهده السلف، وأشياء أخرى لم يدركها السلف، ولم يشاهدوها، فتتفتح لهم على قدر قراءتهم مفاتيح جديدة، يضيفونها إلى خزائن مصارفهم، ويعثرون بها على أفكارهم، فتتطور حياتهم، ويتغلبون على مشكلاتهم، ويرتفع مستواهم، ويتقدمون على من سواهم تلك هي سنة الله في المجتمعات البشرية: "من يقرأ أكثر يرتقي أكثر".
كتابي فيه بستاني وروحي | وفيه سمير نفسي والنديم |
يجالسني وكل الناس حرب | ويسليني إذا عرت الهموم |
ويحيي لي تصفح صفحتيه | كرام الناس إن فقد الكريم |
إذا اعوجت علي طريق قومي | فلي فيه طـــــريقٌ مستقيم |
يقول أحد قادة الغرب: "إن الذين يقرؤون فقط هم الأحرار؛ ذلك لأن القراءة تطرد الجهل والخرافة، وهما من ألدِّ أعداء الحرية"، ويقول آخر: "إن القراءة الواسعة العميقة الشاملة لتراث البشرية هي التي تجعل الإنسان عالميًا، يتجاوز الألوان والأجناس والألسن والتخصصات".
إن القراءة الدائمة والتهام الكتب، وإدمان التردد على المكتبات، كان ذلك دأب العلماء، وتكاد لا تجد وراءه نهما للقراءة، ينادون المكتبة بشوق عجيب، وحب غريب.
خذي قلبي وعقلي واحتويني | وغيري إن شردت لبعض حين |
رضيت أن أحيا أسيرًا | أناجي من أسرت من الفنون |
بعيدًا عنك تهرمني الثواني | وفي جنبيك تركض بي سنيني |
وما أزداد في بعدي لشأنٍ | سوى أضعاف ما بي من حنين |
على زندي ينام الليل طفلاً | ويبقى السفر يأرج في يميني |
أخي الطالب -وقد اكتشفت مهارتك في القراءة-، أخي المثقف -وقد تجاوزت مرحلة الطلب ودخلت دائرة العمل التي لا تنتهي عادة إلا بسن الشيخوخة-، أخي المسلم -مهما كنت-: إن القراءة المستمرة هي وحدها طريقك إلى التكيف مع العالم من حولك، وهي دأب جميع الأمم الحية المتطلعة إلى غدٍ أفضل، وهي ما عبر أسلافنا شعارًا رفعوه "طلب العلم من المهد إلى اللحد"، وجعلوا رحلتهم تمتد "من المحبرة إلى المقبرة"، وطبقوا ذلك إيمانًا منهم بأن "طلب العلم فريضة"،كما ورد عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
إنه مهما كان تخصص المرء أو سعة علمه إذا أهمل القراءة سوف يجد علمه يتقلص عامًا بعد عام، إن الإهمال والغفلة والإخلاد إلى اللهو وإراحة العقل من التفكير، دون أن تقدم له الزاد الذي يحفظ عليه حياته والرياضة الذهنية التي تكفل له نموه، فسوف يؤدي ذلك به إلى الضمور والضعف، وسوف يجد الأستاذ الكبير تلامذته الصغار من ذوي الهمم العالية، والشغف الشديد بالقراءة قد تقدموا عليه وأصبح هو تلميذًا صغيرًا لهم!!.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداءك الذين يمكرون الليل النهار لإطفاء نورك، وتقتيل عبادك، ومحو آثار سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وبارك لنا فيما رزقتنا، اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع ونعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة، ونعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة، والذلة والمسكنة، ونعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق والشقاق والنفاق، والسمعة والرياء، ونعوذ بك من سيء الأسقام.
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم أصلح ولي أمرنا وولاة أمور المسلمين ووفقهم لإصلاح رعاياهم وارزقهم البطانة الصالحة، التي تعينهم إذا ذكروا وتذكرهم إذا نسوا، وجنبهم بطانة السوء وارزقهم حبك وحب رعاياهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.