الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إذا كان الله -جلَّ جلالُه- نجَّى نبيَّه نوحًا -عليه السلام- من فتن قومه؛ بالإيمان والتوحيد، والدعوة والصبر والمصابرة، ونجَّاه من الغرق بصنع سفينة النجاة، المشحونةِ بالمؤمنين والمؤمنات، ومِن كلٍّ زوجين من الحيوانات، وطغى الماء، ونجت السفينة بمن فيها، واستوت على الجوديِّ. لكن! ليس كلُّ مَن ركب سفينة ينجو، فهذا نبيُّ الله يونس -عليه السلام-؛ عندما...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون، أحمدهُ سبحانه حمدَ عبدٍ نزَّه ربه عما يقول الظالمون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه وخليله الصادقُ المأمون، اللهمّ صل على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون، وسلِّمْ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حقَّ تُقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعيَ إلى دار كرامته وجناته [مقدمة خطبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب].
إذا كان الله -جلَّ جلالُه- نجَّى نبيَّه نوحًا -عليه السلام- من فتن قومه؛ بالإيمان والتوحيد، والدعوة والصبر والمصابرة، ونجَّاه من الغرق بصنع سفينة النجاة، المشحونةِ بالمؤمنين والمؤمنات، ومِن كلٍّ زوجين من الحيوانات، وطغى الماء، ونجت السفينة بمن فيها، واستوت على الجوديِّ، قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْج َيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 14 - 15].
لكن! ليس كلُّ مَن ركب سفينة ينجو، فهذا نبيُّ الله يونس -عليه السلام-؛ عندما ركب في الفلك المشحونِ المكتظِّ بالناس والمتاع، فتمايلت في لُجَجِ البحار ثِقَلا، واضطر أصحابها فأجروا القرعة للتخفيف من ركابها، فكان من حظِّ يونس -عليه السلام- أن ألقي في البحر بمتاعه، فالتقمه الحوت أياما عديدة، ثم نجَّاه الله بتوحيده، وتسبيحه لربِّه وتمجيده، قال سبحانه: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [الصافات: 139- 148].
وقد يكونُ إغراقُ سفينةٍ سببا في سلامتها ونجاة أهلها، كما ورد في القرآن الكريم في قصة موسى والخضر -عليهما السلام-: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) [الكهف: 71].
وفي هذا الخرق كانت النجاة للسفينة وأهلها، فقال الخضر: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف: 79].
فالسفن: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) [البقرة: 164] من آيات الله -تعالى-.
وقد ركبَ السفنَ والقواربَ جماعةٌ من الصالحين، منهم: الغلام الذي أراد الملك أن ينتقم منه لتوحيده وإيمانه بالله -جل جلاله-، وحاولوا إلقاءه من فوق جبل فنجاه الله: "فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ، فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ -أي سفينة- فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ؛ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ! فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ -أي ما شيا فوق الماء لا سابحا-، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟! قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ" [والحديث في صحيح مسلم].
وثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ؛ فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ، حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ؛ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا؛ وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ؛ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟! قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ؟! قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا" [صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-].
عباد الله: هل شكرنا الله -سبحانه وتعالى- على هذه النعم؟
فما تقولون -أيها الناس- فيمن يستخدم السفن للدمار والتدمير؟ أو يستخدمها لمعصية الله -سبحانه-؟ وأنتم تعلمون أنه: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يونس: 22 - 23].
إنهم هم الذين يعاندون الله -تعالى-، ويعصونه في البرِّ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
إنه الكرب والضيق والشدة تجعلهم يوحدون الله -تعالى-، ويخلصون له في الدعاء، ويشركون به في الأمن والرخاء.
يا عبد الله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان: 31 - 32].
لقد ركب مجموعة من خيار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- سفينة تقلهم من اليمن إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن قابلتهم رياحٌ معاكسةٌ، فألجأتهم إلى الحبشة، حيث التقوا هناك بالمهاجرين الأوائل؛ جعفرٍ وأصحابِه، وهذه قصتهم كما رواها البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي إلى خيبر، وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ -كان الريح هاجت عليهم، فما ملكوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة- قاله في [فتح الباري (7/190)].
فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا -أي على النبي صلى الله عليه وسلم- فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ".
وفي السفينة والقوارب؛ وصلَ الصحابيُّ تميمٌ الداري -رضي الله تعالى عنه-، ومن معه إلى الدجال ورأوه، وكلَّمهم وكلَّموه، قال تميم: "حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ" فسألهم الدجال عن أشياء، واستخبرهم عن أمور، قال تميم: "فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ؟ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا؛ هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ! قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ؟ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ؟ -لعلها عين السلطان بأريحا- قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ! هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الأُمِّيِّينَ؛ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟! قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الأَرْضِ؛ فَلا أَدَعَ قَرْيَةً إِلاَّ هَبَطْتُهَا، فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلائِكَةً يَحْرُسُونَهَا، قَالَتْ -فاطمة بنت قيس- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ-: "هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ"يَعْنِي الْمَدِينَةَ: "أَلا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟" فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ "فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ؛ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنْ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ" وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ" [رواه مسلم].
وركبت البحرَ الصحابية المجاهدة أُمُّ حَرَامٍ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ قَالَتْ: "أَتَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟!" قَالَ: "أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ، كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ" فَقُلْتُ: "ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ!" قَالَ: "فَإِنَّكِ مِنْهُمْ" قَالَتْ: "ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ" قَالَ: "أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ" قَالَ: "فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ، فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَحَمَلَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ؛ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ فَرَكِبَتْهَا، فَصَرَعَتْهَا فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا" [رواه البخاري ومسلم، فتح الباري (6/87) ح(2894، 2895)].
وذلك في جزيرة قبرس.
فرضي الله تعالى عنها، ورحمها رحمة واسعة، ورحم المجاهدين الصادقين الفاتحين.
الخطبة الثانية:
وسفينة النجاة الحقيقية؛ هي التي ضربها النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا للحفاظ على حدود الله -سبحانه-، فقد روى البخاري في (47) كِتَاب الشَّرِكَةِ (6)، باب: هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَالاسْتِهَامِ فِيهِ، بسنده عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ -أَيْ الآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ، وهو: المنكرُ للمحرَّمات والناهي عنها- وَالْوَاقِعِ فِيهَا".
وفي رواية: "وَالْمُدْهِنِ فِيهَا".
"وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرَائِي وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، وَلا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ، وَالْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ وَاحِدٌ".
كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ -أَيْ اِقْتَسَمُوا مَحَالَّهَا وَمَنَازِلَهَا بِالْقُرْعَةِ- فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ؛ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا؛ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" [ح(2493، 2686) فتح الباري (5/132)].
قال في تحفة الأحوذي: "الْمَعْنَى؛ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِنْ مَنَعَ النَّاسُ الْفَاسِقَ عَنْ الْفِسْقِ؛ نَجَا وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِنْ تَرَكُوهُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ حَلَّ بِهِمْ الْعَذَابُ وَهَلَكُوا بِشُؤْمِهِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال: 25] أَيْ بَلْ تُصِيبُكُمْ عَامَّةً بِسَبَبِ مُدَاهَنَتِكُمْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ الْمَنْهِيَّةِ وَالْمُدَارَاةِ الْمَأْمُورَةِ: أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا وَيَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ، حِفْظًا لِجَانِبِ مُرْتَكِبِهِ، أَوْ جَانِبِ غَيْرِهِ لِخَوْفٍ أَوْ طَمَعٍ، أَوْ لاسْتِحْيَاءٍ مِنْهُ، أَوْ قِلَّةِ مُبَالاةٍ فِي الدِّينِ.
وَالْمُدَارَاةُ مُوَافَقَتُهُ بِتَرْكِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَعِرْضِهِ، فَيَسْكُتُ عَنْهُ دَفْعًا لِلشَّرِّ، وَوُقُوعِ الضَّرَرِ".
قال ابن بطال: "وفيه: أنه يجب على الجار أن يصبر على شىء من الأذى لجاره؛ خوفًا مما هو أشد منه" [شرح صحيح البخاري، لابن بطال (7/13)].
أقول: إذا كان الأمر كذلك؛ فيجب من باب أولى أن يصبرَ الرجل على أذى الزوجات، ويتحملَ متاعبَ الأولاد والبنات، ويتقيَ الله -جلَّ جلالُه- في الأسرِ والعائلات.