الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
اعلموا -عباد الله- أن الكائنات في حاجة دائمة وملحة؛ للأمن والأمان، والرزق من شراب وطعام، فملأ الخالق -سبحانه- الأرض التي نعيش عليها أمنا وأرزاقا أكثر من حاجة الكائنات، فما على المخلوقات إلا السعيُ للكسب، والبحثُ عن وسائل السلام والأمن. فالأمن والرزق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
اعلموا -عباد الله- أن الكائنات في حاجة دائمة وملحة؛ للأمن والأمان، والرزق من شراب وطعام، فملأ الخالق -سبحانه- الأرض التي نعيش عليها أمنا وأرزاقا أكثر من حاجة الكائنات، فما على المخلوقات إلا السعيُ للكسب، والبحثُ عن وسائل السلام والأمن.
فالأمن والرزق نعمتان من المنعم -سبحانه-، قصرنا في حمد الله تجاههما، وتكاسلنا عن شكره نحوهما، وقد قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
أما عكس ذلك من الخوف والجوع؛ فهو ابتلاءٌ للمؤمنين، واختبارٌ للمسلمين، قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 157].
وقد يكون الخوف والجوع عقوبةً وعذابًا من الله -تعالى- للمفسدين المترفين الكافرين بنعم الله، التاركين شكرها، قال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
وإذ نذكر من نعم الله على العرب قبيل الإسلام وبعده؛ نذكر قبيلة قريش، التي اختصها الله -تعالى- بنعمتي الرزق والإطعام من الجوع، والأمنِ والأمان من الخوف: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 1- 4].
فعجبا لشأن الناس في ذلك الزمان! عجبا لأمر قريش: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67].
ومن الملاحظ: أن سورة قريش التي فيها الإطعامُ من الجوع، والأمنُ من الخوف؛ سبقتها سورة الفيل، التي فيها الحديث عن نعمة الله سبحانه بحفظ بلده الأمين، وإهلاك عدوِّه دون تدخلٍ من البشر، بل بتدخل الطير الأبابيل، التي: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل: 4 - 5].
وبعد سورة قريشٍ ذاتِ الرزقِ والأمن؛ كانت سورةُ الماعون، التي فيها الحثُ على إطعام اليتيم من رزق الله، وإعارةِ الآلات والأدوات والمواعين؛ التي هي سبب في الحصول على الأرزاق.
قال البقاعي: "رحلة الشتاء" التي يرحلونها إلى الشام.
وقال غيره: الصيف، في زمنه؛ لأنها بلاد باردة، ينالون فيها منافع الشمال, وهم آمنون من سائر العرب، لأجل عزِّهم بالحرم المكرم المعظم، ببيت الله، والناس يتخطفون من حولهم, ففعل الله -تعالى- بأصحاب الفيل ما فعل؛ ليزدادَ العربُ لهم هيبةً وتعظيماً، فتزيد في إكرامِهم لما رأت من إكرام الله -تعالى- لهم، فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم, ... وكانوا معذورين لذلك؛ لأن بلدهم لا زرعَ به ولا ضرع, فكانوا إذا ضربوا في الأرض، قالوا: نحن سكان حرمِ الله، وولاةُ بيته, فلا يعرض أحد بسوء, فلولا الرحلتان؛ لم يكن لهم مقام بمكة, ولولا الأمن بجوار البيت؛ لم يقدروا على التصرف, وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف, وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير، حتى كان فقيرُهم كغنيهم" [نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور (8/ 533)].
وقال السعدي في تفسيره: "قال كثير من المفسرين: إن الجارَّ والمجرورَ، في (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) [قريش: 1] متعلقٌ بالسورة التي قبلها -وهي سورة الفيل- أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل؛ لأجل قريش وأمنهم، واستقامةِ مصالحهم، وانتظامِ رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيفِ للشام، لأجلِ التجارةِ والمكاسب.
فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظَّم أمرَ الحرمِ وأهلِه في قلوب العرب، حتى احترموهم، ولم يعترضوا لهم في أي سفر أرادوا، ولهذا أمرهم الله بالشكر، فقال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) أي: لِيُوحِّدوه، ويُخلصوا له العبادة: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) فَرَغَدُ الرزقِ والأمنُ من المخاوف؛ من أكبر النعم الدنيوية، الموجبةِ لشكر الله -تعالى-.
فلك اللهم الحمدُ والشكرُ على نعمك الظاهرة والباطنة.
وخصَّ الله بالربوبية البيت لفضله وشرفه، وإلا فهو ربُّ كلِّ شيءٍ" ومليكُه.
وعند فقد الأمن، وانعدام الأمان؛ تحدثُ الفوضى، وينتشر الخوف، وتكثرُ الشائعات، وتشيعُ القلاقل، وتزلزلُ القلوب، فيصبحُ الطعامُ بلا رغبة، والنكاحُ بلا شهوة، والعبادةُ بلا طمأنينة، يسيطرُ على القلوب ترقُّبُ الفرج، ويحيك في الصدور الخوفُ من المجهول.
من تسبَّبَ في اضطراب أمنِ المؤمنين، وسعى في خوفِ الآمنين، ما حكمه في شريعة ربِّ العالمين، وعلى لسان سيد المرسلين؟
والجواب: إن له العذابَ الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
هذا فيمن أحب إشاعة الفاحشة، التي تسبب القلق، وتثير الفزع في الأبرياء، فكيف بمن يسعى في ذلك؟!
من تسبب في ذلك هو صاحب فتنة، ففي الحديث: "لأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" [الصحيحة (3082)].
إن من أخاف الأنصار والمهاجرين ملعون -عليه لعنة الله-، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم؛ فأخفه، وعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل" [الصحيحة (351)].
الخطبة الثانية:
إن من يروِّع الآمنين ملعون ولو مازحا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: "من أشار إلى أخيه بحديدة؛ فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه" [رواه مسلم].
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يأخذن أحدُّكم متاعَ صاحبه؛ لاعبا ولا جادا، وإن أخذ عصا صاحبِه فليردها عليه" [حم، د، ت، ك" عن السائب بن يزيد، صحيح الجامع (7578)].
ترويع المسلمين حرام، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" [صحيح الترغيب (2805)].
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير؛ فخفق رجل على راحلته، فأخذ رجل سهما من كنانته، فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يروع مسلما" [رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات، صحيح الترغيب (2806)].
وعن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله، يقول: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا" [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن غريب" صحيح الترغيب (2808)].
فكيف ما يحدث في هذا الزمان، والناس في أمن وأمان؛ وإذا بالأمر يتغير فجأة وتحدث الفتن، ويضطرب الناس، فيخرب العامر، ويخوف الآمن، ويتهم البريء، ويتدخل الأعداء، ويتنفسون الصعداء، ويساعدهم في ذلك كثير من العامة والدهماء، أجسامهم أجسام البغال وأحلامهم أحلام العصافير.
فهل جاء الوقت لحصار مصر؟ وهل آن الأوان لتمزيقها دويلات، على أيدي أبنائها، وبتخطيط من أعدائها؟! والناس في غفلة عن هذا معرضون؟
عن أبي ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَاخْرُجْ مِنْهَا" قَالَ: فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ يَتَنَازَعَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَخَرَجَ مِنْهَا" [صحيح مسلم].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّأْمُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ"، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ" [صحيح مسلم].