الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
"خطبنا عمر بالجابية" خطبة عمر هذه مشهورة، خطبها بالجابية؛ وهي قرية بدمشق، فقال -أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم" أي أهل القرن الثاني، وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" أي أتباع للتابعين. فهل أدينا وصية رسول الله في أصحابه وأتباعهم؟ أين نحن اليوم من موالاتهم ومحبتهم، وأين نحن من الدفاع عن أعراضهم؟ إن كثيرا من...
الخطبة الأولى:
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِينَا، فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ، أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ؛ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ؛ فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ" ["حم، ت، ك" عن عمر (2546) في صحيح الجامع].
"خطبنا عمر بالجابية" خطبة عمر هذه مشهورة، خطبها بالجابية؛ وهي قرية بدمشق، فقال -أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم" أي أهل القرن الثاني، وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" أي أتباع للتابعين.
فهل أدينا وصية رسول الله في أصحابه وأتباعهم؟ أين نحن اليوم من موالاتهم ومحبتهم، وأين نحن من الدفاع عن أعراضهم؟
إن كثيرا من الفضائيات وكثيرا من عموم وسائل الإعلام من ينتهكون أعراضهم، ويسبونهم ويشتمونهم ويلعنونهم، ويحطون من أقدارهم، يلعنون من؟ ويشتمون من؟!
يسبون ويلعنون من حملوا لنا هذا الدين، وأدوا إلينا هذه الأمانة كما هي.
يشتمون وينتهكون أعراض من فتحوا لنا البلاد فضيعناها، وأدالوا لنا الدول، وأدخلوا بفضل الله -تعالى- العباد في دين الله أفواجا.
يسبون من كان سببا في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وسببا في الهداية من الضلال، وسببا في الفوز بالجنان، ورضا الرحمن.
إن الهدف من سبِّهم ولعنهم؛ هو هدم هذا الدين الصافي، وهذا المعتقدِ السليمِ، وهذه الشريعةِ الغراء، فالطعنُ في الدين لا يُتَوصّل إليه إلا بالطعن في حَمَلَتِه ونَقَلَتِه، وأهلِه ورجاله، فالطاعنون والشاتمون لم يجدوا ما يعتمدون عليه إلا الكذب على الله ورسوله، فاستحلوه واتخذوه دينا، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ثم" بعد ذلك "يفشو الكذب" أي ينتشر بين الناس بغير نكير.
وصدق رسول الله، فشا الكذب وانتشر، وصدق الكاذب، وكذب الصادق، وصار للكذب أجهزة وإعلاما، وأرصدة تنفق في سبيله بالملايين، والسماعون للكذب، والمصدقون به بالملايين.
"حتى يحلف الرجل" تبرعا "ولا يستحلف" أي لا يطلب منه الحلف لجرأته على الله، حتى يُصَدَّقَ ما أَخبَر به، ولا يُرَدَّ ما قاله؛ يؤكِّدُ ذلك بالأيمان، ويقسمُ على كلامه الكاذب وأقواله الضالة، ويتبرَّعُ أيضا بالشهادة ولو زورا.
"ويشهد الشاهد ولا يُستشهد" أي لا يطلب منه الشهادة، يجعل ذلك منصوبة لشئ يتوقعه من حطام الدنيا.
قال ابن العربي: "وقد وجدنا وقوع ذلك في القرن الثاني؛ لكنه قليل، ثم زاد في الثالث، ثم كثر في الرابع.
وقوله: "يحلف ولا يستحلف" إشارة إلى قلة الثقة بمجرد الخبر، لغلبة التهمة، حتى يؤكِّدَ خبرَه باليمين".
وقوله: "يشهد ولا يستشهد" أي يبديها من قِبَل نفسه زورا.
وفي معمعة الطعن في الصحابة، والقرون المفضلة، والأيمان الفاجرة، والشهادات المزوَّرة؛ حُذِّرْنا من شيء قد وقع، ألا وهو اختلاط الرجال بالنساء، والخلوةُ بهن، فقال صلى الله عليه وسلم محذرا: "ألا لا يخلون رجل بامرأة" أي أجنبية "إلا كان الشيطان ثالثهما" بالوسوسة، وتهييج الشهوة، ورفع الحياء، وتسويل المعصية، حتى يجمعَ بينهما بالجماع، أو فيما دونه من مقدماته، التي توشك أن توقع فيه، والنهيُ للتحريم.
وانتشرت فتاوى لاستحلال الخلوة بأن يرضع الزميل زميلته في المكتب! وكم وقع لهذه المخالفات من جرائمَ وانتهاكٍ للأعراض، وسفك للدماء، وأبناء زنا، وانتشار للأمراض، مما أحل على الناس غضب الجبار، وتسليط أعدائه، وسطوة انتقامه، ولا مخرج من ذلك إلا باتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والالتفاف حول ولاة أمور المسلمين من الأمراء والعلماء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وعليكم بالجماعة" أي أركان الدين، والسوادِ الأعظم؛ من أهل السنة، أي الزَموا هديهم، فيجب اتباعُ ما هم عليه من العقائدِ والقواعد، وأحكامِ الدين، قال ابن حجر: "أهل الجهل ليسوا عدولا، وكذلك أهل البدع، فعُرف أن المراد بالوصف المذكور في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] أهلُ السنة والجماعة؛ وهم أهل العلم الشرعي، ومن سواهم ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية، لا حقيقية.
وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها؛ ما أخرجه الترمذي من حديث الحارث بن الحارث الأشعري .. وفيه: "وأنا آمركم بخمس، أمرني الله بهن: السمعُ والطاعةُ، والجهادُ والهجرةُ والجماعة، فان من فارق الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه".
وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فان الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".
وفيه: "ومن أراد بحبوحة الجنة؛ فليلزم الجماعة".
وقال ابن بطال: مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة، لقوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].
وشرْطُ قبول الشهادة؛ العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: (وَسَطًا).
والوسط: العدل.
والمراد بالجماعة؛ أهلُ الحلِّ والعقد من كل عصر.
وقال الكرماني: "مقتضى الأمرِ بلزومِ الجماعةِ أنه يلزمُ المكلفَ متابعةُ ما أجمعَ عليه المجتهدون، وهم المراد بقوله: وهم أهل العلم".
"وعليكم بالجماعة" قال ابن جرير: "وإن كان الإمام في غيرهم، وعُلِم منه أن الأمة إذا أجمعت على شئ؛ لم يجز خلافُها" أي وإن كان الإمام على غير سنَّة وأجمعت عليه الأمة لم يجز الخروج عليه، وحذرنا من الافتراق، فقال: "وإياكم والفرقة" أي احذروا الانفصالَ عنها، ومفارقتَهم ما أمكن.
فالفرقة لا يستفيد منها إلا عدونا، وتغضب ربَّنا، وتضعف أمرنا، وتشتت شملنا، وتجعلنا لقمة سائغة لأعدائنا عامة، ولعدونا الشيطان خاصة، قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".
الخطبة الثانية:
إن الجنة غالية وليست برخيصة، وإنها درجات، ولها ثمن، فلا يصل إليها أو إلى أوساطها وسعتها إلا من دفع الثمن، قال صلى الله عليه وسلم: "من أراد بُحْبُوحَة الجنة" أي من أراد أن يسكن وسطها، وأخصبَها وأحسنَها، وأوسعَها مكانًا "فليلزم الجماعة" فإن من شذَّ انفرد بمذهبه عن مذاهب الأمة، فقد خرج عن الحق؛ لأن الحق لا يخرج عن جماعتها.
فقد خرجت الخوارج والشيعة عن جماعة علي -رضي الله تعالى عنه-، وخرجت الجهمية والمعتزلة والقدرية عن جماعة المسلمين أهل السنة والجماعة.
"عليكم بالجماعة" أي المنتظمة بنصب الإمامة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات؛ مات ميتة جاهلية".. الحديث.
روى الشيخان عن حذيفة، في أثناء حديث: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
قال الحافظ: قوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" أي أميرهم.
زاد في رواية: "تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك".
وكذا في رواية: "فإن رأيت خليفة فالزمه؛ وإن ضَرب ظهرَك، فإن لم يكن خليفة فالهرب".
وقال الطبري: والصواب -أي من أقوال العلماء- أن المراد من الخبر لزوم الجماعة، الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة.
قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام؛ فافترق الناس أحزابا، فلا يتبعْ أحدا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك، خشية من الوقوع في الشر.
وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها. انتهى.
فالإنسان الذي يحاسب نفسه، ويتهمها بالتقصير، ويبحث عما فيها من خير فيفرح به وينميه، وما في من شر فيُسيئُه ويحزن منه، ويخاف ربه، ويطمع في ثوابه هذا هو المؤمن، قال صلى الله عليه وسلم: "من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلكم المؤمن" أي الكامل؛ لأنه لا أحد يفعل ذلك إلا لعلمه بأن له ربًّا على حسناتِه مثيبًا، وسيئاتِه مجازيًا، ومن كان كذلك؛ فهو لتوحيد الله مخلصا.
قال ابن جرير: "وفيه تكذيبُ المعتزلةِ في إخراجهم أهلَ الكبائرِ من الإيمان، فإنه سمَّى أهلَ الإساءة مؤمنين، وإبطالٌ لقول الخوارج: هم كافرون وإن أقروا بالإسلام".
أي الكامل؛ لأن المنافق حيث لا يؤمن بيوم القيامة، استوت عنده الحسنة والسيئة، وقد قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت: 34].
قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 33 - 36].