الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
الركوع والسجود من خصائص الألوهية، فلا يصرفان إلا لله تعالى؛ ولذا نهي عن الانحناء حال التحية كما يفعله كثير من الأعاجم للكبراء والرؤساء؛ وذلك لما فيه من مشابهة الركوع، والركوع لا يكون إلا لله تعالى.
الحمد لله رب العالمين؛ هدانا إلى الصراط المستقيم، وشرع لنا الدين الحنيف، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الغني الحميد، الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم تعظيما له، صلى ذات ليلة فبكى فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبدا شكورا"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، وأخلصوا له دينكم، واقدروه حق قدره، واعبدوه حق عبادته (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21 ].
أيها الناس: الدنيا ملهاة للعباد، وزخارفها تصدهم عن ذكر الله تعالى، وتنسيهم الدار الأخرى، ومع شدة الاغترار بها وزخارفها يحتاج العباد إلى ما يذكرهم حقوق ربهم عليهم، وينبههم حال غفلتهم، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم الصلوات، وفرضها عليهم خمس مرات في اليوم والليلة، تقربهم من ربهم، وتذكرهم آخرتهم .. تنشرح بها صدورهم، وتخفف همومهم وغمومهم. وإنها والله لمن أعظم النعم لمن هدي إليها، وواظب عليها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " لما كان العبد خارج الصلاة مهملا جوارحه، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أُمر بالعبودية والإقبال بجميع جوارحه على ربه ...واقفا بين يديه، مقبلا بكله عليه، معرضا عمن سواه، متنصلا من إعراضه عنه، وجنايته على حقه، ولما كان هذا طبعه ودأبه أُمر أن يجدد هذا الركوع إليه، والإقبال عليه، وقتا بعد وقت؛ لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية، وكانت الصلاة من أعظم نعم الله تعالى عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه.اهـ
والصلاة شأنها عند الله تعالى عظيم، ومقامها في الإسلام كبير؛ فهي عمود الإسلام، وهي آخر ما يفقد منه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها.
هي دليل محبة الله تعالى ورجائه وخوفه، وهي أكثر المقامات ذلا لله تعالى، في تكرارها، وفي أقوالها وأفعالها، وفي هيئة المصلي فيها.
وأبين المواضع فيها ذلا لله تعالى:الركوع والسجود، وهما ركنان من أركانها لا تصح الصلاة بدونهما؛ لأمر الله تعالى بهما (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج:77 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعلمه الصلاة "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" وقال له في السجود: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" رواه الشيخان.
إن الركوع والسجود عملان جليلان يستسلم بهما المصلي لربه، ويثبت أنه عبده، ويعلن كامل ذله، منزها ربه عن كل ذل ونقص، مقرا له بالكمال والعز، فما أروع هيئة المصلي حين يراغم الشيطان المستكبر بالتذلل لله تعالى فعلا وقولا.
والكفار قد استكبروا عن عبادة الله تعالى، وامتنعوا عن الركوع والسجود له سبحانه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) [المرسلات:48] ولذلك يعذبون.
والركوع انحناء يقصد به التعبد لله تعالى وتعظيمه وإجلاله، يسوي فيه المصلي ظهره، وقد حكت عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك" رواه مسلم.
وفي حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود" صححه الترمذي وابن حبان.
ولا يتأتى للمصلي أن يقيم صلبه في هذين الركنين العظيمين إلا بالطمأنينة في صلاته. وفي حديث أَنَسٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ" متفق عليه .
وحري بالمصلي إذا ركع أن يفهم معنى الركوع، وأن يستحضر مقامه، وليعلم أنه ما ركع إلا خضوعا لله تعالى، موقنا بأن الله تعالى مطلع عليه، قد رضي منه هذا الخضوع له، ولا يكون ركوعه مجرد حركة يؤديها في صلاته.
ومن تأمل أذكار الركوع علم مكانته من الصلاة، فالراكع يسبح الله تعالى، ويصفه بالعظمة، فيقول: سبحان ربي العظيم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته.
ولما نزل قول الله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ) [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: " اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى:1] قال: "اجعلوها في سجودكم" رواه أبو داود.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: " سبوح قدوس رب الملائكة والروح" رواه مسلم.
والمصلي يناجي ربه في ركوعه مقرا بربوبيته، معلنا إيمانه به، مثبتا خشوع جوارحه كلها لربه جل وعلا، كما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: " اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" رواه مسلم.
والراكع وهو يستشعر عظمة من يركع له، يعلن ذله له، ويقر بفقره إليه، فيحني ظهره، ويخفض جبهته، متفكرا في عظمته سبحانه وفي كبريائه وسلطانه وملكوته وجبروته، وقد جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" رواه أبو داود.
والراكع يستحضر حال ركوعه ذنوبه وخطاياه، وتقصيره في طاعة مولاه فيسبحه ويسأله المغفرة، ويقول كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" رواه الشيخان.
والملاحظ أن الصفة المشتركة بين هذه الأذكار العظيمة هي صفة التسبيح، فقد جاء التسبيح فيها كلها. والتسبيح هو تنزيه الله تعالى عن أي نقص، وإثبات الكمال له سبحانه وتعالى، والراكع يؤكد هذا المعنى بإضافة صفة العظمة إليه سبحانه بعد تنزيهه عن النقص ( سبحان ربي العظيم) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل" رواه مسلم.
والراكع قد جمع بركوعه وذكره فيه بين التعظيم الفعلي بانحنائه، وبين التعظيم القولي بتسبيحه وذكره.
وإذا كان هذا شأن الركوع فإن شأن السجود أعظم، وهو أبلغ في الذل لله تعالى، وما الركوع إلا بمثابة التهيؤ للسجود، والمقدمة بين يديه، والتوطئة له، وقد فعل السجود تعبدا لله تعالى أشرف الخلق وأكرمهم عند الله تعالى من الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف:206].
وجاء الأمر بالسجود لله تعالى في كثير من آيات السجدات في كتاب الله تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصِّلت:37].
وأما الكفار فكما استنكفوا عن الركوع لله تعالى فهم كذلك يستكبرون عن السجود له سبحانه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) [الفرقان:60] .
والسجود في الصلاة ركن من أركانها، يجب أن يمكن المصلي أعضاءه السبعة من الأرض ؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- وأشار بيده على أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين" متفق عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده لا يتقي الأرض بوجهه قصدا، بل إذا اتفق له ذلك فعله؛ ولذلك سجد في الماء والطين.
إن أشرف شيء في الإنسان وجهه، ولذا كانت العرب إذا أهانت أحدا قبحت وجهه، وإذا أرادوا النكاية بشخص جدعوا أنفه؛ مبالغة في إهانته وتحقيره، وفي وعيد الله تعالى لمن كذب بآياته (سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ) [القلم:16] أي: على وجهه أو أنفه، وأشق شيء على الإنسان أن يوسم في وجهه؛ لأنه عنوان كرامته، وبه يستقبل الناس، وهو أول ما ينظر إليه، والمصلي حين يهوي بجسده على الأرض فإنه يمرغ فيها أكرم شيء عليه وهو وجهه؛ ذلا لله تعالى وتعظيما وإجلالا، ويضع جبهته وأنفه موضع الأقدام، فأي شرف يستحقه المسلم وهو يفعل ذلك في صلاته؟!
ومع كون السجود سفولا بالعبد إلى الأرض، وبعدا عن التعالي والسمو، والرب جل جلاله مستو على عرشه، متعال على خلقه، منزه عن السفول، مع ذلك كله فإن العبد حال سجوده أقرب إلى ربه من حاله في قيامه أو قعوده أو ركوعه، وما كان ذلك إلا إكراما من الله تعالى لمن عبده، فوضع أكرم شيء فيه وهو وجهه موضع الأقدام؛ ذلا له سبحانه وتعظيما وإجلالا. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء".
إن سجود العبد لله تعالى باب عريض من أبواب الذل والعبودية لله تعالى، ينتج عنه استجابة الدعاء؛ لأن الرب الكريم إذا رأى ذل عبده بين يديه، وافتقاره إليه، مع سؤاله وإلحاحه عليه لا يرده خائبا؛ ولذا كان الدعاء أرجى إجابة في حال السجود من أي حال أخرى، وأمر المصلي بالإكثار فيه من الدعاء، ونهي عن قراءة القرآن حال ركوعه وحال سجوده؛ لأنهما موضعا ذل وسفول، والقرآن أشرف الكلام، فلا يناسب أن يقرأ في تلك الحال، بل المناسب تنزيه الله تعالى وتعظيمه ودعاؤه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" رواه مسلم.
وناسب في أذكار السجود أن يقرن الساجد بين تنزيه الله تعالى وبين إقراره بعلوه فيقول: سبحان ربي الأعلى، مستحضرا علو الله تعالى، وأنه سبحانه عليٌ بذاته، وعليٌ بأسمائه وصفاته، وأنه جل في علاه أعلى من كل شيء.
وينبغي للعبد أن يتذكر حال سجوده ذله بين يدي ربه، وحاجته وفقره إليه، وهو ما تطامن بجسده، ومرغ في الأرض وجهه إلا إقرارا بذله، وعلو ربه، فليكن كذلك في قلبه كما أداه بجسده.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " لما كان السجود غاية سفول العبد وخضوعه سبح اسم ربه الأعلى فهو سبحانه الأعلى، والعبد الأسفل، كما أنه الرب، والعبد العبد وهو الغنى، والعبد الفقير، وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمَّلها قرب العبد إليه؛ لأنه سبحانه برٌ جواد محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه كان أغنى وكلما عظم ذله له كان أعز؛ فإن النفس لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها تبعد عن الله تعالى حتى تصير ملعونة بعيدة من الرحمة، واللعنة هي البعد ومن أعظم ذنوبها إرادة العلو في الأرض، والسجود فيه غاية سفولها".اهـ
ومن عظيم أمر السجود أنه أشرف ركن في الصلاة، وتذكر الصلاة به، وكثير من النصوص التي يذكر فيها السجود إنما يراد بها الصلاة، فجعل لشرفه علامة عليها، ولما قال ربيعة الأسلمي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم:أسألك مرافقتك في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" رواه مسلم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منه، وعده أفضل الأعمال؛ كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أنه سـأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله فقال صلى الله عليه وسلم: "عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" رواه مسلم.
ومن شرف السجود عند الله تعالى أن المعذبين في النار من عصاة المؤمنين تحفظ مواضع سجودهم فلا ينالها العذاب، وإذا انتهت فترة عذابهم، وأراد الملائكة إخراجهم من النار إلى الجنة يعرفونهم بأعضاء سجودهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يُخْرِجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيُخرجون من النار، فكلُ ابنِ آدم تأكله النار إلا أثر السجود" متفق عليه.
وأكثر شيء يحزن الشيطان، ويذكره بشقائه وعذابه: أن يرى ابن آدم يسجد لله تعالى، فيظل يبكي حسرة على ما فاته من طاعة الله تعالى، وما سبقه به المؤمنون من بني آدم من سجودهم لله عز وجل؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلي، أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9] .
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه.
أيها المسلمون: الركوع والسجود من خصائص الألوهية، فلا يصرفان إلا لله تعالى؛ ولذا نهي عن الانحناء حال التحية كما يفعله كثير من الأعاجم للكبراء والرؤساء؛ وذلك لما فيه من مشابهة الركوع، والركوع لا يكون إلا لله تعالى، وقد روى الترمذي وحسنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا"، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: " لا "، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: "نعم ".
قال ابن علان رحمه الله تعالى: "من البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع، أما إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حد الركوع قاصداً به تعظيم ذلك المخلوق كما يعظم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن صاحبه يرتد عن الإسلام، ويكون كافراً بذلك، كما لو سجد لذلك المخلوق".
وأما السجود فأشد من الركوع؛ لأنه أقصى مراتب العبادة، ونهاية التعظيم، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها، فكان لا بد من تخصيصه بالله عز وجل، والنهي عن السجود لغيره، وقد كان تحية في بعض الشرائع السابقة كما في سجود إخوة يوسف عليه السلام له، لكنه مُنِع في شريعتنا التي أكملها لنا ربنا، وختم بها الشرائع.
روى قيس بن سعد رضي الله عنه فقال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: " أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق" رواه أبو داود.
وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" رواه ابن ماجه.
إن الركوع والسجود لله تعالى نعمتان عظيمتان أنعم الله تعالى بهما على عباده المؤمنين؛ تعبدا له، وقربا منه، وهذه النعمة العظيمة قد حرمها إبليس باستكباره وعلوه، وهو يبكي لأجلها، وقد حرمها كثير من البشر بسبب استكبارهم أو جهلهم، وحقيق على من هداه الله تعالى للإسلام أن يشكر نعمة الله تعالى، وأن يحافظ على الصلوات المفروضة؛ ليكون من الراكعين الساجدين الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وليلحق بركب السابقين الأفاضل من هذه الأمة المباركة الذين وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح:29] .
ومن كان قادرا من المسلمين على الركوع والسجود فليقدر هذه النعمة حق قدرها، وليعرف فضل الله تعالى عليه إذ هداه وعافاه فأقدره عليهما؛ فإن القدرة علىهما من أعظم النعم التي يغفل عنها كثير من الناس، قال مسروق رحمه الله تعالى: " ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب وما آسى على شيء إلا السجود لله تعالى" يقول مسروق ذلك لأنه رحمه الله تعالى قد حُرِم السجود إلا إيماءً حين شُلَّت يده في القادسية، وأصابته آمةٌ في رأسه.
وكم في المسلمين من عاجز عن الركوع والسجود لعلة أصابته قد عرف قدر هذه النعمة بعد أن حرمها، وود لو ركع لله تعالى، وتمنى أن يعفر وجهه في الأرض تعبدا لله تعالى، وذلا وتعظيما.
وحسب من عجز عن ذلك من المسلمين أن الله تعالى مطلع على قلبه، عالم بأمنيته، وأن إيماءه للركوع والسجود يكفيه ما دام عاجزا، ويقبله سبحانه منه كما لو ركع وسجد حقيقة؛ وذلك من تخفيف الله تعالى على عباده، ورحمته بهم (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78].
فأقيموا لله تعالى - أيها المسلمون - دينكم، واحنوا له جباهكم، وعفروا له وجوهكم، ولتركع قلوبكم ولتسجد مع ركوع أبدانكم وسجودها؛ فإن ركوع القلب لله تعالى وسجوده له تذللا ومحبة ورجاء أهم وأولى من ركوع الأبدان وسجودها، بل ما شرع ركوع الأبدان وسجودها إلا لتركع القلوب وتسجد لخالقها ومدبرها.
ومن صلى لله تعالى وركع وسجد وهو مستشعر لهذه المعاني العظيمة وجد لذة في ركوعه وسجوده، ونهته صلاته عن المحرمات؛ لأن الله تعالى يقول (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) [العنكبوت:45] وهي الصلاة التي يركع فيها القلب ويسجد مع ركوع البدن وسجوده.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...