المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
عبد الله: الدنيا وما فيها لا تستحقُّ أن ترتكبَ فيها ذنبًا، أو تعصيَ فيها ربَّك -سبحانه-، وتخالفَ نبيَّك محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فازهدْ فيها كما زهد فيها من سبقك، وكنْ على يقينٍ بما وعدك ربُّك كما كانوا، فالنجاة بالزهد واليقين، والهلاك بالبخل، وطول الأمل. فلا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
ألا واعلموا -عباد الله- أن النجاة كل النجاة من غضب الله وعذابه، باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، -وَكَانَ، مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ- قَالَ: "كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ" قَالَ: "فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَسِيرٍ، فَوَقَفَ عَلَى مَجْلِسِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ" قَالَ سَلَمَةُ: "وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ، مُضْطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي، فَذَكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ، وَالْمِيزَانَ، وَالْجَنَّةَ، وَالنَّارَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ، أَصْحَابِ أَوْثَانٍ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ" فَقَالُوا لَهُ: "وَيْحَكَ يَا فُلَانُ! تَرَى هَذَا كَائِنًا؟ إِنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ" قَالَ: "نَعَمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، لَوَدَّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ فِي الدُّنْيَا، يُحَمُّونَهُ ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فَيُطْبَقُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا" قَالُوا لَهُ: "وَيْحَكَ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟" قَالَ: "نَبِيٌّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ" -وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ، وَالْيَمَنِ- قَالُوا: "وَمَتَى تَرَاهُ؟" قَالَ: "فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا" فَقَالَ: "إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ" قَالَ سَلَمَةُ: "فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى "بَعَثَ اللَّهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا" فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا" فَقُلْنَا: "وَيْلَكَ يَا فُلَانُ! أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ: لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟!" قَالَ: "بَلَى" وَلَيْسَ بِهِ" [أحمد (25/ 164، رقم 15841) صحيح السيرة النبوية (ص: 58)].
والنجاة لها أسبابها: أن تعملوا ببعض ما تعلموا، فـقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه -رضي الله تعالى عنهم-: "إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ عُلَمَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا يَعْرِفُ هَوَى -أَوْ قَالَ: هَلَكَ وَيَأْتِي من بعدكم زَمَانٌ كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ قَلِيلٌ عُلَمَاؤُهُ، مَنْ استمسك فِيهِ بِعُشْرِ مَا يَعْرف نَجَا" [الصحيحة (2510)].
ومن هذه الأعمال: المحافظة على الصلاة في وقتها، ففيها النجاة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ: ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَقَالَ: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ، وَلَا بُرْهَانٌ، وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ" [أحمد (11/ 141، رقم 6576)].
وعند كثرة الكلام، والخوض فيما لا فائدة فيه، هناك "مَنْ صَمَتَ نَجَا" [الترمذي (2501)، انظر: الصحيحة (536)].
ووقع اللسان في الفتن أشدُّ فَتْكًا من وقع السنان، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" [الترمذي (2406)، الصحيحة (890)].
إن للدولة هيبتَها، وللإمارةِ صولتَها، وللوزارة جولتَها، فالظلم متوقَّع من أهلها، فجنِّب نفسَك -يا عبدَ الله- أن تتعرض لجبروت السلاطين، وانجُ بنفسك من ظلم الملوك، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُ يُصِيبُ مِنْ أُمَّتِي آخِرَ الزَّمَانِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ شَدَائِدُ، لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللهِ فَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ أَحَبَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ يَنْجُو عَلَى إِبْطَائِهِ كُلِّهِ" [شعب الإيمان (10/ 71، رقم 7181)].
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أمراء آخر الزمان، فقال: "سَيَكُونُ أُمَرَاءٌ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ نابذَهُمْ نَجَا، وَمَنِ اعْتَزَلَهُمْ سَلِمَ، وَمَنْ خالَطَهُمْ هَلَكَ" [المعجم الكبير للطبراني (11/ 39، رقم 10973) صحيح الجامع (3661)].
وللنجاة من بطشهم وظلمهم أن ندعو الله بدعاء، ثبت عن السلف -رحمهم الله تعالى-، عن أبي مجلز؛ لاحقِ بنِ حميد -رضي الله عنه- قال: "من خاف من أمير ظلما، فقال: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا، وبالقرآن حكما وإماما؛ نجاه الله منه" [صحيح الترغيب والترهيب (2/ 267، رقم 2239)].
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "إِذَا كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ إِمَامٌ يَخَافُ تَغَطْرُسَهُ أَوْ ظُلْمَهُ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَأَحْزَابِهِ مِنْ خَلَائِقِكَ، أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَطْغَى، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" [الأدب المفرد (707)].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِذَا أَتَيْتَ سُلْطَانًا مَهِيبًا، تَخَافُ أَنْ يَسْطُوَ بِكَ، فَقُلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَعَزُّ مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعًا، اللَّهُ أَعَزُّ مِمَّا أَخَافُ وَأَحْذَرُ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الْمُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ أَنْ يَقَعْنَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، مِنْ شَرِّ عَبْدِكَ فُلَانٍ، وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَشْيَاعِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، اللَّهُمَّ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّهِمْ، جَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَعَزَّ جَارُكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" [الأدب المفرد (708)].
إن من المخالفات الشرعية، وكبائرِ الخطايا والذنوب: الاعتداءَ على الأرواح، وسفكَ الدمِ الحرام، فهذه ذنوبٌ مانعة وحائلة بين فاعلها وبين دخول الجنة، فالنجاة بتجنُّبها والابتعادِ عنها، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ، كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَعَرَّض لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، حَالَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ" [المعجم الأوسط (8/ 233، رقم 8495). الصحيحة (3379)].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ" [البخاري (6863)].
والورطات، جمع ورطة، وَهِي كل بلَاء لَا يكَاد صَاحبه يتَخَلَّص مِنْه.
عبد الله: الدنيا وما فيها لا تستحقُّ أن ترتكبَ فيها ذنبًا، أو تعصيَ فيها ربَّك -سبحانه-، وتخالفَ نبيَّك محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فازهدْ فيها كما زهد فيها من سبقك، وكنْ على يقينٍ بما وعدك ربُّك كما كانوا، فالنجاة بالزهد واليقين، والهلاك بالبخل وطول الأمل، ف "صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ" [الصحيحة (3427)، أخرجه أحمد في (الزهد، ص 10)، والطبراني في (المعجم الأ وسط 8/ 316/ 7646) ، وابن عدي في (الكامل 6/127)].
فلا نجاة بالعمل وحده إلا بمنٍّ من الله -سبحانه وتعالى- ورحمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ" [مسلم (2816)].
والنجاة تكون بالنهي عن السوء والمنكر، فإن جاء بلاءٌ أو عذابٌ بسبَبِه، فإن الناهيَ عنه ينجيه الله -تبارك وتعالى-، فقد قال سبحانه: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
وقال سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 116 - 117].
فتعامَلْ مع الله، وتاجِرْ مع الله، فالنجاةُ كلُّ النجاة، والربحُ كلُّ الربحِ في التجارة مع الله -تعالى-، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 10- 14].
أيها المسلم! أيها المؤمن! يا من تريد النجاة من غضب الله! يا من تريد النجاة من عذاب الله: إذا نجوت من الفتن نجوت من الأعور الدجال، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "لَأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِمَّا قَبْلَهَا إِلَّا نَجَا مِنْهَا، وَمَا صُنِعَتْ فِتْنَةٌ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، إِلَّا تَتَّضِعُ لِفِتْنَةِ الدَّجَّالِ" [أحمد (38/ 334، رقم 23304)، الصحيحة (3082)].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يا عبد الله:
مَا بَالُ نَفْسِكَ أَنْ تَرْضَى تُدَنِّسُهَا | وَثَوْبُ جِسْمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ |
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ |
أما في الآخرة، فلا نجاة من ضمة القبر: "إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ نَجَا أَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنْهَا لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ" [مسند ابن الجعد (ص: 233، رقم 1548)، الصحيحة (1695)].
وفي رواية: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً، ثُمَّ رُخِيَ عَنْهُ" [المعجم الأوسط (6/ 349، رقم 6593)].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ صَبَيَّةٍ، فَقَالَ: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا هَذَا الصَّبِيُّ" [السنة، لعبد الله بن أحمد (2/ 602، رقم 1435)، وأورده في صحيح الجامع (1721)].
ولا نجاة من المرور على الصراط، فعن أَبي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: "نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا، انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ؟" قَالَ: "فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ؛ مُنَافِقًا أَوْ مُؤْمِنًا نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ، وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَأِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ، وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ، وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا" [مسلم (191)].
هناك على الصراط تؤتي التقوى ثمارها: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71 - 72].
يوم القيامة: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر: 60 - 61].
فلا بد من النجاة من العقبة الكؤود، عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم-: "إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا، لا يَنْجُو فِيهَا إلاَّ كُلُّ مُخِفٍّ" [مسند البزار (10/ 54، رقم 4118)، انظر: الصحيحة (2480)].
"إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا" شاقةً صعبةَ المرتقَى "لا يَنْجُو فِيهَا إلاَّ كُلُّ مُخِفٍّ" أي "يُرِيدُ بِهِ الْمُخِفَّ مِنَ الذُّنوب وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا وعُلَقها" [النهاية في غريب الحديث].