الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يزعم بعض المغرضين أن إبراهيم - عليه السلام - ورد ذكره في القرآن المكي على أنه رسول أنذر قومه، ولم تذكر له أي علاقة بإسماعيل، ووضع قواعد البيت الحرام إلا في القرآن المدني، الذي ذكر أنه كان أول المسلمين حنيفا قانتا؛ وذلك من أجل استمالة اليهود في المدينة - بعدما ناصبوا القرآن ونبيه العداء في مكة - عن طريق الاتصال بيهودية إبراهيم - عليه السلام - واعتباره أبا للعرب وبانيا للبيت الحرام. ويستدلون على أنه لا علاقة للعرب بإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وأنهما لم يرسلا إلى العرب
* بقوله سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۚ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: 3]
وجوه إبطال الشبهة:1) آيات القرآن يكمل بعضها بعضا حسب المقام ومقتضى الحال والأغراض التي تساق من أجلها، وليس معنى ذلك أن القرآن يتباين أو يختلف في اتخاذ المواقف والإخبار عن الأمور.
2) القرآن المكي ذكر - في سورة إبراهيم - صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام - وقصة مجيئه إلى مكة وبناء البيت الحرام، فكيف يفترى كذبا ويقال: إن هذه الأحداث لم تذكر بالقرآن المكي؟! وادعاء قطع صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام - يهدم التوراة قبل أن يسييء إلى القرآن؛ لأنها ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام -.
3) لم يكن بمكة تجمعات يهودية حتى يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد الاعتماد عليهم ولكنهم عادوه، ثم هل يعقل أن يلتمس التقرب إليهم في المدينة بعدما اتخذوا حياله خطة عداء بمكة؟! حسب زعمهم!!
4) إن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا حتى يتمسحوا به أو يكون الحديث عنه أو الانتساب إليه تقربا إليهم ولكنه كان حنيفا مسلما والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعث بالحنيفية السمحاء.
5) قوله سبحانه وتعالى: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) (السجدة: 3)، أي: بعد أن تميزوا وتحققت قوميتهم وانتهت رسالة إسماعيل - عليه السلام - الخاصة بأهله وأصهاره من جرهم[1] فلم تكن عامة ولا دائمة
التفصيل: أولا. آيات القرآن يكمل بعضها بعضا حسب المقام ومقتضى الحال وإنما التفاوت والتباين في عقول المشككين:لقد جاء ذكر نبي الله إبراهيم - عليه السلام - في كثير من آيات القرآن الكريم، وكل الآيات التي جاءت في قصته يكمل بعضها بعضا، حسب سياق الآيات وما يتطلبه الحال؛ ففي سورة العنكبوت مثلا يخبر عن دعوة إبراهيم - عليه السلام - لقومه وأبيه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام مبينا لهم بالدليل العقلي بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام وداعيا إياهم إلى النظر في الكون وما فيه من أسرار القدرة الإلهية ودلائل الربوبية والألوهية بالبرهان والمنطق السليم:
* (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25) [العنكبوت]
وفي سورة مريم يدعو أباه إلى عبادة الله بكل أدب يتناسب مع مقام الوالد حتى ولو كان كافرا بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى إنه عندما يقسو عليه ويهدده بالرجم يتركه إبراهيم - عليه السلام -
* قائلا له: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47]
وفي سورة الأنعام يحاج قومه ويبطل لهم بالدليل والبرهان عبادة غير الله تعالى من الكواكب والنجوم والشمس والقمر وبالأحرى عبادة الأصنام:
* (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80) [الأنعام]
وفي سورة البقرة وسورة إبراهيم يحكي قصة بناء البيت ودعاءه إلى الله سبحانه وتعالى هو وإسماعيل ولده عليهما السلام.. وهكذا تتكرر قصة إبراهيم - عليه السلام - في كثير من سور القرآن وفي كل مرة يحكي القرآن جانبا من حياته ومواقفه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى وطاعته لأمر الله سبحانه وتعالى.
ومن اللافت للنظر أن السور التي تحدثت عن الخليل إبراهيم - عليه السلام - في القرآن المكي يغلب عليها جانب التركيز على جهاده في الدعوة إلى الله تعالى وتوحيده ومقاومة الشرك بكل صوره بالحكمة والموعظة الحسنة والبرهان القوي، من ذلك نقرأ
* قوله سبحانه وتعالى: ۞ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74]
* ونلاحظ ذلك أيضا في قوله سبحانه وتعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) [مريم]
* وفي قوله سبحانه وتعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) [الأنبياء]
وغير ذلك من السور التي تحدثت عن ترسيخ[3] جانب التوحيد في نفوس الناس في بداية الدعوة الإسلامية.
أما القرآن في مرحلة ازدهار الدعوة الإسلامية، فنجد فيه التشريعات والقوانين الإلهية التي بلغها رسول الله للناس لكي يسيروا على هداها، وكان من بين هذه التشريعات فريضة الحج، التي تعود بالمسلمين إلى عمارة المسجد الحرام والتي بدأت في عهد إبراهيم - عليه السلام - بعد بناء البيت الحرام على يد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ومن المناسب في هذا المقام أن يذكر بناء إبراهيم - عليه السلام - للكعبة وتكليفه بأن يؤذن في الناس بالحج إلى بيته الحرام، وأن يذكر أمة الإسلام بأنها امتداد للحنيفية التي جاء بها إبراهيم - عليه السلام - وإن كانت قصة بناء البيت وترك إسماعيل - عليه السلام - وأمه عنده وحدهما ذكرت من قبل في القرآن المكي بسورة إبراهيم، ولكن ليس بهذا التفصيل لأنها كانت مسوقة لغرض آخر هناك، وهذا يؤكد ما سبق أن قررناه من أن حديث القرآن عن قصة إبراهيم - عليه السلام - جاء مناسبا للمقام الذي نزلت فيه تلك السور، ومن هنا يظهر مدى التوافق الذي بين آيات السور دون أدنى اختلاف أو تباين، كما يدعي هؤلاء المغرضون.
ثانيا. قصة بناء البيت الحرام، وصلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام - مذكورة في القرآن المكي:إن الزعم القائل أن القرآن المكي لم يذكر صلة لإسماعيل بإبراهيم - عليهما السلام - هو محض افتراء على كتاب الله تعالى ويعد كذبا وزورا؛ وذلك لأن الذي أصدر مثل هذا الحكم يفترض فيه أنه استقصى كل المواضع التي تحدثت في القرآن عن علاقة إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام - مكية كانت أو مدنية - فمثل هذا الحكم لا يكون إلا بعد استقصاء وحصر؛ وإلا عد هذا افتراء ناتجا عن خطأ أو عن جهل، وإذا كان الحكم بدون علم وعن جهل جريمة لا تغتفر فإن الافتراء عن عمد وسابق علم هو أشد شناعة وأفظع جرما.
والذي افترى تلك الفرية إنما يروج لفكرة يراد الوصول إليها - وهي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ظل بعيدا عن صلة العرب بإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - إلى أن هاجر إلى المدينة فبدت له فكرة هي أن يصل حبل العرب الذين هو منهم باليهود عن طريق إسماعيل وإبراهيم، مع أنه لا صلة للعرب بإبراهيم وإسماعيل حسب افترائهم.
وهذه الفكرة تهدم التوراة قبل أن تسئ إلى القرآن؛ لأن التوراة ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام - وأنه جد عدة قبائل في بلاد العرب، وحين عد المفترون السور المكية عمدوا إلى التي يذكر فيها إبراهيم مجردا عن الصلة بإسماعيل والعرب؛ لذلك تخطواسورة إبراهيم وهي مكية، وقد شهدت بعكس ما يقولون، وآياتها شاهدة بأن إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت، وأنهما كان يدعوان الله - سبحانه وتعالى - بالهداية وأن إبراهيم - عليه السلام ـكان يدعو الله - عز وجل - أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام - ويذكر أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، ويدعو الله أن يرزقهم من الثمرات ويحمد الله - عز وجل - أن وهب له إسماعيل وإسحاق[4].
* ولذا يقول القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41) [إبراهيم [5].]
أما زعمهم أن إبراهيم - عليه السلام - لم يذكر بأنه حنيف إلا في السور المدنية فهذا أيضا كذب مفترى، فقد ذكر بأنه كان حنيفا في سورة الأنعام مرتين، وفي سورة النحل كذلك وهما مكيتان:
* أما سورة الأنعام فقد ورد قوله سبحانه وتعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)، وقوله سبحانه وتعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161) [الأنعام[6].]
* وأما سورة النحل فقوله سبحانه وتعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) [النحل.]
وبهذا يتبين فساد تلك الدعوى المضللة لبطلان أدلتها؛ بل يتضح مدى الحقد الذي يكنه[7] أصحاب تلك الدعوات على الإسلام والمسلمين، فيزيفون الحقائق ويكذبون على القرآن افتراء على الحق من أجل تشويهه:
* يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]
ثالثا. لم يكن بمكة تجمعات يهودية:لم يذكر التاريخ أن مكة كان بها يهود، ولقد ذكرت كل مصادر السير أحداث الدعوة المحمدية في مكة وأتت عليها تفصيلا لكل الجزئيات وتحليلا لكل المواقف ولم نجد من بين تلك الأحداث شيئا يتعلق باليهود؛ إذ لم يكن لهم ذكر بمكة يترتب عليه حدث تاريخي أو أثر في الأحكام، بل إن المشركين في مكة لما عجزوا عن تكذيب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يستعينوا في حربهم ضده بأهل الكتاب ربما يجدون عندهم شيئا يطعنون به في نبوته ورسالته لعلمهم بالكتاب الأول بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة - يثرب - يسألونهم رأيهم في دعوته - صلى الله عليه وسلم - وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يواجهون به تكذيبهم إياه، قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء - أي صفاتهم وعلاماتهم - علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة ووصفا لليهود دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبراهم ببعض قوله، فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث؟ فإن أخبركم بهن فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقول[8]، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي، فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود[9].
فأنزل الله سورة الكهف وشطرا من سورة الإسراء على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيهما إجابة على أسئلة المشركين وإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من هذه القصة أنه لو كان بمكة يهود لما احتاج المشركون أن يسافروا إلى المدينة ليسألوهم عما سألوهم عنه، فكيف يفتري هؤلاء المغرضون ويقولون: إن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم "أراد أن يعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء - فلم يكن له بد من أن يلتمس غيرهم ناصرا - هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم - عليه السلام - وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم - عليه السلام - تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام - ولما أخذت مكة تشغل جل تفكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصبح إبراهيم - عليه السلام - أيضا المشيد لبيت هذه المدينة المقدس"[10].
هذه هي عبارة بعض الذين نصبوا أنفسهم لحرب الإسلام وإلصاق النقص به والعيب على القرآن وستر محاسنه ليظهروه في صورة لا تكاد تختلف عن كتبهم المحرفة فهم
* كما قال سبحانه وتعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 89]
إن العبارة السابقة تشير إلى ما تكنه نفوسهم من حقد على الإسلام والمسلمين، هذا الحقد الذي جعل صاحبه غير متزن الفكر بعيدا عن الالتزام بمعطيات المنهج العلمي من النزاهة والدقة والبحث من أجل إبراز الحقائق لا من أجل طمسها[12] إشباعا لأهواء النفس الجامحة؛ فيدعي كذبا أن القرآن المكي لم يذكر صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام - وقصة بناء البيت وذلك مذكور فيه ولكن تجاوزه عمدا كان لغرض التدليل على أحكام مسبقة اعتقدها هؤلاء، وليست ناتجة عن بحث علمي نزيه.
وأكثر من ذلك - اضطرابا في الفكر وتزويرا للتاريخ - أن يكذب عليه ويدعي أحداثا لم يسجلها مثل ادعائه أن اليهود كان لهم كيان[13]بمكة وأراد محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد على هذا الكيان وذلك على عكس حقائق التاريخ التي لم يرد فيها أي أثر للتجمعات اليهودية بمكة.
والأغرب من ذلك أن يدعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فشل في أن يجذب اليهود إليه في مكة واتخذوا ضده خطة عداء راح يستميلهم في المدينة عندما ذكر إبراهيم - عليه السلام - وصلته بالعرب وقصة بناء البيت. هذه أفكار مشوهة ونتائج مضطربة لا يمكن أن ينسجم بعضها مع بعض ولا يمكن أن يقبلها العقل السليم أو تسير مع قواعد المنطق؛ إذ كيف يعقل أن يلتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - التقرب إلى اليهود بالمدينة بعدما ناصبوه العداء بمكة - حسب زعمهم - بل إن الذي يفهمه العقل الرشيد والذي تبرزه نتائج المنطق السديد أن من يناصبني العداء فلا بد من أن أعاديه لاأن ألتمس التقرب إليه.
نعم لم يكن بمكة يهود - كما أسلفنا - ولكن كان بالمدينة طوائف منهم، ولما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعلموا أنه نبي آخر الزمان الموصوف عندهم في كتبهم وكانوا يستفتحون[14] به من قبل على العرب ويبشرون بقرب بعثته، كان المنتظر منهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وخاصة أنهم كانوا أهل توحيد ويجانبون عبادة الأصنام ويعادون أهلها، فلما جحدوا وكفروا عن علم، استكبارا أو حسدا، صاروا كغيرهم لا فضل لهم على بقية الناس ولا ميزة؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، لذلك ما أمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتز بهم يوما، ومع ذلك لم يظلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عقد معهم وثيقة المدينة وكانت معاهدة عادلة بين المسلمين واليهود فلما خانوا ونكثوا العهد وناصبوه العداء لم يكن بد من حربهم والقضاء عليهم.
وإننا لنتساءل كيف يلتمس النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - التقرب من اليهود في المدينة والقرآن المدني يقول: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (المائدة: 82)، وكيف يكون الانتساب إلى إبراهيم - عليه السلام - تقربا إلى اليهود، وإبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا؟!
رابعا. إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين:إبراهيم - عليه السلام - لم يكن يهوديا كما يدعي أصحاب هذه الشبهة؛ لأن اليهودية ديانة موسى وهو من نسل إسحاق بن إبراهيم، ولم تأت التوراة إلا من بعده، فكيف تنسب إلى إبراهيم؟! وهل يعقل أن ينسب الأصل إلى الفرع أم العكس؟! قال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66)( (آل عمران).
واليهودية، والنصرانية [15] - لم تتفقا مع الإسلام في الأصول والعقيدة - فضلا عن الفروع - فكيف يذكر أن رسول الله يستميل اليهود، ولو حاول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك لكان أولى الناس بذلك أهله وعشيرته وقومه من مشركي مكة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفض كل صور الاستمالة التي عرضت عليه من قبل قومه ومن قبل غيرهم.
وإبراهيم - عليه السلام - لم يكن أبا العرب بل هو جدهم ويشترك معهم في ذلك بنو إسرائيل، وجاء وصفه في القرآن بأنه أبو المسلمين
* في قوله سبحانه وتعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78]
والأبوة في الآية ليست أبوة نسب فقط بل يضاف إليها أبوة انتماء كالأخوة في الإسلام، أما إسماعيل - عليه السلام - فهو أبو العرب العدنانيين.
ولم يلفق النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة بناء الكعبة وينسبها إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، بل هي حادثة ثابتة تاريخيا بالتواتر عن العرب وغيرهم من الأمم.
يقول الشيخ الغزالي عن هؤلاء المشككين من المستشرقين: وقد استبد بهم الحماس[16] في هذا الوهم حتى أفقدهم كل اتزان علمي، فالمستشرق مرجيلوث يري أن الآيات القرآنية التي تحكي مجيء إبراهيم - عليه السلام - إلى مكة واستيطان ذريته بجوار البيت بعدما بناه هو وابنه إسماعيل آيات مفتعلة دعت إلى افتعالها رغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تألف اليهود وإثبات صلة قرابة بينهم وبين العرب؛
* لذلك جاء في سورة البقرة وهي مدنية: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) [البقرة]
والمستشرق الذي يوجه هذا الاتهام إلى القرآن ينسى في غمرة حماسه أمرين:
الأول: أن الحديث عن إبراهيم - عليه السلام - وزيارة مكة واتصاله بالعرب لم يبدأ في المدينة تأليفا لقلوب اليهود، وإنما بدأ في مكة حيث لا يهود فيها، وفي القرآن سورة اسمها "إبراهيم" جاء فيها قوله سبحانه وتعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (إبراهيم:35).
الثاني: أن العهد القديم الذي يرى هذا المستشرق أنه مقدس أثبت قدوم إبراهيم - عليه السلام - وابنه إلى بلاد العرب، فكيف يقول مستشرق متزن الفكر أن آيات سورة البقرة غير صحيحة، وأنها قيلت استرضاء لليهود، وأنها تخالف القرآن المكي[17]؟
وتأسيسـا على ما سبق؛ فإن ادعاء اليهود أن إبراهيم - عليه السلام - كان يهوديا أو أنهم على شريعة إبراهيم - عليه السلام - وملته، ومثله ادعاء النصارى ومشركي مكة أنهم على شريعة إبراهيم - عليه السلام - وملته ادعاء باطل ينقضه التاريخ والواقع والعقل، بل ينقضه جهلهم بالحنيفية السمحاء فإنهم لا قبل لهم بالمعرفة بدين إبراهيم - عليه السلام - ومن أين يعلمونه ولا مستند لهم في علمهم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل؟ وقد نزلا من بعد إبراهيم - عليه السلام -
* قال سبحانه وتعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) [آل عمران.]
وقوله: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون (آل عمران:66) يدل على أن الله أخبر في القرآن بأنه أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام دين إبراهيم - عليه السلام - وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل، فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليكم[18].
ويذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور في قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران:67) نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجة الماضية أن اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، إذ لم يؤثر ذلك عن موسى وعيسى - عليهما السلام - لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أن إبراهيم - عليه السلام - لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية، إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى - عليهما السلام -، فهذا سنده خلو كتبهم عن ادعاء ذلك، وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحينفية مع خلوها من فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تكمن منه.
ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة) عن عكرمة قال: لما نزلت الآية قال أهل الملل: قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون، فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل الله: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (آل عمران: 97) فحج المسلمون وقعد الكفار ثم تمم الله ذلك بقوله: (وما كان من المشركين)(آل عمران:67) فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
وقوله: )ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران) أما الاستدراك بعد نفي الضد حصرا لحال إبراهيم - عليه السلام - فيما يوافق أصول الإسلام؛ لذلك بين "حنيفا "بقوله: )مسلما(؛ لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أن الإسلام هو الحنيفية، وقال: فنفي عن إبراهيم - عليه السلام - موافقة اليهودية، وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين وأنه كان مسلما فثبتت موافقته الإسلام[19].
وبذلك يتبين أن الانتساب إلى إبراهيم - عليه السلام - لم يكن تقربا من اليهود؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - لم يكن يهوديا كما ادعى هؤلاء المغرضون بقولهم "يهودية إبراهيم "، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
خامسا. العرب لم يرسل إليهم رسول منذ أن تحققت قوميتهم:أما استدلالهم
* بقوله سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۚ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: 3]
وغيرها من الآيات - على إنكار صلة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بالعرب؛ فباطل إذ لو كانا رسولين إلى العرب لتناقض ذلك مع هذه الآية التي تخبر بأن العرب لم يأتهم نذير من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - حسب توهمهم.
والحقيقة أن هذه الآية ونظائرها مثل قوله تعالى في سورة يس: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6)( (يس) واضحة في أن هؤلاء العرب المعاصرين لرسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وآباءهم إلى جدهم الأعلى لم يأتهم نذير، أما رسالة إسماعيل - عليه السلام - فكانت خاصة في أهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى من بعده فتوقفت رسالته بموته، وكذلك أسلاف هؤلاء العرب مثل قوم هود وصالح الذين أتتهم الرسل، فقد كان ذلك قبل أن تتحقق قومية خاصة بهم، وبذلك يسقط استدلالهم بهذه الآية على نفي رسالة إسماعيل وإبراهيم - عليهما السلام - وصلتهما بالعرب، بل الدليل قائم على رسالة إبراهيم وإسماعيل وبنائهما البيت في القرآن والتوراة، فمعنى الآية: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( منذ أن تحققت قوميتهم بعد انقضاء رسالتي إسماعيل وإبراهيم - عليهما السلام -.
يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير آية سورة يس: )لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6)( (يس): والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم: إما العرب العدنانيون [20] فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيرا، وإنما يبتدأ عد آبائهم من جدهم الأعلى في عمود نسبهم الذي تميزوا به جذما وهو عدنان، لأنه جد العرب المستعربة، أو أريد أهل مكة، وإنما باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإسلام.
ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعوان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ دعوته وتأييده فانضم إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصارا ثم تتابع إيمان قبائل العرب[21].
ثم يوضح الشيخ ابن عاشور هذه المسألة ويفصلها ويبين المراد منها أو الغرض الذي سيقت له، وذلك عندما يفسر قوله تعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)( (السجدة) إذ يقول: ووصف القوم بأنهم: )ما أتاهم من نذير( قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلهم من العرب، فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإما أن يكون المراد قريشا خاصة، أو عرب الحجاز أهل مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان عدنانيون وقحطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل - عليه السلام - وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مضر، وربيعة، وأنمار، وأياد، وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم.
وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - فإنه وإن كان رسولا نبيا كما وصفه الله - سبحانه وتعالى - في سورة مريم، فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى الذين وجدوا بعده؛ لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال سبحانه وتعالى: )وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة( (مريم: 55).
وأما القحطانيون[22] القاطنون[23] بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيء، فإنهم قد تغيرت فرقهم ومواطنهم بعد سيل العرم وانقسموا أقواما جددا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن، وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافهم مثل هود وصالح وتبع، فذلك كان قبل تقوم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرب كلهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلهم لا يعدون أن يرجعوا إلى ذينك الجذمين[24]، وقد كان انقسامهم أقواما ومواطن بعد سيل العرم، ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانيين من أهل الحجاز، وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صفوان صاحب أهل الرس، وخالد بن سنان صاحب بني عبس فلم يثبت أنهما رسولان واختلف في نبوتهما، وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي عجوز وأنه قال لها: «مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه»، وليس لذلك سند صحيح، وذكره الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (8/221) وقال: لا يصح هذا، ويرد عليه الحديث الصحيح:«أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي»[25].
وأيا ما كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف)ما أتاهم من نذير( من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هدى وإثارة هممهم، لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنزل إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتباعه فيكون للمؤمنين منه السبق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق[26].
وهناك رأي آخر في توجيه هذه المسألة وهو أن قوله تعالى: )ما أتاهم من نذير من قبلك( أي ما أرسلنا نذيرا أو رسولا شرع لهم هذه الشرائع الشركية التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة أخرى؛ يقول عبد الوهاب النجار: كان دين كثير من العرب عبادة الأوثان، وكان لهم قرابين يقدمونها إليها وقد سيبوا السوائب[27] وبحروا البحائر [28]ووصلوا الوصيلة[29] وسنوا لهم قواعد ما أنزل الله بها من سلطان؛ فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - لينذر هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم على دين وأن الله قد أمرهم بما هم عليه مع أن الله ما أرسل إليهم نذيرا شرع لهم هذه الشرائع الباطلة؛ لأنهم كانوا إذا ظلموا أنفسهم بشرائعهم الباطلة، قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها - وقد ناقشهم الله في ذلك ورد عليهم في غير موضع من القرآن كقوله: )إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)( (الأعراف).
* وفي سورة الصافات بعد أن ذكر دعاوى الوثنيين [30] بقوله: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155)( (الصافات) ففي هذه الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والتضعيف لعقولهم واتهامهم مع الاستهزاء بهم، وفي قوله: )فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157) [الصافات]
أي الناطق بصحة دعواكم والأمر فيه للتعجيز وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي قوله: )أم لكم سلطان مبين (156)( (الصافات) إضراب انتقالي من توبيخهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا، أي: بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة، فإن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي وهو لا يوجد عندهم.
فالمعنى في هذه الآيات مثله في قوله تعالى: )قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)( (الأحقاف: 4) تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فهو من جملة القول؛ أي: ائتوني بكتاب إلهي كان من قبل هذا الكتاب - أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك - دال على صحة دينكم، أو أثارة من علم - أي: بقية علم بقيت عندكم من علوم الأولين - شاهدة باستحقاقهم العبادة؟! وهكذا كل آية وردت في هذا المعنى[31].
وبهذا يتبين بطلان الاستدلال بقوله تعالى: )ما أتاهم من نذير من قبلك( على قطع الصلة بين العرب وأبيهم إسماعيل وجدهم إبراهيم - عليهما السلام - لأنه لا ينفي رسالتهما بل معناه: ما أتاهم من نذير من قبلك بعد أن تحققت قوميتهم من بعد انقضاء رسالة إسماعيل - عليه السلام - الخاصة بأهله وأصهاره، أو ما أتاهم من نذير أي رسول شرع لهم تلك الشرائع الباطلة قبلك يا محمد بل اخترعوها من أنفسهم وبوحي من شياطينهم.
الخلاصة:الادعاء أن قصة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وصلتهما بالعرب وبناء البيت لم تذكر إلا في القرآن المدني تقربا لليهود واستمالة لهم بعد فشل الاعتماد عليهم في مكة والاستناد إلى قوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( في قطع صلة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بالعرب وأنهما لم يرسلا إليهم.... هذا الادعاء باطل ومردود من وجوه:
· أن هذه القصة واردة في القرآن المكي بسورة إبراهيم المكية في الآيات من (35 إلى 41) فكيف يفترى كذبا خلو القرآن المكي من ذلك؟!
· قطع صلة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بالعرب يكذبه التاريخ وسلسلة نسب العرب المحفوظة في التاريخ أيضا، وهذا القطع فكرة شيطانية تهدم التوراة قبل أن تسييء إلى القرآن؛ لأن التوراة ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل - عليهما السلام -، وأن إبراهيم هو جد قبائل عربية عدة.
· لم يكن بمكة يهود حتى يحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد عليهم، وهل يعقل أن يحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتقرب إلى اليهود في المدينة بعدما خذلوه واتخذوا حياله خطة عداء بمكة حسبما يزعمون.
· كيف يحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتقرب إلى اليهود بالمدينة والقرآن المدني يحذره خطرهم وغدرهم وخيانتهم؟ بل جاء في سورة المائدة المدنية: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا( (المائدة: 82).
· ما كان إبراهيم - عليه السلام - يهوديا ولا نصرانيا حتى يتمسحوا به أو يكون الحديث عنه والانتساب إليه تقربا إليهم، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين والأدلة على ذلك كثيرة منها:
oأن كتبهم لم تذكر أن إبراهيم - عليه السلام - كان يهوديا أو نصرانيا ولم تأمرهم باتباع ملته.
oأنهم لا يمارسون كثيرا من شعائره كالحج، ولا توجد في كتبهم مثل هذه الشعائر فكيف يدعون موافقته؟!
· أن اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم - عليه السلام - فالتوارة أنزلت على موسى - عليه السلام - وهو من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -، فكيف ينسب إبراهيم - عليه السلام - إليها وهل يعقل أن ينسب الأصل إلى الفرع؟!
· أن القرآن الكريم ذكر أن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفا مسلما بل هو أول المسلمين وأمر المسلمين باتباع ملته وقرر عليهم معظم شرائعه، ومنها الحج.
· قوله تعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( لا ينفي رسالة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وبالتالي نفي علاقتهما بالعرب كما يدعي هؤلاء وإنما معناه: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك بعد أن تحققت قوميتهم وذلك بعد انقضاء رسالة إسماعيل الخاصة بأهله وأصهاره.
أو معناه لتنذر قوما ما أتاهم من نذير أي رسول قبلك شرع لهم تلك الشرائع الشركية وإنما اخترعوها من تلقاء أنفسهم وبوحي من شياطينهم.