الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يشكك بعض المتوهمين في أبوة نوح - عليه السلام - لابنه، الذي هلك في الطوفان، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( (هود: 46)، بل يدعي بعضهم أنه ابن زنا؛ لقوله تعالى: )إنه عمل غير صالح(؛ ولأن أمه كانت خائنة كما ذكر القرآن عنها وعن امرأة لوط: )فخانتاهما( (التحريم: 10). ويتساءلون: كيف يدعي نبي معصوم الكذب وينسب إليه ابنا ليس من صلبه إذ قال:)إن ابني من أهلي( (هود: 45). ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة نبي الله نوح عليه السلام.
وجها إبطال الشبهة:1) القرآن الكريم ينفي أن يكون ابن نوح من أهله المؤمنين الذين وعد الله بإنجائهم، ويثبت كونه من صلبه حقيقة لقوله تعالى: )ونادى نوح ابنه( (هود: 42)، وعليه فلم يكذب نوح - عليه السلام - في قوله: )رب إن ابني من أهلي( (هود: 45) كما يدعي هؤلاء.
2) قوله تعالى: )إنه عمل غير صالح( يعني الكفر، والخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( راجعة إلى مخالفة الدين والعقيدة لا إلى خيانة الفراش.
التفصيل: أولا. ابن نوح ليس من أهله الناجين:القرآن الكريم يثبت الأبوة لنوح - عليه السلام - وأن هذا الابن من صلبه؛ لقوله سبحانه وتعالى: )ونادى نوح ابنه( فلو لم يكن ابنه لما صرح بالبنوة، وإنما ينفي الصلة الإيمانية بين نوح - عليه السلام - وابنه، فأهل الإيمان تجمعهم صلة ا لعقيدة والدين، وهذا الولد وإن كان ابنه فليس من أهل الإيمان أو ليس من أهله المؤمنين الناجين؛ لكفره وخروجه عن دين الله وعدم اتباعه أباه الذي هو رسول الله، ولو كان المقصود نفي بنوة النسب لقال: إنه ليس ابنك جوابا على قول نوح: إن ابني من أهلي، ولكن قال: "إنه ليس من أهلك" فنفى دخوله معه في مجموع أهل الإيمان لم ينف البنوة؛ لأن المقصود "بأهلك"
* في قوله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46]
ليس أهل بيتك وعشيرتك، بل هم أهل دينك وعقيدتك، وعلى هذا لم يكذب نوح - عليه السلام - في قوله "إن ابني من أهلي" فهو ابنه حقيقة لصلبه
* لقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود: 42]
* وأما قوله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46]
فمعناه: إما أنه ليس من أهل دينك، فمدار الأهلية هو الصلة الدينية، وقد انقطعت بالكفر، فلا علاقة بين مسلم وكافر؛ ولذا لا يتوارثان[1]، وحكي هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وإما أنه ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة.
وعلى هذين القولين فالمعنى: "ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم"[2].
نعم، كان ابنه ولكن كان مخالفا له في النية والعمل والدين... وهذا يدل على أن الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب[3].
وعلى هذا المعنى يؤكد الشيخ الطاهر ابن عاشور إذ يقول: "ومعنى قوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( نفي أن يكون من أهل دينه، ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن:
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
* وقال سبحانه وتعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة: 56]
ويوضح الشيخ الشعرواي أن النبوة ليس لها بنوة، بل لها أتباع فيقول: "وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتباع نجد المثل في إبراهيم - خليل الرحمن - عليه وعلى نبينا أفصل الصلاة والسلام -
* حين قال الحق فيه: ۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]
ويريد الحق سبحانه أن يلفت نبيه نوحا - عليه السلام - إلى أن أهلية الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتباع، وإذا قاس نوح - عليه السلام - ابنه على هذا القانون فلن يجد ابنا له.
إذن فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتباع لا بنوة نسب، وانظر إلى دقة الأداء في قوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( ثم يأتي الحق سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله: )إنه عمل غير صالح( فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتا، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح - عليه السلام - جعله غير صالح أن يكون ابنا لنوح. وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس اللحم، إنما هو الاتباع بدليل أن الحق وصف ابن نوح - عليه السلام - بقوله: )إنه عمل غير صالح( ولو كان عملا صالحا لكان ابنه"[5].
وجاء في "ظلال القرآن": رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاة أهلي وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير.. قالها يستنجز ربه وعده، ويستنجز حكمته في الوعد والقضاء.. وجاء الرد بالحقيقة التي غفل عنها، فالأهل - عند الله وفي ميزانه ودينه - ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة، وهذا الولد لم يكن مؤمنا، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن، جاء الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد، وفيما يشبه التقريع[6] والتأنيب والتهديد: "إنه ليس من أهلك.." إنها الحقيقة الكبرى في هذا الدين، حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا، عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة، "إنه ليس من أهلك.." فهو منبت[7] عنك وأنت منبت عنه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ولا وشيجة[8] [9].
ومما يؤكد نسبة هذا الولد لسيدنا نوح - عليه السلام - أن المؤرخين والمفسرين ذكروا أن ابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زوج ثانية لنوح كان اسمها "واعلة" غرقت، وأنها المذكورة في آخر سورة التحريم، قيل: كان اسم ابنه "ياما"، وقيل: اسمه "كنعان"، وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين[10].
وبهذا البيان تحقق أن نوحا - عليه السلام - لم يكذب - وحاشاه أن يكذب - وهو نبي معصوم، إنما كذب المدعون.
ثانيا. قوله تعالى: )إنه عمل غير صالح( يعني الكفر، والخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( (التحريم: 10) راجعة إلى مخالفة الدين والعقيدة لا إلى الفراش:
فمعنى العمل غير الصالح هو الكفر وليس الزنا كما قد يدعي بعضهم، وأطلق على الكفر "عمل"؛ لأنه عمل القلب ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان[11].
وقرأ بعضهم: "إنه عمل غير صالح" أي من الكفر والتكذيب، وقرئ "عمل" أي: ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف[12].
وأما قوله تعالى عن امرأة نوح - عليه السلام - وامرأة لوط عليه السلام: )فخانتاهما( فليس المعنى: أنهما خانتا زوجيهما بالزنا، فما زنت امرأة نبي قط، وقد اتفق أئمة التفسير على أن الخيانة راجعة إلى الدين، لا إلى الفراش.
قال القرطبي: "والمقصود الخيانة في الدين، لا في الفراش؛ وذلك أن امرأة نوح - عليه السلام - كانت تقول للناس: إنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور. فخرجت تقول لقومها: يا قوم، والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور. فهذه خيانتها، وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على الأضياف إذا نزلوا عند لوط"[13].
وتعقب الرازي الزعم أن ابن نوح ولد زنا قائلا: "وهذا قول خبيث يجب صون مكانة الأنبياء عنه، لا سيما وهو على خلاف نص القرآن، أما قوله تعالى: )فخانتاهما( فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه، قيل لابن عباس: ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح - عليه السلام - تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط - عليه السلام - تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به"[14].
والدليل القاطع على فساد القول بأن المقصود هو خيانة الفراش
* قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النّور: 26]
* وأيضا قوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النّور: 3]
وقال أبو السعود: وما يقال من أنه كان لغير رشده - أي: ولد زنا - لقوله تعالى: )فخانتاهما( فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها، فإن جناب الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - أرفع من أن يشار إليه بأصبع الطعن، وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين. ومثل هذا ذكره أيضا البيضاوي، والألوسي وغيرهما.
فهذه أقوال عدد من أئمة التفسير تستبعد أن تزني إحدى نساء الأنبياء. ومستند عدم وقوع الزنا من إحدى نساء الأنبياء النقل والعقل:
أما النقل: فالآيات القرآنية الدالة على هذا كثيرة، ومنها الآيات التي نزلت ببراءة السيدة عائشة - رضي الله عنها - مما رميت به زورا وبهتانا؛
* قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النّور: 11]
وأما العقل: فلأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مبعوثون إلى الكفار لدعوتهم إلى الله؛ فلزم ألا يكون معهم ما ينفر الكفار منهم، ومن أعظم المنفرات عن الإنسان أن تكون زوجته مسافحة، فزنا نساء الأنبياء - لو وقع - ينفر اتباعهم ويخل بحكمة البعثة، لهذا حفظ الله تعالى نساء الأنبياء من الزنا؛ حتى لا يعود ذلك بالانتقاص والإخلال بمهمتهم في دعوة الناس إلى الله[16].
وبهذا يتبين لنا ضلال هذا الادعاء الذي يزعم أصحابه أن نبي الله نوحا - عليه السلام - قد وقع في الكذب مما يقدح في عصمته كنبي، كما تبطل الحجة التي يستند إليها هؤلاء من أن ابنه كان ابن زنا وليس من صلبه فهو ابنه بشهادة القرآن، وخيانة زوجته كانت في الدين لا في الفراش.
الخلاصة:القرآن الكريم يثبت أن ابن نوح - عليه السلام - هو ولده من صلبه؛ لقوله تعالى: )ونادى نوح ابنه( وعليه فلم يكذب نوح - عليه السلام - في قوله: )إن ابني من أهلي(؛ فهو ابنه حقيقة لصلبه؛ لقوله تعالى: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود). أما المراد بقوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( إما إنه ليس من أهل الإيمان، وإما إنه ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك، وعلي القولين: ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم، وبهذا تحقق أن نوحا لم يكذب حتى يكون قد ارتكب المعصية.
الخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( عند امرأة نوح وامرأة لوط - عليه السلام - راجعة إلى الخيانة في الدين والعقيدة، لا إلى الخيانة في الفراش، وليس معناه أنهما خانتا زوجيهما بالزنا، فما زنت امرأة نبي قط.