القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يزعم بعض المشككين أن خلو القسم المكي من التشريع، مع كثرة التشريعات في القسم المدني، دليل على تأثر القرآن بعلوم أهل المدينة ومعارفهم؛ إذ لما كان محمد بمكة أميا يقيم بين أميين ضاق أفق التشريع، ولما صار بين المثقفين وأهل المدينة كثرت الأحكام والفروع. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في مصدر القرآن بكونه مقتبسا من الكتب السابقة.
1) القرآن المكي لم يخل جملة من التشريعات، وإن جاءت التشريعات فيه قليلة لعنايته بترسيخ الأصول والعقائد، ومنها إلى بناء المجتمع وتنظيمه.
2) إن الانتقال من الأصول والعقائد إلى الفروع والأحكام الكثيرة ترتيب منطقي يتفق مع طبيعة الأشياء.
3) لم يتأثر القرآن في أحكامه بمعارف أهل الكتاب في المدينة، بل إن العكس هو الواضح؛ فقد خالف أحكامهم الباطلة المحرفة.
القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام، بل عرض لها بطريقة إجمالية، فمقاصد الدين خمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وقد تحدث القسم المكي عنها إجمالا،كما في
* قوله سبحانه وتعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151)) [الأنعام]
إلى تمام ثلاث آيات بعدها، جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة [1]، ومثال ذلك أيضا
* قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ [النجم: 32]
قال السيوطي: فإن الفواحش كل ذنب فيه حد، والكبائر كل ذنب عاقبته النار، واللمم ما بين الحدين من الذنوب، ولم يكن بمكة حد ولا نحوه [2]. ولا يخفى أن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة، وكثيرة شائعة، ليست من موضع الاشتباه، ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف [3].
إن كثرة التفاصيل في التشريع والأحكام بالمدينة، ليس نتيجة لما زعموه، إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم، وتربية الشعوب، وهداية الخلق، ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل، والتدرج حليف التوفيق والنجاح، وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة، فما بالك بأحكم الحاكمين،وقد صدق شوقي حين قال مادحا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لتدرجه وحكمته في علاج مشاكل مجتمعه وأمته:
داويت متئدا وداووا طفرة
وأخف من بعض الدواء الداء
وهكذا بدأ الله عباده في مكة بإصلاح القلوب، وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح، والتوحيد الواضح، حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم، وشعروا بمسئولية البعث والجزاء، وتقررت فيهم العقائد الراشدة، فطمهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق، وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات، ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات، وهذا ما كان في مكة، ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال بتطاول الأيام والسنين، وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة، جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام، وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام [4].
فقد كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد، على عكس المدني الذي تميز بالتشريعات التفصيلية التي تتعلق بصيانة الدماء والأعراض والأموال وصيانة العقول، والمحافظة على الأنساب في الأسرة، أو في المجتمع ككل (الأمة)، والأحكام العملية كأحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدة والحضانة والنفقة والحدود، وتفصيل ما أجمل قبل ذلك من الآداب والفضائل.
وقد أشارت السيدة عائشة - رضي الله عنها - التي تربت في منزل الوحي إلى هذه الحكمة، فقالت: «إنما نزل من القرآن أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» [5].
ولا شك أن من طبيعة التدرج نزول آيات القرآن وسوره، بعضها في إثر بعض، وقد دل القرآن بهذه السياسة الرشيدة في إصلاح الشعوب وتهذيبها على أنه معجز، وأنه من عند الله، وما كان لبشر - مهما كانت قدراته - أن يتوصل إلى هذه الطرق الحكيمة في ذلك الوقت الذي بعث فيه النبي- صلى الله عليه وسلم- وإنما ذلك من صنع الحكيم العليم.
فإذا كان القرآن هو الكتاب الذي يحوي المنهج الرباني لإصلاح الحياة البشرية وإقامتها بالقسط يخصص هذا الحيز الواسع للحديث عن العقيدة، فلا بد أن تكون العقيدة هي محور ذلك الإصلاح كله، وأن يكون اهتمام القرآن بها آتيا من أنها هي الوسيلة للغاية المطلوبة، ولو كانت هناك وسيلة مطلوبة أخرى غيرها أو مثلها تؤدي إلى الإصلاح، كالتنظيم الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي؛ لأولاها القرآن هذه العناية، وإنما أعطى الله الأولوية العظمى لموضوع العقيدة قبل كل شيء آخر؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- يعلم أن هذا وحده هو السبيل الحقيقي لإصلاح البشرية، وكل ابتداء بغيره، أو مضى بدونه، عمل باطل لا يؤدي إلى شيء.
فالعقيدة التي هي تصور شامل للكون والإنسان، وعلاقاتها بالخالق، وعلاقاتها بعضها ببعض، هي الأساس الذي تبنى عليها الصورة التي يكون عليها وجود الإنسان في الأرض، سواء وجوده المعنوي، أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. [6]
أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد - صلى الله عليه وسلم- بأهل المدينة المستنيرين، فينقضه أن القرآن جاء ليصلح عقائد أهل الكتاب وأخطاءهم في التشريع، وفي التحليل والتحريم، وفي الأخبار والتواريخ، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ اقرأ
* قوله سبحانه وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64]
* ،وقوله سبحانه وتعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [آل عمران: 65]
* وقوله سبحانه وتعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين(93)) [آل عمران]
* وقوله سبحانه وتعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]
وغير ذلك كثير، وقد عرضنا لها في دعوى تودد القرآن لليهود والنصارى، وأوضحنا أنه أدانهم في كثير من المواضع، فكيف يتأثر بهم؟!
لو كان ما زعموه صحيحا، لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فىمن معهم من عرب أهل المدينة، وفىمن حولهم من أهل مكة والجزيرة، ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة، ولسبق محمدا –صلى الله عليه وسلم- إليها كثير من غيره من فصحاء العرب، وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام، أيما اختلاط.
والقرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين، بل من جن وإنس، فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة [7].
• القرآن المكي لم يخل من التشريعات جملة، بل جاءت التشريعات فيه قليلة، لعنايته بترسيخ الأصول والعقائد أولا، ومنها إلى بناء المجتمع، وتنظيمه على تلك الأصول.
• الأسلوب الأمثل في بناء الحضارات هو التدرج، والانتقال من الأصول والعقائد إلى الفروع والأحكام الكثيرة شيء منطقي يتفق مع طبيعة الأشياء، فكان القرآن المكي يتحدث عن عقيدة التوحيد ونبذ الوثنية، ثم انتقل المكيون إلى المدينة بعد الهجرة متزامنا هذا الحدث مع نزول التشريعات والأحكام والتفصيلات والمعاملات وغيرها، لبناء مجتمع أخلاقي سليم، فكان هذا للمكيين والمدنيين على السواء، إذ في النهاية هم المؤمنون المخاطبون، فما نزل القرآن لأناس دون غيرهم، ولكن للناس كافة، وعلى ذلك فالقرآن لم يتأثر ببداوة أهل مكة، أو حضارة أهل المدينة.
• الثابت أن القرآن في أحكامه لم يتأثر بمعارف أهل الكتاب لا في المدينة ولا في غيرها، بل جاء القرآن مصوبا ما في عقائدهم من فساد، وما في أخبارهم وقصصهم عن السابقين من أخطاء وتزييف للحقائق، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟!