الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | جمع القرآن - شبهات حول القرآن |
يدعي بعض المغالطين أن القرآن قد تعرض لشيء من التحريف بالحذف، مستدلين على ذلك
بحديث عائشة - رضي الله عنها -
«كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن»،
ويتساءلون: أين هذه الآيات؟ كذلك أين آية الرجم؟ [1] ويدعون أن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي مائتي آية، فلما كتب عثمان المصحف، لم يقر منها إلا ما هو الآن "سبع وسبعون آية". قائلين: أن في هذا دليلا على تحريف عثمان للمصحف.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن رواية عائشة - رضي الله عنها - التي يستشهد بها هؤلاء هي رواية آحادية، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وغاية ما تدل عليه أنها خبر لا قرآن، وعلى فرض أنها قرآن فقد نسخ لفظه وحكمه، ولا يجوز كتابتها في المصحف، أو اعتبارها قرآنا.
2) لا يعقل أن يحذف شخص - أيا كانت سلطته - حرفا واحدا من القرآن دون اعتراض أحد من الصحابة، أما آية الرجم تلك فهي خبر آحاد لا يثبت به قرآن، وهي لا تعدو أن تكون حديثا أو قرآنا نسخ لفظه وبقي حكمه.
استغل المغالطون لإثبات وقوع التحريف في مصحف عثمان - رضي الله عنه
- قول عائشة - رضي الله عنها -:
«كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن».
[2]
وكذلك ما ذكره عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت:
«لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتغلنا بموته، فدخل الداجن [3] فأكلها»
[4].
وهذا يعني في زعمهم أن القرآن الذي بين أيدينا الآن غير مكتمل، إذ سقطت منه آيات الرضاع تلك.
ونحن نجيبهم بأن ما يستدلون به من قول عائشة - رضي الله عنها - وإن كان صحيحا فهو لا يعد دليلا على نقصان القرآن الكريم، ونترك تفصيل ذلك للدكتور. محمد بن محمد أبو شبهة الذي يقول معلقا على قول عائشة - رضي الله عنها - السابق: " إن هذه الرواية مهما صحت فهي آحادية لا يثبت بها قرآن؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ثم هي أيضا لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وهو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، وغاية ما تدل عليه هذه الرواية أنها خبر لا قرآن.
قال ابن حجر في معرض ذكر ما يقوي مذهب الجمهور القائلين بتحريم قليل الرضاع وكثيره: "وأيضا فقول عائشة: عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن - لا ينهض للاحتجاج على الأصح من قول الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر، فلم يثبت كونه قرآنا، ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم. [5]
ومما يدل على أنه ليس قرآنا، وأنه كان تشريعا ثابتا بالسنة ثم نسخ بالسنة - اختلاف الرواية عنها في القدر المحرم، ففي رواية الموطأ عنها: عشر رضعات، وعنها أيضا سبع رضعات، أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عنها، وعبد الرزاق أيضا، وجاء عنها أيضا: خمس رضعات، وهي مما يدل على أنه كان باجتهاد منها استندت فيه على ما ظهر من السنة، ولو كان قرآنا لما نقل عنها كل هذا الاختلاف.
واعترض أصحاب مالك على الشافعية - يعني القائلين بأن لا حرمة إلا بالخمس - بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به عندكم، وعند محققي الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت خبر الواحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم؛ لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح يوقف عن العمل به، وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد مع أن العادة مجيئه متواترا توجب ريبة، والله أعلم" [6].
وهكذا يتبين لنا إجماع الأئمة على أنه ليس بقرآن قط، وأقصى درجاته أن يكون خبرا صحيحا.
أما رواية أكل الداجن فهي مردودة متهافته، وليس أدل على هذا من أن القرآن كان محفوظا في الصدور، فضياع صحيفة منه - فرضا - لا يؤثر في ثبوت قرآنيته ما دامت تحفظه الكثرة الكاثرة من المسلمين، ثم إن القرآن كان مكتوبا في العسب والرقاع والعظام وصحائف الحجارة، ومثل هذه الأشياء مما لا يتيسر في العادة للداجن أن تأكله، لا سيما والرواية لم تعين لنا نوع هذا الداجن، أهو شاة أم حمام أم غيرهما
.
فإن قال قائل: فكيف يتفق ما ذهب إليه من تأويل وما ثبت في الرواية من قولها: " كان فيما أنزل من القرآن".
قلت - ولا يزال الكلام للدكتور أبو شهبة -: المراد كان فيما نزل من شرح القرآن وبيانه، ولا شك أن السنة شارحة للقرآن ومبينة له
* قال الله - سبحانه وتعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]
وأيضا فإن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ويكون الأمر من نسخ السنة بالسنة، ويكون قولها في الحديث: " فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ في القرآن"، أي: من حكم القرآن على أنه سنة لا قرآن، ولا شك أنهم كانوا يعنون بحفظ السنة أيضا، أو يكون المراد وهن مما يعلم من أحكام القرآن.
وللحديث تأويل آخر، وهو أنه يحمل على أنه كان قرآنا ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وبعد النسخ لم يعد يسمى قرآنا ولا له حكمه، فإن قيل: هذا تأويل مقبول لولا ما يعارض من قولها: "فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن مما يقرأ من القرآن" قلنا: إن غرضها الإخبار بأن هذا النسخ لم يقع إلا قبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلم بالنسخ الكثيرون، وتركوا القراءة به، ولم يعلم بعضهم فبقوا على القراءة حتى تيقنوا فيما بعد نسخه فتركوا القراءة به، قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى [7].
هذا وإن كان الرأي الأول هو الأرجح وهو أن آيات الرضاع ليست من القرآن، ويؤيد هذا الرأي أنها لو كانت من القرآن لما وقف العلم بها عند عائشة - رضي الله عنها - فحسب، يقول صاحب المنار: "لو صح أن ذلك قرآنا يتلى لما بقي علمه خاصا بعائشة، بل كانت الروايات تكثر فيه، ويعمل به جماهير الناس، ويحكم به الخلفاء الراشدون؛ وكل ذلك لم يكن" [8].
أما بالنسبة لما يدعيه هؤلاء من إسقاط بعض آيات سورة الأحزاب ومن ضمنها آية الرجم من المصحف العثماني، واستدلالهم على ذلك بقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها ووعيناها - رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف» [9].
وكذلك بما جاء عن زر بن حبيش أنه قال: قال لي أبي بن كعب: «كأين تقرؤون سورة الأحزاب؟ قال: قلت: إما ثلاثا وسبعين وإما أربعا وسبعين، قال: أقط إن كانت لتقارب سورة البقرة أو لهي أطول منها، وإن كانت فيها آية الرجم، قال: قلت: أبا المنذر، وما آية الرجم؟ قال: إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» [10].
ولإبطال دعواهم تلك يقول د. أبو شهبة: وأما الروايات عن عمر - رضي الله عنه - فهي صحيحة ولا شك، وليس من الصواب ولا البحث العلمي الصحيح رد روايات صحيحة بمجرد الهوى، ولكن الواجب أن نحملها على محاملها الصحيحة من غير تعسف ولا تكلف، فما هي المحامل الصحيحة لهذا الحديث؟ نقول: إن هذه الروايات آحادية فهي لا يثبت بها قرآن، ولا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وغاية ما تدل عليه أنها حديث من أحاديث رسول الله، وسنة من سننه، ولا ينافي هذا قول عمر - رضي الله عنه: " وكان فيما أنزل عليه" فإن جبريل - كما ذكرنا - كان ينزل ببعض السنة كما ينزل بالقرآن، وتسميتها آية بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي.
وكذلك قوله: "فقرأناها ووعيناها"، فالمراد به نرويها عن رسول الله - فعبر عن الرواية بالقراءة، ومنه يقال: فلان يقرأ الحديث والسنن على فلان، ويكون قوله: "والرجم في كتاب الله حق"، أي في شرع الله وحكمه وتقديره، أو يكون المراد به الإشارة إلى
* قوله - سبحانه وتعالى: (أو يجعل الله لهن سبيلا (15)) [النساء.]
فقد بينت السنة أن المراد جلد البكر ورجم الثيب، ويؤيد هذا التأويل قول الفاروق - رضي الله عنه: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في المصحف؛ إذ لا يقال زاد لما عرف أنه منه، لكنه لما كانت عنده سنة مؤكدة وحكما لازما حث على حفظها وقراءتها ودراستها، حتى لا يغفل الناس عنها، كما حث على حفظ أي القرأن.
والذي يؤكد هذا التأويل ما ورد عن عمر أنه قال: هممت أن أدعو بنفر من المهاجرين والأنصار، معروفة أسماؤهم وأنسابهم، وأكتب شهادتهم في ناحية المصحف أي حاشيته، هذا ما شهد عليه عمر بن الخطاب وفلان وفلان يشهدون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم في الزنا، وإني خفت أن يجيء قوم من بعد يرون أن لا يجدونها في كتاب الله فيكفرون بها، وعمر - رضي الله عنه - ما كان يخشى في الحق لومة لائم، فلو أنها كانت من القرآن لأثبتها، ولما خاف مقالة الناس، وكونه هم أن يكتبها في الحاشية لا في الصلب دليل على أنها ليست قرآنا.
قال العلامة الألوسي عند تفسير
* قوله - سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النّور: 2]
: إن الجلد نسخ في حق المحصن قطعا؛ لأن الحكم في حقه الرجم واختلف في الناسخ هل هي السنة القطعية، أو ما ذكره عمر - رضي الله عنه - من الآية المنسوخة " الشيخ والشيخة" قال العلامة ابن الهمام: إن كون السنة القطعية أولى من كون ما ذكر من الآية، لعدم القطع بثبوتها قرآنا ثم نسخ تلاوتها، وإن ذكرها عمر وسكت الناس، فإن كون الإجماع السكوتي حجة - مختلف فيه، وبتقدير حجيته، لا نقطع بأن المجتهدين من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذ ذاك حضورا، ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر ظني، ولهذا - والله أعلم - قال علي - رضي الله عنه، حين جلد شراحة ثم رجمها: قال "جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ.
ويؤيد هذا التأويل أيضا ما جاء «عن مروان بن الحكم أنه قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى بأن الشابين الثيبين يرجمان، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر: أنا أكفيكم؛ فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم؟ قال: لا أستطيع» [11].
وإن نظرة فاحصة في "الشيخ والشيخة... إلخ" لترينا أنها ليس عليها نور القرآن ومسحته، ولا فيها حكمته وإعجازه، وإن قول زيد - رضي الله عنه: ما يشير إلى عدم بلوغها الغاية في الدقة والإحكام، كما هو الشأن في القرآن، وهذا يدل على فرق ما بين كلام الله وكلام الإنسان.
إن هذه الآية كانت قرآنا ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، قال الإمام النووي رحمه الله: أراد بآية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وهذا مما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة على أن المنسوخ لا يكتب في المصحف، وبنحو ذلك قال ابن كثير في تفسيره والحافظ ابن حجر في الفتح.
ولعل السر في نسخ لفظها عدم إحكام معناها، وأن العمل على غير الظاهر من عمومها؛ فقد ذكر الحاكم عن عمر أنه قال: لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم، هذا إلى ما في ظاهرها من تجرئة الشاب على الوقوع في الزنا؛ إذ الشأن في الكبير والكبيرة البعد عن مواطن الإثم والفجور فاقتضت حكمة الله تنزيه الأسماع عن سماعها، وهذا الجواب الثاني إنما يتم بعد تسليم قرآنيتها، وقد خالف في هذا كثير من العلماء [12].
هذا بالنسبة لآية الرجم، أما عن سائر الآيات التي يزعم هؤلاء أنها سقطت من سورة الأحزاب، وعددها كما يزعمون مائة وثلاث عشرة آية، فلا بد أن ننبه أن رواية عمر الصحيحة لم يرد بها أي ذكر لتلك الآيات، وأنها وردت في رواية أبي بن كعب التي سبق ذكرها وفيها: أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة, وهي رواية صحيحة أيضا, ولكن المقصود من كلام أبي - رضي الله عنه - وهو من أعلام القراء ومن مشاهير الحفاظ من جيل الصحابة - أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في أول الأمر، ثم نسخت ولم يبق منها إلا ما هو موجود بأيدي الصحابة, ولولا ذلك لما سكت أبي وغيره من الصحابة على حذف حرف واحد، ناهيك عن هذا القدر العظيم.
والواضح من كلام أبي أنه مقام بيان لما نسخ وليس استنكارا لضياع أو حذف جزء من القرآن,ويدل على هذا الذي بيناه أن البخاري كتب في ذلك بابا في صحيحه سماه: باب من قال لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما بين الدفتين... ثم ذكر حديثا عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال له شداد بن معقل: أترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه,فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين". وعلق ابن حجر على ترجمة البخاري للباب بقوله: قوله - أي البخاري -: باب من قال: لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما بين الدفتين. أي: ما في المصحف.
وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين؛ لأن ذلك يخالف ما تقدم من جمع أبي بكر ثم عثمان. وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته... ووقع عند الإسماعيلي: "لم يدع إلا ما في هذا المصحف"، أي: لم يدع من القرآن ما يتلى إلا وهو داخل المصحف الموجود... إلى أن قال: ويؤيد ذلك ما ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق, مثل حديث عمر: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة"، وحديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة, قال: فأنزل الله فيهم قرآنا: "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا"، وحديث أبي بن كعب: "كانت الأحزاب قدر لبقرة"، وحديث حذيفة: "ما يقرءون ربعها"، يعني: برادة. وكلها أحاديث صحيحة، وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه: "كان يكره أن يقول الرجل: قرأت القرآن كله,ويقول: إن منه قرآنا قد رفع"، وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب؛ لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - [13]؛ إذ لا يعقل أن يقوم شخص - أيا كانت سلطته - بحذف حرف واحد من القرآن الكريم ولا يعترض على ذلك أحد من الصحابة؟
وبعد هذا البيان يحق لنا أن نقول بكل زهو وثقة: إن القرآن الذي جمع في عهد عثمان - رضي الله عنه، الذي هو بين أيدينا الآن هو كل القرآن الذي أنزله الله - عز وجل - على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تنله يد بزيادة أو نقصان ولو بحرف واحد منه، ولم لا؟ وقد وعد الله بحفظه في قوله - سبحانه وتعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (الحجر)، وكما شهد المسلمون وأجمعوا على هذا الحفظ، شهد أيضا المنصفون من غير المسلمين.
أكد "لوبلوا": أن القرآن هو الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه تغيير يذكر، وقال "و. موير": إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة...
فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الاجتماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى الخليفة عثمان بن عفان، الذي مات مقتولا [14].
• إن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد، والصحابة تحروا الدقة فيما جمعوا من القرآن، فعلم أن ما بين دفتي المصحف هو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان.
• إن قول عائشة - رضي الله عنها: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات.. إلخ" لا يعد دليلا على نقصان القرآن الكريم، إذ إن هذه الرواية - على الرغم من صحتها - آحادية، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وغاية ما تدل عليه هذه الرواية أنها خبر لا قرآن.
• على فرض أن آية الرضاع من القرآن، فقد نسخت في آخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز كتابتها في المصحف أو اعتبارها قرآنا.
• إن روايات آية الرجم آحادية ولا يثبت بها قرآن، وغاية ما تدل عليه أنها حديث من أحاديث رسول الله، وسنة من سننه، أما إذا افترضنا كونها قرآنا فهي أيضا مما نسخ لفظا وبقي حكما، ولا يجوز كتابتها في المصحف أو اعتبارها قرآنا.
• لا يعقل أن يقوم أحد - حتى ولو كان خليفة المسلمين - بحذف حرف واحد من القرآن، ولا يحاسبه أحد، ولا يعترض عليه معترض من الصحابة، بل لا يجرؤ أحد على ذلك، فما بالنا إذا علمنا أن جمهور الصحابة قد أيدوا عثمان - رضي الله عنه - فيما فعل، وأثنوا على عمله أشد الثناء.