البحث

عبارات مقترحة:

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

واجبات الحكام والمسئولين

العربية

المؤلف فؤاد بن يوسف أبو سعيد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. حاجة الناس إلى من يقودهم .
  2. أصناف الحكام .
  3. حيازة الخلفاء الراشدين على كمال العدل وقلة ذلك فيمن بعدهم .
  4. بعض واجبات الحكام تجاه رعيتهم .
  5. بعض حقوق الرعية تجاه ولاة الأمر .

اقتباس

يحتاج الناس في كل زمان، وعصر وأوان؛ إلى من سوسهم في دنياهم، وينظم شؤونهم، ويحافظ على أمنهم، ويرعى مصالحهم، ويقودهم إلى بَرِّ الأمان. لهذا -قديما وحديثا- اتخذت كل قبيلة زعيما، واتخذ كل شعب رئيسا وقائدا، أو ملكا أو سلطانا أو أميرا؛ يفزعون إليه في الملمات، ويهرعون إليه عند الاجتياحات، فعنده تحل المشاكل، وتفض القضايا والخصومات، وعنده يوجد العطاء والكرم والجود، ف...

الخطبة الأولى:

الحمد لله ...

يحتاج الناس في كل زمان، وعصر وأوان؛ إلى من سوسهم في دنياهم، وينظم شؤونهم، ويحافظ على أمنهم، ويرعى مصالحهم، ويقودهم إلى بَرِّ الأمان.

لهذا؛ -قديما وحديثا- اتخذت كل قبيلة زعيما، واتخذ كل شعب رئيسا وقائدا، أو ملكا أو سلطانا أو أميرا؛ يفزعون إليه في الملمات، ويهرعون إليه عند الاجتياحات، فعنده تحل المشاكل، وتفض القضايا والخصومات، وعنده يوجد العطاء والكرم والجود، فيستغني الفقير، ويأمن الخائف.

الناس كلُّهم جنوده يعيشون في كنفه، وحرسُه؛ رعيَّتُه وحماةُ دولتِه.

والسلاطين والحكام ليسوا سواء؛ فمنهم الظالم في حكومته المعتدي في دولته، ومنهم من تجبَّر وطغى: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) [النازعات: 24 - 25].

بل طلب من الناس أن يعبدوه ويؤلهوه، قائلا: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38].

وحاربَ كليمَ الله موسى -عليه السلام- الذي دعاه إلى الهدى، مستغلا سلطته، وقهره للعباد، فعاث في بني إسرائيل قوم موسى تقتيلا وتشريدا، حتى أغرقه الله وجنوده، فلم يبق منهم أحدا.

ومنهم العادل في حكومته، المنصفُ في رعيته، كنبي الله الملك داود -عليه السلام- الذي أدبه ربه، فقال له: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26].

ويذكر لنا القرآن الكريم من الملوك امرأةً احتجَّ طيرٌ من الطيور على تملكها وترؤسها على قومها الرجال، قال الله -سبحانه- على لسان الهدهد: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) [النمل: 23].

واستغرب منها ومن قومها كيف يعبدون غير الله -جل جلاله-؟! فقال: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) [النمل: 24].

والعدل والإنصاف عزيز في الحكام والسلاطين، وكان هذا العدل، وذاك الإنصاف في ذروته في عهد الخلفاء الراشدين، ثم خفّ قليلا في أواخر ملوك بني أمية، وبداية الملك العضوض، ودولة العباسيين، وكلما ابتعدنا عن عصر النبوة والخلافة الراشدة؛ كلما زاد الظلم ونقص العدل.

حتى وصل الظلم والتعدي ذروتَه في الملك الجبري؛ وذلك بانتهاء الملك العضوض، حيث تقطعت أوصال العالمين العربي والإسلامي، إلى عشرات الدول، وعشرات الحكام، وعشرات الأمراء.

واستقر الأمر على ذلك، وحكم كل دولة حاكم من أبنائها، وصارت له الولاية والسمع والطاعة في غير المعصية، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَبِي ذَرٍّ: "اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ" [البخاري (696)].

وقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" [مسلم (1847)].

هذا له، من حقّهِ على الرعية، فما هو واجبه تجاه الرعية؟ وما حكمه إن خالف هذه الواجبات؟

على الحاكم المسلم والسلطان المؤمن: ألاّ يركن إلى قوته، وكثرة جنده، وتطور سلاحه، وكثافة عتاده، وسعة ملكه؛ بل يجب عليه أن يعتزَّ بإسلامِه وإيمانِه بربِّه، وطاعتِه، وعدمِ عصيانِه، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ أَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! تَلْقَاكَ الْجُنُودُ وَبَطَارِقَةُ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ، فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّ بِغَيْرِهِ" [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 93) (34444)].

وإن من أهم واجبات الحكام والسلاطين: سياسة الدنيا وحراسة الدين، فبه تحفظ الثغور ويسود الأمن، وتؤمَّن سبل العيش والحياة.

وعليه: أن يوفر الأمن لأمته بكافة أشكاله وأنواعه، ومن ذلك: أمن الحدود، وحفظ الثغور على قدر طاقته واستطاعته، ويولى على ذلك أهل النجدة والشهامة والشجاعة، واحتسابِ الأجر على الله -تعالى-، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ" [مسلم (1913)].

ويؤمِّنَ السبلَ والطرق للناس من قطاع الطرق واللصوص، والخوارج والبغاة، ويوكِّل حرسا وحَفَظة يتناوبون الليل بينهم والنهار.

وأن الحاكم يكون متزنا لا متهوِّرا، يودي بالناس إلى المهالك، ويعرِّض أمته للمخاطر، ويتعرض لما لا طاقة له به.

وأن يكون ذا عدل وإنصاف، يحسن للمحسن، ويعاقب المسيء، ف "مَن عدل نفذَ حكمُه، وقرطس فِي المطالب سَهْمه، وَمن ظلَم تعجلَ زَوَال النعم، وحلول النقم.

وَقيل: مَن عدلَ حصَّن ملكَه، وَمن ظلم فقد استعجل هلكَه.

وَقيل: من عدل زَاد قدرُه، وَمن ظلم نقص عمره.

وَقيل: من عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه.

وَقيل: أفضلُ الْمُلُوك من أحسن فِي فعله وَنِيَّته، وَعدل فِي جنده ورعيته.

وَقيل: "من ساءت سيرته لم يَأْمَن أبدا، وَمن حسنت سيرته لم يخف أحدا" [تهذيب الرياسة وترتيب السياسة، ص: 193)].

ومن واجباتهم: الحفاظ على مقدرات الأمة، فهي ليست نهبا للأعوان، والمقربين والإخوان، وليست حكرا على حزب أو فصيل، أو جماعة أو قبيلة، فلا بد له من توسيد الأمور إلى أهلها، ووضع الأشياء على أبوابها، وإعطاء الحقوق لأصحابها، وإلاّ فلينتظر ثوابها أو عقابها.

وعليهم النهوض بالأمة في مواكبة الأمم والأخذ بكل ما هو جديد وبكل ما هو مفيد، فقد دوَّن عمر -رضي الله تعالى عنه- الدواوين أخذا من الفرس، وسَكَّ بنو أمية العملة النقدية الإسلامية، وكانوا قبلُ يتعاملون بالعملة الفارسية والرومية وعلى صور ملوكهم وصلبانهم ونيرانهم.

وعلى حكامنا ورؤسائنا: الاهتمامُ بالتعليم الشرعي والدنيوي، وابتعاث الطلبة ليدرسوا ما يعود بالخير والنفع عليهم وعلى الأمة، وكذلك ابتعاثُ من يبين للناس محاسنَ شرعنا ودينِنا، ويكونون دعاةَ خير للأمة والوطن، مبيِّنين الوجهَ المشرق لعاداتنا وتقاليدنا الموروثة، التي لا تخالف شرعنا وديننا، وهذه من مهمة السفراء والمبتعثين أن يكونوا مصابيحَ للأمَّة في الدول الأخرى.

وهذا لا يكون إلا باتخاذ دور العلم من مدارس ومعاهد وجامعات، شرعية ودنيوية.

فبوجود الحكامِ والرؤساءِ، والملوكِ والأمراء يأمنُ الناس؛ فيؤدون عباداتهم باطمئنان، ويؤذن للناس بتشييد المساجد، ورفع الأذان، وتدريس علوم الشريعة، والحج إلى بيت الله الحرام، وإعلان أوقات الصيام والإفطار.

وبإذن ولي الأمر أو إذنِ أميره أو وزيره؛ تقام الجمع والجماعات، وصلوات الأعياد والاستسقاء والخسوف، وهو الذي يوكِّل من يأخذُ الزكاة من أصحابها، ويؤديها إلى مستحقيها.

وبأمره يكون الجهاد والدفاع عن حوزة الأوطان والأرواح والأعراض والأموال، فعليه أن يأمر بتجييش الجيوش، وإعداد الجنود، وتصنيع العدة والعتاد اللازم في كل زمان بحسبه.

والحاكم أو بأمره تُجرَى المفاوضاتُ والمعاهدات، وتُنشأ السفاراتُ، وتُقامُ العلاقات بين مختلف الدول، حسب حاجة الأمة ومصلحتها، وتُوقَّع العهودُ والعقودُ التي تعود الأفراد والمجتمع بالخير والنفع، وتدفع عنهم الشرَّ والضرَّ.

وهو مسؤول عن هذه الأمة عن صغيرها وكبيرها، طرقها وحيواناتها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" [البخاري (2409)].

وفي رواية: "أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" [مسلم (1829)].

قال عمر -رضي الله عنه-: "والله لو عثرت بغلةٌ فِي العراق لوجدتني مسئولاً عنها" فقيل: لماذا يا أمير المؤمنين؟! فقال: "لأنني مكلف بإصلاح الطريق".

هذا مثال الحاكم العدل، ولهذا جعل الله له فضلاً عظيمًا" [موارد الظمآن لدروس الزمان (3/ 555)].

ومن واجبات الحكام والرؤساء: توفير ما يحتاجه الناس من الغذاء والكساء، والمسكن والدواء، وأماكن التداوي والاستشفاء، من عيادات ومصحات ومشافي ونحوها، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: أَنَّ عتبة بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ أَذَرْبِيجَانَ بِخَبِيصٍ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَشَبِعَ الْمُسْلِمُونَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ هَذَا؟!" فقال الرسول: لا! فقال عمر: "لا نريده" وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ من كَدِّكَ ولا من كَدِّ أبيك، ومن كَدِّ أُمِّك، فأشبع من عندك مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ" [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (5/ 49) ح(4216)].

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا يَسْتَرْعِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَبْدًا رَعِيَّةً، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، إِلاَّ سَأَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَقَامَ فِيهِمْ أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْ أَضَاعَهُ؟ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً" [مسند أحمد، ط الرسالة (8/ 260) (4637)].

"وَمن حسن السياسة، وَتَمامِ السِّيَادَة والرياسة؛ اخْتِيَارُ الْخَاصَّة والوزراء، وانتخاب الْكتاب والجلساء، واستشارةُ ذِي الرَّأْي من الْفُضَلاء" [تهذيب الرياسة وترتيب السياسة، للماوردي (ص: 133)].

"وَهَذَا أَمر يجب على الْمَلِك مراعاتُه؛ لما فِيهِ من حراسةِ الدّين، وَحفظِ المملكة، وحسمُ ذَلِك أَن يُرَاعِيَ الْعلمَ وَأَهلَه، وَيصرفَ إِلَيْهِم حظًّا من عنايته، ويعتمدَ أهلَ الْكَفَاءَة مِنْهُم بالتقريب والصيانة، وَأهل الْحَاجةِ مِنْهُم بالرفدِ والإعانة، فَفِي ذَلِك بهاءُ الْمُلكِ، وإعزازُ الدّين.

وَقد قيل: إِن من إجلالِ الشَّرِيعَة إجلالُ أهل الشَّرِيعَة.

وَقَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "لا يَسْتَرْعِي اللهُ عَبْدًا رَعِيَّةً، يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا؛ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" [درر السلوك في سياسة الملوك، للماوردي (المتوفى: 450هـ) (ص: 122)، والحديث رواه مسلم (142)].

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى: "أَمَّا بَعْدُ: إِنَّ أَسْعَدَ الرُّعَاةِ مَنْ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ, وَإِنَّ أَشْقَى الرُّعَاةِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ شَقِيَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ, وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْتَعَ فَيَرْتَعَ عُمَّالُكَ, فَيَكُونَ مِثْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ الْبَهِيمَةِ, نَظَرَتْ إِلَى خَضِرَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَرَتَعَتْ فِيهَا تَبْتَغِي بِذَلِكَ السَّمْنِ, وَإِنَّمَا حَتْفُهَا فِي سَمْنِهَا, وَعَلَيْكَ السَّلامُ" [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 94) (34448)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 50)].

وللحاكم استخدام الشدة في حينها، والرفق واللين عند لزومه، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ لَمْ تُؤَدِّبْ رَعِيَّتَكَ بِمِثْلِ أَنْ تَبْدَأَهُمْ بِالْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ عَلَى أَهْلِ الرِّيبَةِ بَعُدُوا أَوْ قَرُبُوا، فَإِنَّ اللِّينَ بَعْدَ الشِّدَّةِ أَمْنَعُ لِلرَّعِيَّةِ، وَأَحْشَدُ لَهَا، وَإِنَّ الصَّفْحَ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ أَرْغَبُ لأَهْلِ الْحَزْمِ" [تاريخ المدينة، لابن شبة (2/ 774)].

الخطبة الثانية:

بقي أن نقول: فما حقُّ الناسِ على ولاة الأمر؟

حَقُّ الناس على ولاة الأمر: أن يعدلوا فيهم، وأن يتقوا الله -تعالى- فيهم، وأن لا يشقوا عليهم، وأن لا يولوا عليهم من يجدون خيراً منه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم؛ فاشقق عليه".

دعاء من الرسول -عليه الصلاة والسلام-: أنّ ولي من أمور المسلمين شيئاً صغيراً كان أم كبيراً وشقَّ عليهم، قال: "فاشقق عليه" وما ظنك بشخص شقّ الله عليه -والعياذ بالله-؟!

إنه سوق يخسر وينحطُّ، وأخبرَ النبي -صلى الله عليه وسلم - أمة: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح؛ إلاَّ لم يدخل معهم الجنة".

إن من ولّى أحداً من المسلمين على عصابةِ وفيهم من هو خير منه؛ فقد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين؛ لأنه يجب أن يوليَ على الأمور أهلَها بدون أي مراعاة، يُنظر لمصلحة العباد فيولي عليهم من هو أولى بهم.

والولايات تختلف؛ يجبُ على وليِّ المسلمين أن يوليَ على المسلمين خيرَهم، ولا يجوز أن يوليَ على الناس أحداً وفيهم من هو خير منه؛ لأن هذا خيانة.

وكذلك أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة" -والعياذ بالله-.

فولاة الأمور عليهم حقوقٌ عظيمةٌ لمن ولاَّهم الله عليهم، كما على المولَّى عليهم حقوقاً عظيمة يجب عليهم أن يقوموا بها لولاة الأمر، فلا يعصونهم، حتى وإن استأثر وُلاة الأمور بشيء، فإن الجواب لهم السمعُ والطاعةُ، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، إلاَّ إذا كان ذلك في معصية الله، يعني لو أَمروا بمعصية الله، فإنه لا يجوز أن يأمروا بمعصية الله، ولا يجوز لأحد أن يطيعَهم في معصية الله.

وأما قول بعض الناس من السفهاء: إنه لا تجب علينا طاعةُ وُلاة الأمور إلا إذا استقاموا استقامة تامة؛ فهذا خطأ، وهذا غلط، وهذا ليس من الشرع في شيء، بل هذا من مذهب الخوارج، الذين يريدون من وُلاة الأمور أن يستقيموا على أمر الله في كل شيء -وأن يكونوا معصومين من الخطأ والزلل- وهذا لم يحصل منذ زمن فقد تغيرت الأمور.

وُيذكر أنَ أحدَ ملوك بني أمية؛ سمع أن الناس يتكلمون فيه وفي خلافته، فجمع أشرافَ الناس ووجهاءهم، وقال لهم: "إنكم تريدون منا أن نكونَ مثلَ أبي بكر وعمر؟" قالوا: نعم! أنت خليفة، وهم خلفاء، قال: "كونوا أنتم مثل رجال أبي بكر وعمر؛ نكنْ نحن مثل أبي بكر وعمر".

وهذا جواب عظيم، فالناس إذا تغيروا لا بد أن يغير الله وُلاتهم: "كما تكونون يولّى عليكم".

أمَّا أنَّ يريد الناسُ من الولاة أن يكونوا مثل الخلفاء، وهم أبعدُ ما يكونون عن رجال الخلفاء، هذا غير صحيح، الله حكيم -عزّ وجلّ-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].

وذكروا أن رجلاً من الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- جاء إلى عليّ، فقال له: يا عليّ! ما بال الناس قد تغيروا عليك، ولم يتغيروا على أبي بكر وعمر؟! قال: "لأن رجالَ أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك".

وهذا كلام جيد، يعني أنك لا خير فيك، فلذلك تغيَّر الناس علينا، لكن في عهد أبي بكر وعمر رجالهم مثل عليِّ بن أبي طالب وعثمانَ بنِ عفان وغيرِهم من الصحابة الفضلاء، فلم يتغيروا على وُلاتهم.

وكذلك أيضاً يجبُ على الرعية: أن ينصحوا لوليِّ الأمر، ولا يكذبوا عليه، ولا يخدعوه، ولا يغشوه.

ومع الأسف: أن الناس اليوم عندهم كذب وتحايل على أنظمة الدولة، ورشاوى، وغير ذلك مما لا يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم، إذا كانت الدول الكافرة تعاقب من يأخذ الرشوة ولو كان من أكبر الناس، فالذي يعاقب من يأخذ الرشوة هو الله -عزّ وجلّ-، وعقوبة الله أشد من عقوبة الآدميين، إلى غير ذلك من المعاصي التي يرتكبها الشعب، ثم يريدون من وُلاتهم أن يكونوا مثل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فهذا ليس بصحيح.

فولاة الأمور عليهم حقوقٌ يجب عليهم: النصحُ بقدرِ ما يستطيعون لله -عزّ وجلّ-، ولمن ولاَّهم الله عليهم.

والشعبُ أيضاً يجب عليهم حقوقٌ عظيمة لولاة الأمور، يجبُ عليهم أن يقوموا بها.

ومن الأمور التي يهملها كثير من الناس: أنهم لا يحترمون أعراض وُلاة الأمور، تجد فاكهةَ مجالسهم -نسأل الله العافية وأن يتوب علينا وعليهم- أن يتكلموا في أعراض وُلاة الأمور، ولو كان هذا الكلام مجدياً وتصلح به الحال؛ لقلنا: لا بأس، وهذا طيب، لكن هذا لا يجدي، ولا تصلح به الحال، وإنما يوغرُ الصدور على وُلاة الأمور، سواء كانوا من العلماء أو من الأمراء، ويكرِّهُ العلماءِ إلى الناس، ولا يحصل فيه فائدة.

وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- كلمة جامعة مانعة- جزاه الله عن أمته خيراً-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".

والعجب: أن بعض الناس لو أردت أن تتكلم في شخص عاديٍّ من الناس قالوا: "لا تغتبه، هذا حرام".

ولا يرضى أن يتكلم أحدٌ في عِرض أحدٍ عنده، لكن لو تكلمت في واحد من وُلاة الأمور فإنه يرى أن هذا لا بأس به!.

ولو أن الناس كَفُّوا ألسنتهم، ونصحوا لولاة أمورهم، ولا أقول: "اسكت على الخطأ" لكن اكتب لوُلاة الأمور، اكتب كتاباً إن وصل فهذا هو المطلوب، وإذا انتفعوا به فهذا أحسن، وإذا لم ينتفعوا به، فالإثم عليهم، إذا كان خطأ صحيحاً، وإذا لم يصل إليهم فالإثم على من منعه عنهم" [بتصرف، شرح رياض الصالحين (2/ 423 - 428)].

والخلاصة: أنّ من حقنا عليهم: "أن يحكموا فينا بالعدل، وألا يظلموا أحداً، وأن يقيموا حدود الله على عباده الله، وأن يقيموا شريعة الله في أرض الله، وأن يجاهدوا أعداء الله، هذا الذي يجب عليهم، فإن قاموا به؛ فهذا هو المطلوب، وإن لم يقوموا به؛ فإننا لا نقول لهم: "أنتم لم تؤدوا الحق الذي عليكم، فلا نؤدي حقكم الذي لكم" هذا حرام، يجب أن نؤديَ الحقَّ الذي علينا، فنسمع ونطيع، ونخرج معهم في الجهاد، ونصلي وراءهم في الجمع والأعياد وغير ذلك -ونسأل الله الحقَّ الذي لنا-.

وهذا، هو مذهب أهل السنة والجماعة، مذهبُ السلف الصالح؛ السمعُ والطاعةُ للأمراء، وعدم عصيانهم فيما تجب طاعتهم فيه، وعدم إثارة الضغائن عليهم، وعدم إثارة الأحقاد عليهم، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة [بتصرف، من شرح رياض الصالحين (3/ 666)].

اللَّهُمَّ هَبْ لنا قلوبًا تَقِيّة نَقِيّة، مِنَ الشَّرِّ بَرِيّة، لا كَافِرة وَلا شَقِيّة.

اللهم أصلح قلوبنا وجميع شئوننا.

اللهم اجمع كلمتنا على الحقِّ، وقوِّم ولاة أمورنا.

اللهم اهدِ ضُلاَّلنا، وأرشد غواتنا، وأصلح مستقبلنا، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم صلِّ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا