الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | المعارف اللغوية |
يدعي بعض المتوهمين أن ثمة تعارضا بين
* قوله عز وجل: ( الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)) [البقرة،]
* وقوله عز وجل: وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام: 92]
حيث أشار عز وجل في الآية الأولى إلى القرآن بإشارة البعيد "ذلك"، وفي الثانية بإشارة القريب "هذا" **.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في اسم الإشارة أن يطابق المشار إليه في نوعه: التذكير أو التأنيث، وفي عدده: المفرد أو المثنى أو الجمع، ويوافقه قربا أو بعدا.
وهذا ما نجده في إشارات القرآن الكريم، أما ما يتوهمه بعضهم من أن في القرآن اضطرابا في استخدام أسماء الإشارة فوهم باطل من وجوه:
1) أن الإشارة لـ "الكتاب" بإشارة "القريب"؛ للدلالة على أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع، والألسنة، والقلوب، ووجه الإشارة إليه بإشارة "البعيد": بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين.
2) أن "ذلك" إشارة إلى ما تضمنه قوله: "الم"، وإنما أشار إليه "إشارة البعيد"؛ لأن الكلام المشار إليه منقض، ومعناه في الحقيقة: "القريب"؛ لقرب انقضائه.
3) أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد، فتكون الآية على أسلوب من أساليب العرب، وتستعمل اسم الإشارة "ذلك" في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب.
إن توهم بعض هؤلاء أن هناك اضطرابا في استخدام اسم الإشارة في
* قولــه تعالـى: (الم (1) ذلك الكتـاب لا ريـب فيه هـدى للمتقيـن (2)) []
غير صحيح؛ وذلك لأن:
أولا. الإشارة إلى القرآن بإشارة "القريب" تفيد أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع، والألسنة، والقلوب، وفيه ترغيب في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه، ووجه الإشارة إليه بإشارة "البعيد": بعد مكانته ومنزلته عن مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين.
فإن قال قائل: لـم صحت الإشارة بـ "ذلك" إلى ما ليس ببعيد؟ قلنا: لأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، وبعد مرتبة المشار إليه عن مرتبة كل كتاب سواه، كما يعطفون بـ "ثم" للإشعار بتراخي المراتب، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه" [1].
ثانيا. "ذلك" إشارة إلى ما تضمنه قوله: (الم)، وإنما أشار إليه "إشارة البعيد"؛ لأن الكلام المشار إليه منقض، ومعناه في الحقيقة: القريب؛ لقرب انقضائه.
ونضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة: والله إن "ذلك" لكما قلت، ومرة يقول: والله إن "هذا" لكما قلت، فإشارة "البعيد"؛ نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى، وإشارة "القريب"؛ نظرا لقرب انقضائه، ونحوه
* قوله عز وجل: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68]
، فالإشارة إلى فارض وبكر إنما أشير إليهما بصيغة البعد لتقضي ذكرهما.
ثالثا. العرب ربما أشارت إلى القريب "إشارة البعيد" فتكون الآية على أسلوب من أساليب العرب:
* يقول عز وجل: (ذلك الكتاب) []
والمعنى: هذا الكتاب، وذلك قد يستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب - كما قال عز وجل في الإخبار عن نفسه:
* (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6)) [السجدة،]
ومنه قول خفاف بن ندبة السلمي:
أقول له، والرمح يأطر [2] متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي: أنا هذا. فـ "ذلك" إشارة إلى القرآن، موضوع موضع "هذا"، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه، وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما رضي الله عنه، ومنه
* قوله عز وجل: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 83]
أي: هذه؛ لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل: "تلك"، وفي البخاري: وقال معمر: ذلك الكتاب: "هذا القرآن".
وقد صرح النحاة بجواز استعمال "هذا" و "ذلك" في مثل هذا السياق، قال ابن مالك: "وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب؛ لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد؛ لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مشارا بهما إلى ما ولياه من الكلام" [3].
• السر في استخدام الإشارة بالبعيد مع الكتاب القريب في
* قوله تعالى: (ذلك الكتاب) []
الإيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال؛ فنزل بعد المرتبة منزلة البعد الحسي، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه؛ إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإكمال الكتاب كله، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي، إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إن شيئا بعيدا عنه - عز وجل - أو قريبا منه في المكان الحسي؛ لأن كل الأشياء بالنسبة إليه - عز وجل - سواء[4].
• السر البلاغي في تعريف الكتاب بالألف واللام: التفخيم لأمره، وهو في الأصل مصدر،
* قال عز وجل: ۞ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 24]
وذكر اسم الإشارة مراعاة لتذكير "الكتاب" سواء أكان الكتاب خبرا، أم بدلا، فإن اعتبر خبرا؛ فهذه مراعاة لشيوع اعتبار أحوال الأخبار في التذكير والتأنيث، والإفراد والجمع كقول امرئ القيس:
وبدلت قرحا [6] داميا بعد صحة
فيا لك من نعمى تحولن [7] أبؤسا
فالضمير في "تحولن" عائد على "نعمى"، وإنما جمع مراعاة للخبر وهو "أبؤس". وإن عد بدلا فالتذكير أوضح؛ لأن الإشارة واقعة على الكتاب.
وإذا كان خبرا: فالتعريف للجنس، ويستفاد من التركيب قصر حقيقة الكتاب على القرآن؛ لما فيه من تعريف المسند والمسند إليه، وهو داخل فيما يسمى "القصر الادعائي"، ويراد أنه الكتاب الجامع للصفات الكمالية في جنس الكتب؛ حتى صار ما عداه بجانبه في حكم العدم، ومثله شائع في الكلام العربي، كقولهم: محمد هو الرجل، ويراد به أنه اجتمعت فيه صفات الرجولة حتى كأن من عداه لم يعد لهم شيء منها، ومن هذا الباب قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج [8] دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وإذا كان بدلا: فالتعريف للعهد، ويراد به الكتاب المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - المرموز إليه بفاتحة هذه السورة، ولا يضير كونه لم يكتمل إنزاله عندما نزلت الآية؛ لأن للبعض حكم الكل، وما نزل قبلها جانب عظيم منه؛ فإن أغلبه كان نزوله بمكة، ومع ذلك يمكن أن تكون في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن الله - عز وجل - سينجز وعده لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بإنزال جميع الكتاب عليه فيما بعد [9].
• السر البلاغي في التعبير بلفظ: الريب، وإيثاره على لفظ الشك، وتقديمه على الجار والمجرور: أن (لا ريب) مجاز بمعنى: أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته، أي: ليس فيه اضطراب ولا اختلاف، فيكون الريب هنا مجازا في سببه. وقدم الريب على الجار والمجرور؛ لأنه أولى بالذكر استعدادا لصورته، حتى تتجسد أمام السامع.
والريب والريبة: الشك والظنة والتهمة، والمعنى: أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب، فلا شك فيه ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا من جهة كونه هاديا مرشدا.
* • قوله عز وجل: (هدى للمتقين) []
فيه إسناد الهداية للقرآن، وهو من الإسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله رب العالمين، ففيه مجاز عقلي.[10][11] وهذا المجاز علاقته اعتبار ما يئول إليه: أي الصائرين إلى التقوى، وفي ذكر" المتقين" إيجاز؛ لأن التقوى اسم جامع لكل ما تجب الوقاية منه.
وعليه فقد ثبت لنا بالحجة الدامغة والبرهان الساطع أن الآيتين خاليتان من الاضطراب والتعارض.