الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | علوم الحديث النبوي الشريف والسنة النبوية المطهرة |
يدعي بعض المتوهمين أن القواعد والضوابط الكلية للحكم على الحديث الموضوع لم تعرف إلا في القرن الثامن الهجري, ويستدلون على ذلك بأن أول من جمع هذه القواعد والضوابط الكلية هو ابن قيم الجوزية, والذي توفي في منتصف القرن الثامن الهجري (751هـ), في كتابه "نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول"، كما أن صحيحي البخاري ومسلم لم يعرضا على هذه القواعد. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في صحة الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة, والطعن في أحاديث صحيحي البخاري ومسلم خاصة.
وجها إبطال الشبهة:1) إن المتأمل لجهود علماء الأمة في مقاومة الوضع في الحديث النبوي ليجد أن هذه الجهود قد بدأت منذ ظهور الوضع في أثناء الفتنة, ومن حينها والسنة محاطة بسياج من التوقي والنقد, فلا ينفذ إليها دخل, ولا يخلص إليها دخيل, وقد مارس العلماء قواعد الحكم على الحديث الموضوع على أرض الواقع مباشرة منذ فجر الرواية والتحديث, وقد جاءت بعض هذه القواعد في مؤلفاتهم, كما راعوها في تأليفهم تطبيقا، وذلك كله كان قبل القرن الثامن الهجري.
2) اتفق العلماء على أن أصح كتابين بعد كتاب الله صحيحا البخاري ومسلم, وقد تلقتهما الأمة بالقبول, وليس ذلك ناتجا إلا عن فحص، وتدقيق، وتطبيق لقواعد وضوابط الحكم على الحديث, وما استدراكات الحاكم والدارقطني والبيهقي إلا دليل على تناول الصحيحين بالفحص.
التفصيل: أولا. ممارسة علماء الحديث قواعد الحكم على الحديث الموضوع منذ فجر الرواية والتحديث:لم تكن ضوابط الرواية وقوانينها إلا ثمرة من ثمرات تصدي العلماء للوضع في الحديث, ونتيجة من نتائج جهودهم في نفي الكذب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بدأت جهود العلماء منذ عصر الراشدين - رضي الله عنهم - في حيطة السنة بسياج من التوقي والنقد, فلا ينفذ إليها دخل, ولا يخلص إليها دخيل, وإنما تبقى على أصل نقائها بغير شائبة تشوبها.
وقد سلك العلماء في مقاومة الوضع مسالك شتى, منها التثبت في السماع والتشديد فيه, وقد بدأ الأمر مبكرا على عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو كما قال الذهبي عنه: "أول من احتاط في قبول الأخبار"، وقصته في توريث الجدة مشهورة، وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومواقفه في ذلك معلومة, قال عنه الذهبي: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل", وكان علي - رضي الله عنه - شديد التحري في الأخذ, بالغ التثبت فيه.
وجاء في صحيح مسلم أن محمد بن سيرين قال: «إن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم»([1])، وفيه عن سليمان بن موسى قال: «لقيت طاوسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت, قال: إن كان صاحبك مليا فخذ عنه»([2]).
قال النووي: "قوله: "إن كان مليا": يعني ثقة ضابطا متقنا, يوثق بدينه ومعرفته, ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملي بالمال ثقة بذمته".
وبمثل هذا وصى الأئمة طلاب علمهم, فقد أخرج الخطيب بسنده عن معن بن عيسى, قال: "كان مالك بن أنس (ت: 179هـ) يقول: لا يؤخذ العلم من أربعة, ويؤخذ ممن سوى ذلك، لا يؤخذ من سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس, ولا يؤخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه, وإذا كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله, ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه, ولا من شيخ له فضل وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث"([3]).
إذا علمنا ذلك وغيره, تبين - بما لا يدع مجالا للمماحلة أو اللجج - مدى تثبتهم وحيطتهم في قبول المرويات, وحرصهم على الأخذ عن الأثبات الثقات, كل ذلك في القرون الأولى المتقدمة على القرن الثامن الهجري.
ومن مسالكهم في مقاومة الوضع، الكشف عن معايب رواة الحديث,وهذا مسلك سلكه العلماء منذ مطلع فجر الرواية والتحديث, فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل, فقال ابن عباس: كذب عدو الله...»([4])، وتتابع العلماء على ذلك لا يحابون أحدا, ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم, حتى ليتكلم الرجل في أبيه من أجل الدين.
قال ابن حبان: "سئل علي بن المديني - وهو شيخ البخاري - عن أبيه، فقال: اسألوا غيري, فقالوا: سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه وقال: هذا هو الدين,أبي ضعيف"([5])، بل كان علماء الحديث يتقربون إلى الله - عز وجل - ببيان أحوال الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان شعبة يقول: تعالوا حتى نغتاب في الله عز وجل([6]).
وقال محمد بن بندار لأحمد بن حنبل(ت: 241هـ): "إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف, فلان كذاب, فقال أحمد: إذا سكت أنت وسكت أنا, فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم"([7]).
لقد ألزم العلماء أنفسهم ببيان أمر الكذابين، وإظهار حالهم ليتوقف عن الاحتجاج بهم.
ومن هاتيك المسالك أيضا تضييق الخناق على الوضاعين, وذلك بمواجهتم المباشرة مع الوضاعين؛ ليكون ذلك زاجرا لهم عن التمادي في الكذب والاختلاق، وقد كان ذلك بتعنيفهم للوضاعين بمقاطعتهم، وعدم إلقاء السلام عليهم، وذلك بعد تذكيرهم بالله مع تماديهم في الكذب,وإن تمادوا بعد ذلك وكذبوا استعدى العلماء عليهم السلطان ليزدجروا عن وضعهم وإفكهم.
وثمة مسلك في غاية الأهمية, وهو فحص الإسناد والذي تأسس بناء عليه علم الجرح والتعديل, فقد برز الفحص عن الإسناد درعا يتحطم عليه الكذب, ويتبين به الصحيح من الزائف؛ إذ الإسناد للحديث كالنسب للرجل.
يقول ابن المبارك فيما يرويه مسلم في مقدمة صحيحه: «الإسناد من الدين, ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»([8]).
وعن محمد بن سيرين قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»([9]).
وقد قيل: إن أول من فتش عن الإسناد الشعبي, وقيل: محمد بن سيرين، والأقرب أن التفتيش عن الإسناد ونقد الرجال كان معمولا به من جهة الصحابة أنفسهم وبوصية منهم, فقد روى ابن عبد البر عن ابن معين أنه قال: "كان فيما أوصى به صهيب بنيه أنه قال: يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ثقة"([10]). وقد كان الزهري (ت: 124هـ) لا يحدث إلا بالإسناد. وعلم الجرح والتعديل علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة عن مراتب تلك الألفاظ([11])، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار, وأفتوا بذلك حين سئلوا, لما فيه من عظيم الخطر؛ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي لتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب, فإذا كان الراوي ليس لها بمعدن للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته, كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين, إذ لا يؤتمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها, ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات، وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع"([12]).
مما سبق يتضح للعيان أن قواعد التحديث والحكم على الحديث عرفت منذ ظهور الوضع, وقد استخدم العلماء هذه القواعد والضوابط فعليا وعمليا, من التثبت في السماع والكشف عن معايب رواة الحديث وتضييق الخناق على الوضاعين وفحص الإسناد الذي أدى بدوره إلى ظهور علم الجرح والتعديل, ولقد كان كل هذا يتداول بين العلماء, يمارسون هذه القواعد, لينفوا الزيف عن السنة, ويدفعوا عنها الدخيل.
ولقد كان كل هذا في وقت مبكر جدا, وليس كما يدعي المتوهمون أنه لم يكن ثمة معرفة بهذه القواعد قبل القرن الثامن الهجري.
وإذا قلنا: إن قواعد التحديث والمحدثين تتغيا معرفة الرواة والمرويات؛ ببيان صفاتهم وأحوالهم, والطرق الموصلة إلى ذلك وتتبعها ونقدها، وبيان ما لها وما عليها، وكذلك المنهج الذي ساروا عليه في التأليف والنقد, والتعديل والتجريح, إذا قلنا هذا, فإن هذا الأمر قد هيمن على الحركة العلمية الحديثية من حين اهتم أبناؤها بجمع الحديث النبوي, بل من حين عرف الصحابة الكرام أهمية الحديث ومكانته بالنسبة للتشريع عموما وخصوصا.
وعليه يمكن القول بأن هذه القواعد قد نشأت في وقت مبكر، تزامن مع بدء الرواية والتحمل والأداء, وقد كان لدى الصحابة ما يمكن أن نطلق عليه "قواعد تحديث" أو "أصول الحديث".
مما يقطع بأن لهذه القواعد بدايات مبكرة، وإن لم تأخذ شكل العلوم المدونة في الكتب, والمسماة باسمها الخاص المشعر بها,أو لم تتبلور في صورة علم محدد مدون من هذه الناحية.
معنى هذا أن البدايات الأولى للقواعد قد ظهرت في عهد النبوة وإن لم تأخذ صفة الانتشار, أو تتبلور في صورة أفكار واضحة محددة, شأن كل العلوم التي حددت معالمها فيما بعد ووضعت عليها أسماؤها.
وإننا لا نبالغ إذا قلنا: إن القواعد والضوابط للحكم على الحديث لم يبتدعها علماء الحديث, بل إن الصحابة الكرام قد مهدوا الطريق لها؛ إذ يرجع الفضل للصحابة في بدء علم الرواية بما وعته صدورهم، ثم بما وضعوا للرواية من قوانين, ومنها: إحجام كثير من أعلام الصحابة عن الإكثار من الرواية؛ لأن الحديث عن رسول الله شديد, ومنه التشدد في قبول الأخبار والتثبت في السماع, ومنها ظهور بعض المصطلحات الحديثية خاصة ما يتعلق بالجرح والتعديل, بل لقد اعتبر الحاكم زعماء الطبقة الأولى من طبقات الجرح والتعديل: أبا بكر وعمر وزيد بن ثابت, وقال: إنهم قد جرحوا وعدلوا وبحثوا عن صحيح الروايات وسقيمها.
هذه بعض الأدلة التي يقف القارئ من خلالها على أن لقواعد المحدثين بدايات مبكرة تزامنت مع عصر الرواية ومراحلها الأولى.
ومن ثم يمكن القول: إن القرن الأول الهجري يعد بداية التكوين الرسمي لقواعد المحدثين, وبعده وخلال القرن الثاني الهجري مرت القواعد بعدة أدوار اكتملت من خلالها سائر مباحثها وأنواعها. كل هذا، وهذه القواعد معروفة بين العلماء مشتهرة بينهم تجري على ألسنتهم ألفاظ الجرح والتعديل والحكم على الرجال وعلى الأحاديث.
وبعد ذلك بدأ تدوين هذه القواعد في مؤلفات خلال القرن الثالث الهجري, الذي يعد بحق العصر الذهبي لتدوين السنة وعلومها, حتى شمل التدوين سائر فروعها, وبرزت الاصطلاحات الحديثية التي تداولها العلماء.
فلما كان منتصف القرن الرابع الهجري وما بعده ظهرت الكتب الخاصة, والتي تعد من أمهاتها, ولا تزال المرجع الذي لا غنى عنه لمبتغي هذا العلم, والتي منها:
· المحدث الفاصل بين الراوي والواعي, وهو لأبي محمد الحسيب بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (ت: 360هـ).
· معرفة علوم الحديث، وهو لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت: 405هـ), وقد بحث في اثنتين وخمسين قاعدة من قواعد علوم الحديث.
· الكفاية في معرفة أصول علوم الرواية, والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع, وهما للخطيب البغدادي (ت: 463هـ).
· الإلماع في أصول الرواية والسماع للقاضي عياض (ت: 544هـ).
· علوم الحديث, لابن الصلاح (ت: 643هـ)([13]).
وهكذا قعدت القواعد في مسائل النقل، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، والتوثيق والتضعيف, وتقييم أحوال الرواة في الأسانيد ضبطا وعدلا, واتصالا وانقطاعا, وقبولا وردا حتى انكشف الصبح لذي عينين, وتميز صحيح الأحاديث من سقيمها, وأصيلها من منحولها, بفضل الله - عز وجل - ثم بفضل همة المخلصين من علماء الأمة وصلحاء البرية؛ إذ تصدى فريق من حفاظهم للتأليف، والإبانة عن الثقات من الرواة, واقتصر المؤلفون في كتبهم على العدول من أهل الثقة والأمانة والتثبت والحفظ والإتقان، ومن متقدمي هذا الفريق: الإمام أبو الحسن أحمد بن عبدالله العجلي (ت: 261هـ)، وأبو حاتم بن حبان البستي (ت: 385هـ).
وتصدى فريق ثان للتأليف والإبانة عن "الضعفاء" من الرواة, تحذيرا للأمة منهم, وتنبيها للباحثين من التعويل على نقلهم, واقتصر المؤلفون في كتبهم على ذكر أسماء وأحوال المجروحين من أهل الغفلة، والكذب، ووضع الأحاديث زورا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا الفريق الأئمة الحفاظ من أمثال البخاري (ت: 256هـ), والنسائي (ت: 303هـ), ومحمد بن عمرو العقيلي (ت: 322هـ), والدارقطني (ت: 385هـ)([14])، وهم من علماء القرن الثالث والرابع الهجريين.
ومن هذه الكتب كذلك, كتاب الضعفاء لابن المديني (ت: 234هـ), وهو شيخ البخاري، وكتاب الضعفاء لابن البرقي (ت: 249هـ)، وكتاب الضعفاء للبخاري (ت: 256هـ)، وكتاب الضعفاء للجوزجاني السعدي (ت: 259هـ)، وكتاب الضعفاء والمتروكين للبردعي (ت: 292هـ)، والضعفاء لابن الجارود (ت: 299هـ)، والضعفاء والمتروكين للنسائي (ت: 303هـ)، والضعفاء للساجي (ت: 307هـ), والضعفاء للعقيلي (ت: 322هـ)، والضعفاء للجرجاني (ت: 323هـ)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (ت: 385هـ).
وكثير غير هذه الكتب مما ألف في القرون المتقدمة على القرن الثامن الهجري بقرون, والتي تدل على وعي تام من العلماء بقواعد وضوابط الحكم على الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف والموضوع.
كما أولى أئمة النقد وعلماؤه التصنيف في الكذابين والضعفاء أهمية كبيرة, اعتنوا أيضا بتأليف الكتب في الأحاديث الموضوعة, ومن هذه الكتب: موضوعات النقاش(ت: 414هـ)، الأباطيل للجوزقاني (ت: 543هـ)([15]).
ومن المعروف في تاريخ علم الحديث أن حركة جمع الحديث ونقده وتمييز صحيحه من ضعيفه, والبحث في أحوال الرجال والحكم لهم أو عليهم - قد بدأت في القرن الثالث الهجري, ففي هذا العصر ألفت كتب الحديث, فظهر صحيح البخاري (ت: 256هـ)، وصحيح مسلم (ت: 261هـ), وسنن ابن ماجه (ت: 237هـ)، وسنن أبي داود (ت: 275هـ) وجامع الترمذي (ت: 279هـ)، وسنن النسائي (ت: 303هـ)([16]).
ولا يشك عاقل في أن هؤلاء الذين ألفوا في الصحيح كالبخاري ومسلم, أو في السنن كابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والنسائي كانوا على دراية واسعة بقواعد الحكم على الحديث وضوابطه، وعلى علم كامل بأسس تمحيص الروايات وتمييزها ونقدها, وإلا لما درأ كل منهم الأحاديث غير الصحيحة وأقصاها عن مؤلفه, أو أدرجها وأشار إلى درجة ضعفها كما فعل الترمذي، فعلى أي أساس فعلوا ذلك، إلا على أساس معرفة القواعد والضوابط التي كانوا يمارسونها ويباشرونها على أرض الواقع، كل ذلك قبل القرن الثامن.
وأما أن ابن القيم هو الذي أفرد هذه القواعد في مصنف مستقل, فإن هذا لا يعني عدم وجودها قبله, سواء كانت موجودة بالممارسة الفعلية أو كانت في بطون الكتب كما ذكرنا، وما زاد ابن القيم على أن جمع شتات هذه القواعد والضوابط في مكان واحد.
إن التقول بعدم معرفة العلماء لقواعد الحكم على الحديث الموضوع وضوابطه إلا في القرن الثامن الهجري قول بغير دليل، والواقع يرده ويحكم ببطلانه، وهو اعتساف بغير تدبر, يتنزه عنه الباحث الذي يبتغي الحقيقة ويبحث عنها.
ثانيا. صحيحا البخاري ومسلم في ميزان النقد:لقد سطع في سماء علوم الحديث الإمام البخاري (ت: 256هـ)، والإمام مسلم (ت: 261هـ), وصار لكتابيهما الصحيحين منزلة لا تضارع في هذا المجال.
ولذلك صوب خصوم الإسلام سهامهم نحو هذين العلمين؛ لأن في النيل منهما نيلا من المعارف التي برزا فيها, ولذا سعوا لتحقيق ذلك بكل ما أوتوا من دهاء ومكر وخديعة.
إن صحيحي البخاري ومسلم كتب الله لهما الذيوع, وقد تلقتهما الأمة بالرضا والقبول, وأجمعت على اعتمادهما بعد كتاب الله في العمل للدنيا والآخرة, والأمة لا تجتمع على ضلالة كما في الحديث الشريف من طرق متعددة([17]).
لقد كانت هناك عناية تامة من الإمام البخاري، والإمام مسلم في انتقاء الأحاديث التي أودعها كل منهما كتابه, وفي وضع شروط خاصة وعالية في وضع المتون والأسانيد حتى لا يدون في الكتابين إلا ما كان صحيحا, ولهذا انتشر الكتابان باسم الصحيح, "صحيح البخاري" و "صحيح مسلم", واشتهرا بالصحيحين([18]).
لقد كان البخاري ومسلم على درجة عالية من الدقة في انتقاء الرجال والأخذ عنهم، ولقد انتقى البخاري كتابه وجامعه الصحيح، والذي تبلغ عدة أحاديثه أربعة آلاف حديث دون المكرر والمعلقات والمتابعات من ستمائة ألف حديث, وانتقى مسلم جامعه، والذي تبلغ عدة أحاديثه أربعة آلاف أيضا بإسقاط المكرر من كثير من الأحاديث التي كان يحفظها([19]).
ولا ريب أن درأهم للأحاديث الأخرى التي لم يذكروها في صحيحيهما دليل على معرفتهم الواعية الفاحصة بقواعد الحكم على الحديث ونقده وتمحيصه, فاختيارهم لرجال بأعينهم، وبشروط صارمة، دليل على معرفة قواعد التحديث، والحكم على الرجال، أي معرفة قواعد الجرح والتعديل.
وأما أن قواعد الحكم على الحديث لم يعرض عليها صحيحا البخاري ومسلم فهذا كلام غير صحيح, ولا دليل عليه؛ وإليك البيان:
إن صحيحي البخاري ومسلم لم يؤخذا قضية مسلمة أبعدت عنهما بحث النقاد وتوثيقهم لهما, وإنما الذي حدث هو العكس, فقد درس الأئمة كلا من الكتابين سندا ومتنا, وعرضوهما على أدق المقاييس النقدية الصحيحة التي التزمها صاحبا الصحيحين في كتابيهما, فنظر الأئمة فيما اشترطه كل منهما, هل وفى به أم أخلا؟
فكانت النتيجة أن استدرك جماعة من الحفاظ على البخاري ومسلم عدة أحاديث رأوا أنهما أخلا فيهما بشرطهما, وأنها لا تبلغ في صحتها مبلغ ما غلب عليهما إخراجه, وتكلموا في هذه الأحاديث من جهة أسانيدها، ومن جهة متونها, ولا يصل استدراكهم أو تكلمهم في هذه الأحاديث إلى حد النزول بها إلى درجة الوضع, بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذي لا يحتمل, وغاية ما هنالك أنهم رأوا قصورها عن درجة ما دأب عليه الشيخان، وما التزماه من إخراج أصح الصحيح.
يدل على ذلك ما قاله الحافظ العقيلي (ت: 322هـ): "لما صنف البخاري كتاب الصحيح, عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة". قال الإمام النووي: "قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه... وقد ألف الدارقطني (ت: 385هـ) في بيان ذلك كتابه المسمى بـ "الاستدراكات والتتبع"([20]), وذلك في مائتي حديث معا في الكتابين, ولأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهم استدراك، ولأبي علي الغساني الجياني في كتابه "تقييد المهمل" في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما, وفيه ما يلزمهما, وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره"([21]).
إن ما قام به الدارقطني وغيره من علماء الحديث من استدراكات على صحيحي البخاري ومسلم لهو دليل على الحرية التي كان يتمتع بها المسلمون مع كتب الصحاح, باعتبارها كتب حديث تطبق عليها القواعد والضوابط الحديثية, ولو كانت هذه الكتب منتقاة أحاديثها من آلاف الأحاديث.
وإن هذا النقد ليدل على الإتقان الذي يبث في النفوس الاطمئنان إلى سلامة السنة المعتمدة لدى الأمة من التزوير والخلل؛ إذ لم ينظر المحدثون إلى هذين الإمامين نظرة تقديس ترفعهما إلى درجة العصمة من الخطأ والسهو, ولكن ليعلم أن بعض هذه الأحاديث التي انتقدت على الصحيحين كان مرجع النقد فيها إلى عدم التزام شروطهما التي التزما بها في الرواية, وهذا لا يعني أن هذه الأحاديث ضعيفة أو مكذوبة, ولم يقل بذلك أحد من علماء الحديث الخبراء بأصول الرواية متنا وسندا, بل قال بعض هؤلاء النقاد: إن ما أخذ على الإمامين معتمد عند الحفاظ ووارد من جهات أخرى([22]).
وإذا كان الصحيحان ليس بهما أحاديث ضعيفة فضلا عن أن تكون فيها أحاديث موضوعة, فماذا يقصد المدعون بتطبيق قواعد الحكم على الحديث الموضوع عليها؟ إن كانوا يقصدون أن بهما أحاديث موضوعة تطبق عليها القواعد والضوابط للحكم على الحديث الموضوع, فهذا ما لا يقول به متأمل منصف أو باحث متحرر.
لقد كان نقد الكتابين ابتداء من المشايخ المعاصرين للإمامين، وما تلا ذلك من القرون، مرورا بأبي الحسن الدارقطني، وأبي علي الغساني، وأبي مسعود الدمشقي، ومن بعدهم من أرباب وأئمة هذا الشأن.
ومثاله: عرض أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري كتابه "الصحيح" على سيد الحفاظ، إمام الجرح والتعديل أبي زرعة الرازي.
قال مكي بن عبدان: "سمعت مسلما يقول: عرضت كتابي هذا - المسند - على أبي زرعة، فكل ما أشار علي في هذا الكتاب أن له علة وسببا تركته. وكل ما قال: إنه صحيح ليس له علة، فهو الذي أخرجت([23]). فاستقر الأمر على قبول الكتابين، وقد تلقت الأمة هذين الكتابين بالقبول، وحصل لهما من الإجماع ما لم يحصل لغيرهما من كتب الحديث"([24]).
الخلاصة:· بدأت مقاومة الوضع في السنة منذ عهد الخلفاء الراشدين, وقد تمثل ذلك في تثبتهم وحيطتهم في السماع والتشدد فيه, كما ظهر ذلك في قول ابن سيرين: "إن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم", وفي وصايا الأئمة بذلك مثل مالك بن أنس, مما يدل على حرصهم على الأخذ عن الأثبات الثقات.
· ظهر الكشف عن معايب رواة الحديث منذ فجر الرواية والتحديث, وقد وردت رواية عن ابن عباس تؤكد هذا, ثم تتابعت جهود العلماء في القرن الثاني والثالث وما بعدهما, لتمييز صحيح الحديث من ضعيفه، وكان العلماء يتقربون إلى الله ببيان أحوال الرواة الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· لقد كان من مسالك مقاومة الوضع فحص الإسناد، والذي أدى إلى ظهور علم الجرح والتعديل, وكان ذلك في مرحلة مبكرة بعد الفتنة مباشرة، أي بعد سنة أربعين للهجرة، أي قبل نهاية القرن الأول, فإذا علمنا أن علم الجرح والتعديل وهو أهم علم لمعرفة حال الرواة، قد نشأ مبكرا كما رأيت, علمنا أن هذه القواعد كانت موجودة معروفة قبل القرن الثامن الهجري خلافا لما يتقوله المدعون.
· يعد القرن الأول الهجري بداية التكوين الرسمي لقواعد المحدثين, ثم اكتملت بمرورها بعدة أدوار في القرن الثاني الهجري، ثم بدأ تدوين هذه القواعد، في مؤلفات في القرن الثالث الهجري وليس في القرن الثامن, علما بأنها كانت تستخدم وتمارس فعليا وإن لم تكن مدونة, فقد كانت حية فعلية يتداولها العلماء ويمارسونها، ويحكمون على الرواة والأحاديث من خلالها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم.
· إذا علمنا أن البخاري ومسلما وأصحاب السنن قد ألفوا كتبهم في القرنين الثاني والثالث الهجريين, وقد قاموا باستبعاد الأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة, إذا علمنا ذلك تأكد أنهم كانوا على معرفة تامة بهذه القواعد والضوابط لانتقاء الرواة، والحكم على الحديث.
· كتب العلماء في الوضاعين والضعفاء والكذابين، والكتب التي تحدثت عن قواعد المحدثين، والحكم على الأحاديث، كانت كلها في القرون المتقدمة على القرن الثامن الهجري, وهذا مما يكذب ادعاء المبطلين بعدم معرفة قواعد الحكم على الحديث الموضوع قبل القرن الثامن الهجري.
· إن طرق معرفة وضع الحديث، سواء كانت عائدة إلى الراوي أو المروي, والتي كان يستخدمها العلماء للحكم على الحديث، تدل على معرفتهم بهذه القواعد وممارستها.
· إذا كان ابن القيم (ت: 751هـ) هو الذي جمع قواعد الحكم على الحديث الموضوع في كتاب واحد فإن ذلك لا يدل على أن هذه القواعد لم تكن معروفة قبله؛ لأنه لم يزد على أن جمع القواعد التي كان يستخدمها العلماء ويمارسونها - والتي كانت موجودة في بطون الكتب - في كتاب واحد، ولقد سبق ببعض المحاولات في ذلك.
· صحيحا البخاري ومسلم لم يكونا بمنأى عن العرض على قواعد النقد الحديثي, فلقد تناولهما العلماء بالبحث والفحص سندا ومتنا, وطبقا عليهما القواعد النقدية الحديثية, وفيما استدركه عليهما الدارقطني، وأبو علي الغساني والحاكم والبيهقي وأبو مسعود الدمشقي دليل على ذلك.
· لا يوجد حديث واحد موضوع في صحيحي البخاري ومسلم، حتى نقول: إن قواعد الحكم على الحديث الموضوع لم تطبق عليهما, وأما إذا كان المقصود أن القواعد النقدية الصحيحة لم تطبق عليهما فهذا أيضا غير صحيح؛ لأن العلماء لم يضعوهما موضع القداسة, بل تناولوهما بالفحص متنا وسندا، فاستقر الأمر على قبول الكتابين، عدا أحرف يسيرة بينها العلماء، وقد تلقت الأمة هذين الكتابين بالقبول، وحصل لها من الإجماع ما لم يحصل لغيرهما من كتب الحديث.