الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | علوم الحديث النبوي الشريف والسنة النبوية المطهرة |
يزعم بعض المشككين أن السنة النبوية مليئة بالأخطاء التاريخية، لما فيها من أغلاط واضطرابات في الأحداث التاريخية التي أخبرت بها، بسبب الوضع الذي تسرب إليها، فأصبحت سجلا مضطربا من الأغلاط التاريخية الفادحة، ومن هنا يرون أن السنة لا تبنى عليها الحقائق التاريخية، ولا يعول عليها في دراسة التاريخ.
وجها إبطال الشبهة:1) إن المعارف التاريخية والأحداث التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعلمها ويخبر بها من تلقاء نفسه، وهو الأمي الذي لم يقرأ كتابا في التاريخ أو العلم، وإنما هي وحي من الله إليه تثبت الأحداث التاريخية كل يوم صدقها وصحتها، ومن أصدق من الله حديثا.
2) لقد جاءت السنة النبوية لتبين للناس ما نزل إليهم من القرآن الكريم، وقد حوت بين طياتها أحداثا تاريخية صادقة، مما يجعلها أحد مصادر التاريخ الصادقة، وليس هناك دليل على وجود أي من هذه الأغلاط التاريخية المزعومة في الأحاديث الصحيحة، وأما الأحاديث غير الصحيحة فلا يعتد بها، وقد تناولها العلماء بالفحص والتمحيص.
التفصيل: أولا. ما ورد في السنة من علوم ومعارف وأخبار وحي من الله عز وجل:اشتمل القرآن الكريم على سير كثير من الأنبياء والمرسلين وأخبار كثير من الأمم السابقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن ربه - عز وجل - وهو المبين لما جاء في كتاب الله، بوحي من الله، فيعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة علوما ومعارف غير ما ورد في القرآن، أو يبين ما جاء في القرآن من قصص وأخبار، وهذا هو الشطر الثاني من رسالته - صلى الله عليه وسلم -
* قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151]
وهذه العلوم والمعارف التاريخية وأخبار القدماء وأحداث القصص التاريخي القرآني - لم يكن ليعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلقاء نفسه، ولم يتعلمها في أماكن التعليم، أو في أديرة الأحبار والرهبان، وإنما علمه الله ــ عز وجل - إياها، وفي ذلك يقول تعالى في مناسبات تتصل بها:
* تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49]
ويقول عز من قائل عن قصة ابنة عمران:
* ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]
وعن أخبار الرسل وقصصهم يقول رب العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم:
* وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120]
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوضح لصحابته ما يغيب عن أذهانهم من أمور، ويذكر لهم مدلولاتها وما حوته من إشارات تاريخية، وذكر لسير الأنبياء والمرسلين، وأخبار عن أحداث الماضين من الشعوب البائدة والأمم الفانية المنقرضة.
وكل هذا بوحي من الله له، ومن أصدق من الله حديثا، ومن أصدق من الله قيلا[1].
لقد جاء لفظ التبيين في جانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه وتعالى:
* بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]
وهو قصد مقصود وراءه دلالات يبحث عنها، وهي: أن بيان الله للقرآن إنما هو لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومصدره هو الله - عز وجل - ومستقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقه الوحي في صورة ما من صوره، أما التبيين فهو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس، ومصدره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتلقي عن الله، ومستقبله المخاطبون بهذا القرآن، وطريقة عرضه عليهم اللغة والكلام[2].
إن السنة وكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله له:
* (وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) [النجم]
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[3]
* وقال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب: 34]
وقد نقل القرطبي رحمه الله عن أهل العلم بالتأويل تفسير الحكمة ها هنا بالسنة، فإذا كانت الحكمة معناها السنة، والله - عز وجل - قرن بين الكتاب والسنة في الإنزال، فهذا يقتضي كونها من عند الله تعالى.
وقد جاء في السنة أن السنة وحي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه...»[4].
قال ابن حزم رحمه الله: "فصح أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله في الدين وحي من عند الله - سبحانه وتعالى - لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل"[5].
وقال أبو البقاء الحسيني: "والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما وحيا من عند الله"[6].
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان كل ما يتحدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيا من عند الله، فكلامه - عز وجل - الصدق، وحديثه الحق، ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا؟
وليس في القرآن - بفضل الله - مقولة واحدة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث، كما يقول المستشرق موريس بوكاي، وكذلك السنة وحي من الله ليس بها خطأ أو غلط، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأنى لهذا النبي الأمي أن يأتي بشيء من هذه الأخبار من تلقاء نفسه؟ وقد كان بعض أهل الكتاب يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أو حدث أو شخصية؛ كأهل الكهف، وخبر موسى والخضر، و ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج و... إلخ، فينتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي حتي يأتيه فيجيبهم، وما كان أحد من أهل الكتاب يكذب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن كل ما جاء به صحيح صادق، لأنه بوحي من الله، ومن أصدق من الله قيلا؟
ثانيا. السنة النبوية سجل صادق، له أهميته في دراسة التاريخ:إن القرآن الكريم في الأصل كتاب هداية، لكنه يعد أيضا مصدرا صادقا من مصادر التاريخ لما حواه من إشارات تاريخية، وذكره لأحداث جسام في الأزمنة الغابرة؛ وكذلك الحديث النبوي الذي جاء في الأصل لتبيين القرآن الكريم يعد أيضا من مصادر التاريخ فهو مصدر توضيحي تحليلي صادق لكل هذه الأحداث التاريخية القديمة التي حدثت في تاريخ الأقوام السابقين وحياتهم، ومرجع تفسيري لقصص الأنبياء، وغيرها من القصص الواردة في القرآن.
ومن هنا تأتي أهمية دراسته بوصفه مصدرا تاريخيا مهما، يوضح ما جاء في القرآن مجملا، ويفسر ما ورد عاما، ويحلل الدقائق التاريخية، ويلقي عليها الضوء لتظهر في جلاء ووضوح[7].
إن كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبار وأحداث تاريخية، وأخبار الأمم السابقة، وحياة الأنبياء والمرسلين، بدءا من حديث بدء الخلق وخلق آدم، وانتهاء بما سيكون في أمته - كل هذا صحيح صادق غير مكذوب، هذا إن كان في الأحاديث الصحيحة المعتمد عليها في دراسة التاريخ، ولقد تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشياء سوف تحدث، من مثل استيلاء المسلمين على ملك كسرى وفتح القسطنطينية، وقد حدث كل هذا بالفعل، وغير ذلك مما تحقق وقد تنبأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما هو آت لا محالة مما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم - وليس هناك دليل واحد لحدث رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أخبر به وكان غلطا أو خطأ.
ولو كان فيما يخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطأ أو غلط تاريخي، أو وهم في رواية الأحداث لشنع به أهل الكتاب فيما يحكيه ويرويه عن ربه، ولو وجد العرب - الذين كانوا يودون لو ظفروا بما يتوصلون به إلى تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقصاء الناس عنه - لو وجدوا ذلك لما سكتوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل لأذاعوا ذلك ونشروه، وشهروا به صلى الله عليه وسلم.
وما دمنا نتحدث عن الحديث النبوي وعلاقته بالتاريخ، فإننا ينبغي علينا أن ننظر سريعا في عناصر التاريخ الأساسية وهي: الزمان، والمكان، والأحداث، وعالم الغيب وارتباطه بعالم الواقع، والأشخاص والأبطال.
· وأما العنصر الأول من هذه العناصر وهو الزمان، فقد جاء في الحديث النبوي أنواع من الزمان يمكن إجمالها فيما يأتي:
1. الزمن الكوكبي.
2. ما بعد الزمن الكوكبي
3. ما قبل الزمن الكوكبي.
4. الزمن النفسي.
والزمن الكوكبي: هو الزمان الذي نقيم عليه حساباتنا وأقسامها ومضاعفاتها، وقد ورد في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما يتصل بهذا الزمن وأجزائه، مثل حديث «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»[8]، وحديث «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة...»[9].
وبهذا الزمن تتحدد أعمار الأفراد ومراحل السنين، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»[10]، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا يتسع المقام لذكرها.
وبهذا الزمن تتحدد العبادات اليومية؛ كالصلوات الخمس، والعبادات السنوية؛ كالصيام والحج، والعبادات ذات الطابع الاقتصادي كالزكاة.
أما ما قبل الزمن الكوكبي: وهي تلك المدة الزمنية التي خلقت فيها السماوات والأرض، فقد جاء في الأحاديث ذكره، وقد جاء بعضها إجابة على أسئلة اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما بعد الزمن الكوكبي: فهو المدة التي جاءت بعد خلق الكون إلى أن يأذن الله بانتهاء كل العوالم الدنيوية، وقد جاءت أشراط الساعة والحديث عن قيام الساعة والحشر والموقف الصعب في عرصات القيامة، جاء كل ذلك في الحديث النبوي، وقد تحققت كثير من أشراط الساعة، وسيكون ما أخبر به النبي الصادق الأمين ولتعلمن نبأه بعد حين.
أما الزمن الرابع فهو الزمن النفسي: وهو الذي يبدو فيه إحساس الإنسان بطول الزمن أو قصره.
إن الزمان في الحديث النبوي مقاييس معلومة ومقاييس مجهولة، سابقة ولاحقة وإحساس به قصرا وامتدادا، يطغى على القياس المعلوم[11].
· أما العنصر الثاني من العناصر الأساسية فهو المكان، والقرآن الكريم مصدر تاريخي مهم، بل أقدم المصادر العربية المدونة لتاريخ العرب في عصر الجاهلية وعصر النبوة، وأصدقها على الإطلاق؛ لأنه تنزيل من رب العالمين، لا سبيل إلى الطعن أو الشك في صحة نصه.
ففيه ذكر لبعض مظاهر حياة العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وفيه ذكر لبعض أخبار الأمم البائدة (عاد وثمود)، وفيه أخبار عن أصحاب الفيل (أبرهة الحبشي وجيشه)، وسيل العرم، وهو السيل الذي أصاب سد مأرب، وأصحاب الأخدود (أهل نجران الذين أحرقهم ذو نواس الحميري في أخاديد).
ولقد أثبتت الدراسات التاريخية والكشوف الأثرية الحديثة في الأماكن المختلفة صحة ما ورد في القرآن الكريم من أخبار العرب البائدة ودقتها.
فلقد ورد في القرآن الكريم أن قبائل عاد وثمود قد بادت بصاعقة دمرت كل شيء، وأن الله أرسل عليهم في أماكنهم ريحا صرصرا عاتية أتت على كل شيء.
وفي عصر النبوة تتجلى الأهمية التاريخية للقرآن الكريم؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تولى توضيح ما جاء في القرآن الكريم من ذكر أماكن وتحديد مساكن، وتفسير لكل ما جاء في القرآن الكريم من أمور تتصل بالجوانب التاريخية، هذا بالإضافة إلى توضيح تطور الدعوة الإسلامية، وما اتصل بها من غزوات وفتوحات واتصال بالأمصار المختلفة.
وما ذلك إلا لأن الحديث النبوي الشريف كان مواكبا للقرآن، مسايرا لأحداثه، موضحا لمعانية، مفصلا لمجمله، مبينا لغامضه.
والباحث المدقق في الحديث النبوي يجد تحديدا دقيقا لكثير من الأماكن، وتفسيرا جيدا لأماكن الأحداث الطارئة على تاريخ الدعوة الإسلامية، كما يجد ذكرا وتحليلا للعديد من الأمور التاريخية التي وردت في القرآن، أو التي لم ترد في القرآن، وإنما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكرها للعلم والتوضيح، تماما كما كان يذكر الكثير من الأحكام والقوانين الخاصة بالمجتمع الإسلامي المتطور.
من هنا يمكن القول بأن الحديث النبوي يعد مصدرا مهما، بل من أصدق المصادر التاريخية.
وعلى الحديث النبوي الشريف اعتمد المؤرخون على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم في إيراد شروح تفصيلية لما ورد في القرآن الكريم، من أخبار مختصرة عن بعض الأحداث وأماكنها في الجاهلية وعصر النبوة.
وقد ورد في الحديث ذكر لأماكن عدة ترتبط بأحداث التاريخ الإسلامي، وسير الدعوة، وتعاقب الأحداث[12].
· والعنصر الثالث هو عنصر الأحداث، والأحداث التي سجلها الحديث النبوي كثيرة، منها أحداث حدثت قبل البعثة النبوية، كالأحداث التي حدثت لأنبياء الله ورسله السابقين والإرهاصات الأولى لبعثته، ومنها ما حدث في عهده من جهاده وغزواته ومعجزاته، ومنها ما تنبأ به - صلى الله عليه وسلم - كأحداث الفتوحات والفتن والصراعات، وأحداث رجوع المسيح، وأحداث فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج وغير ذلك.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - المصطفى لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، كان من إرادة الحق - سبحانه وتعالى - أن يطلعه على أمور مستقبلية، جعل أخبارها وذكر أحداثها على لسانه - صلى الله عليه وسلم - تأييدا لصدق نبوته، ودليلا على صحة رسالته.
أما الأحداث التي تنبأ بها وحدثت في حياته، فمثل تنبؤه بمصرع كسرى، وأسر الشيماء بنت بقيلة الأزدية، وإسلام عمير بن وهب وغيرها.
وأما الأحداث التي تنبأ بها وحدثت بعد وفاته، فمنها أحداث تتصل بالفتوحات، كما تتصل بالفتن والاضطرابات، وما ينشأ عنها من صراعات، وأحداث تتصل بما يحدث في الكون، كما ذكر أمورا مستقبلية من مثل مبعث المسيح ابن مريم - عليه السلام - وظهور الدجال [13].
· وأما العنصر الرابع من عناصر التاريخ فهو عالم الغيب وارتباطه بعالم الشهادة، وقد احتفل الحديث النبوي الشريف بذكر هذا العالم الغيبي، وتناول كل عناصره وجزئياته تناولا دقيقا، ينم عن سعة علم واتساع أفق ومعرفة إلهامية من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يذكرها ويوضحها ويتحدث من خلالها عن خصائص هذا العالم اللامحسوس ومضامينه، مثل الإله (الله عز وجل)، والملائكة، والجن والشياطين، وكتب الله، وأنبياء الله ورسله [14].
· أما العنصر الخامس والأخير فهو الأشخاص والأبطال، وقد احتفل الحديث النبوي بالحديث عن الأشخاص الذين كانت لهم علاقة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وتحدث عنهم وسجل أخبارهم في حديثه الشريف[15].
إن السنة بحر واسع عميق، مليء باللآلئ والكنوز والثروات الثمينة التي لا يجدها إلا من يحسن الغوص في الأعماق، ولا يقف عند الشواطئ أو السطوح.
ففيها من جوامع الكلم وجواهر الحكم ولطائف المعارف وروائع التوجيه ونوابع التثقيف ما لا تجد معشاره في كتب وتراث كبار الفلاسفة [16].
وفي السنة كثير من الحقائق التاريخية والأحداث والوقائع الحقيقية، ومن ادعى غير ذلك فليأت بحديث واحد فيه خطأ أو غلط تاريخي، شريطة أن يكون حديثا صحيحا، ليس ضعيفا ولا موضوعا؛ لأن العلماء قد وضحوا الضعيف والموضوع في ضوء المنهج النقدي الذي لم يعرف له مثال في التاريخ، ألا وهو منهج الإسناد، حتى قال مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم".
فإن كان هؤلاء المغرضون يقصدون بادعائهم وجود أخطاء تاريخية بالحديث النبوي في أحاديث بعينها فليأتونا بها، وسوف نبين لهم وهمهم في فهمها إن كانت صحيحة؛ لأنه لا يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح يخالف الواقع أو الحقائق التاريخية.
ونضرب مثلا لذلك ما ورد في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: «لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرءون:
* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28]
وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك؛ فقال: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»[17].
والحقيقة أن ما ابتكره المحدثون من علم مصطلح الحديث، الذي تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وتميزت بتأسيسه وإنشائه وتقعيده والتفنن فيه يعد من أكبر النتائج النافعة التي تولدت عن تلك الحملة الضارية على السنة النبوية المطهرة ولله در القائل:
قصدت مساتي فاجتلبت مسرتي
وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري
كما كان هذا العلم صخرة صلبه تكسرت عليها كل المؤامرات التي حيكت في الظلام على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجت السنة النبوية من المعركة الطويلة سليمة منتصرة، ولا يمكن أن تكون حركة الوضاعين، وما وضعوا من أحاديث دليلا على ضعف السنة بمجموعها، وبالتالي عدم حجيتها؛ لأن ما وضعوه لم يخف على المحدثين.
يقول الأستاذ محمد أسد: "فوجود الأحاديث الموضوعة إذن لا يمكن أن يكون دليلا على ضعف نظام الحديث في مجموعه؛ لأن تلك الأحاديث الموضوعة لم تخف قط على المحدثين، كما يزعم بعض النقاد الأوربيين عن سذاجة"[18].
ولقد كان حريا بهؤلاء أن يتحاشوا ادعاءاتهم الكاذبة، ويظهروا - لو كانوا منصفين للبحث العلمي حقا - كيف أبان القرآن والسنة وجه الحق فيما دخل على بعض القصص الديني والتاريخي من زيف أو تحريف، سواء في كتب العهدين القديم والجديد أو في كتب التاريخ القديمة. ويوضحوا ما تضمنه القرآن والسنة من إشارات لا تخلو من أصول علم التاريخ وبذور فلسفته، وغير ذلك مما جاء فيه على أكمل نظام وأتقن ترتيب [19].
يقول د. شوقي ضيف: "فالحديث هو الذي فتح باب الكتابة التاريخية، وهيأ لظهور كتب الطبقات في كل فن، وهذا غير ما نشأ عنه من علوم الحديث وغير مشاركته في علوم التفسير والفقه، مما بعث على نهضة علمية رائعة"[20].
ويكفينا في التدليل على أهمية دراسة الحديث وأثره في علم التاريخ أن قواعد مصطلح الحديث باتت هي أصح طريقة علمية لتصحيح الأخبار والروايات، يقول د. أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية: فإنهم اضطروا اضطرارا إلى الاعتناء بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله لفهم القرآن، فقالوا في قوله عز وجل:
* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ [النجم: 4]
ما تلي منه فهو القرآن، وما لم يتل فهو السنة، فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا [21].
والذي يطالع دواوين السنة - وخاصة الصحيحين - يجد حشدا ضخما من الأحاديث النبوية التي تشير إلى وقائع وأحداث تاريخية ماضية؛ كقصص الأنبياء والأمم السابقة وبدء الخلق، كما أن هناك كثيرا من الأحاديث التي تدل على أمور تحدث في المستقبل؛ كأحاديث الفتن وغيرها، وكثير من هذه الأحاديث صحيح ثابت تلقته الأمة بالقبول، وصدقت بما جاء فيه، وآمنت بكل ذلك؛ لأن الذي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله - عز وجل - فيه:
* (وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) [النجم.]
وقد اعتمد علماء الأمة على تلك الأحاديث في بيان الحقائق التاريخية وإثباتها، بل تعتبر عندهم من أقوى الأدلة بعد القرآن الكريم، ولذلك ملئت بها كتب السيرة والتاريخ، وحكموها في كثير من أخبار أهل الكتاب، فقبلوا منها ما أيدته الأحاديث النبوية، وردوا منها ما خالفته، وتوقفوا فيما لم يرد شاهد من القرآن أو السنة عليه، قال الحافظ ابن حجر في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم»[22] قال: "أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه أو كذبا فتصدقوه؛ فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه"[23].
وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستندون في ذكر الحقائق التاريخية وتصويبها على ما جاء في كتاب الله وما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك...»[24]، فقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على صدق الخبر وحقيقته بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذب بذلك نوفا، وتلك حقيقة تاريخية دل عليها الحديث.
بل أكثر من ذلك، فقد كانوا يلجئون إلى الأحاديث في فض النزاع، إذا اختلفوا في حقيقة تاريخية، كما يلجئون إليها في الأحكام.
روى البخاري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الغزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه؛ هل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينما موسى يمشي في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل...»[25].
ولقد استطاع هذا العلم في الناحية التاريخية أن يوجد سلسلة متماسكة لتراجم مفصلة لجميع الأشخاص الذين ذكروا على أنهم رواة أو محدثون، سواء أكانوا رجالا أم نساء فقد خضعت تراجمهم لبحث دقيق من كل ناحية، ولم يعد منهم في الثقات إلا أولئك الذين كانت حياتهم، وطريقة روايتهم للحديث تتفق تماما مع القواعد التي تعتبر، على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة[26].
الخلاصة:· إن العلوم والمعارف والوقائع والأحداث التاريخية التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إن هي إلا وحي من الله لنبيه، وما كان له وهو الأمي أن يعلم ذلك ويخبر به من تلقاء نفسه، إن هو إلا وحي يوحى.
· لما كان القرآن الكريم مصدرا مهما من مصادر التاريخ بما تضمنه من إشارات تاريخية وذكر لأحداث جسام حقيقية، كان الحديث النبوي كذلك مصدرا تاريخيا وسجلا من السجلات المهمة الصحيحة في دراسة التاريخ، بل هو مصدر تفسيري تحليلي لكل هذه الأحداث؛ لأنه يبين مبهم القرآن، ويفصل مجمله، ويحلل دقائقه التاريخية.
· في الحديث النبوي تتجلى عناصر التاريخ الأساسية الخمسة، وهي الزمان، والمكان، والأحداث، وعالم الغيب، والأشخاص والأبطال، وكل ما ورد فيه متعلق بهذه العناصر أتى في أصدق سرد، وأحكم كلام، ومن ادعى غير ذلك فليأت بحديث واحد به خطأ تاريخي يقوم دليلا على صحة ما ذهب إليه:
* وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111]
· لا يعتد بالحديث الضعيف أو الموضوع، ولا يستدل به على وجود أخطاء أو أغلاط تاريخية في الحديث؛ لأن علماء الحديث قد بينوا كل هذا وأظهروه، فوجود الأحاديث الضعيفة والموضوعة لا يعد دليلا على ضعف نظام الحديث أو وجود الخطأ؛ لأن ذلك لم يخف قط على المحدثين.
· الحديث الشريف هو الذي فتح باب الكتابة التاريخية، وهيأ لظهور كتب الطبقات في كل فن، ويكفي في التدليل على أهمية دراسة الحديث وأثره في علم التاريخ - أن قواعد مصطلح الحديث باتت أصح طريقة علمية لتصحيح الأخبار والروايات.
· إن في دواوين السنة - وخاصة الصحيحين - حشدا ضخما من الأحاديث التي تشير إلى وقائع وأحداث تاريخية ماضية، كقصص الأنبياء وأخبار الأمم السابقة، ولم يعثر فيها على أي خطأ، وقد أثبتت الدراسات التاريخية والكشوف الأثرية صحة ما جاء في القرآن والسنة من الوقائع والأخبار، ولو أنصف هؤلاء لأظهروا كيف أبان القرآن والسنة وجه الحق فيما دخله التحريف في الكتاب المقدس - بعهديه القديم والجديد - من وقائع التاريخ.