المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | خالد بن محمد بابطين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج, وهي زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات, فمن صبر في مدة سفره على إحرامه, وكفَّ عن الهوى, فإذا انتهى سفرُ عمره, ووصل إلى مُنى المُنى فقد قضى تفثه ووفى نذره, فصارت أيامه كلها كأيام منى, أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-, وصار في ضيافة الله -عز وجل- في جواره أبد الأبد...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإننا اليوم في أعظم أيام السنة على الإطلاق، إنه يوم النحر يوم الحج الأكبر، وهو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً. فعن ابن عمر قال: "وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر".
وذكر الله –تعالى- في هذا اليوم وأيام التشريق من أفضل العبادات وأجلّها, بل عده معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أفضل عبادة على الإطلاق, إذ قال: "ما عَمِلَ آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى, قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا, إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع"؛ لأن الله يقول في كتابه: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45]، فذكْره تعالى فيه حياة القلوب وطمأنينتها وسكينتها، كما قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]. مَنْ ذَكَرَ الله في كل أحيانه هانت عليه الدنيا وما فيها, فلا يشقى بها, لأنه يذكر خالقها, ويعلم أن ما عنده خير وأبقى.
أيام التشريق أيام ذكر الله -تعالى- وشكره، وإن كان الحقُّ أن يُذكر الله -تعالى- ويُشكر في كل وقت وحين, لكن يتأكد في هذه الأيام المباركة. روى نبيشة الهذلي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" (أخرجه مسلم). وفي رواية للإمام أحمد: "من كان صائماً فليفطر فإنها أيام أكل وشرب" (صحيح مسلم). وفي صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "لم يرخص في صيام أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي".
وهي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 200]، وجاء في حديث عبد الله بن قرط أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرّ" أخرجه الإمام أحمد .. ولما كانت هذه الأيام هي آخر أيام موسم فاضل, فالحجاج فيها يكمِّلون حجهم, وغير الحجاج يختمونها بالتقرب إلى الله -تعالى- بالضحايا بعد عمل صالح في أيام العشر؛ استُحبَّ أن يُختم هذا الموسم بذكر الله -تعالى- للحجاج وغيرهم.
وتلك سنة سنَّها الله عز وجل عقب انتهاء بعض العبادات:
فمن ذلك الذكر عقب الصلاة؛ جاء القرآن العظيم بالأمر به في قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) .. وفي ذكر صلاة الجمعة قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وعقب الحج أمر بذلك فقال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).. وينبغي للذاكر أن يتدبر الذكر الذي يقوله, ويفهم معناه، فذلك أدعى للخشوع والتأثر به, ومن ثم صلاح القلب.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبُ اللسانَ, وكان من الأذكار النبوية, وشهد الذاكر معانيه ومقاصده".
ويتأكد في هذه الأيام المباركة؛ التكبير المقيد بأدبار الصلوات المكتوبات, والتكبير المطلق في كل وقت إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر، للحجاج ولسائر أهل الأمصار.. وقد كان عمر -رضي الله عنه- يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون, ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منىً تكبيراً .. وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يكبر بمنى تلك الأيام, وخلف الصلوات, وعلى فراشه, وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً ..
وكانت ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها- تكبر يوم النحر، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عفان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المساجد كما في صحيح البخاري.
بل بلغ من أهمية التكبير المقيد بأدبار الصلوات أن العلماء قالوا: يقضيه إذا نسيه, فإذا نسي أن يكبر عقب الصلاة فإنه يكبر إذا ذكر، ولو أحدث أو خرج من المسجد ما لم يَطُلِ الفصلُ بين الصلاة والتكبير .. وهكذا التكبير المطلق مشروع أيضاً في الأسواق وفي البيوت وفي المساجد وفي الطرقات؛ تعظيماً لله -تعالى- وإجلالاً له, وإظهاراً لشعائره .
عباد الله:
أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب, ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر, وبذلك تتم النعمة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] وكلما أحدثوا شكراً على النعمة كان شكرُهم نعمةً أخرى, فيحتاج إلى شكر آخر!! فلا ينتهي الشكر أبداً.
ولهذا كان لزاماً على المؤمن أن يستعين بالنعمة على الطاعة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في «لطائف المعارف»: "وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل" إشارةٌ إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله -تعالى- وطاعته, وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات, وقد أمر الله -تعالى- في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له, فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله، وبدَّلها كفراً، وهو جديرٌ أن يُسْلَبَها!! كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تُزيل النعم |
وداوم عليه بشكر الإله | فشكر الإله يُزيل النقم |
وخصوصاً نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام, كما في أيام التشريق, فإن هذه البهائم مطيعة لله لا تعصيه, وهي مسبحة لله قانتةٌ، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، وإنها تسجد له كما أخبر بذلك في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]، وربما كانت أكثر ذكراً لله من بعض بني آدم, وفي المسند مرفوعاً: "رب بهيمةٍ خير من راكبها وأكثر لله منه ذكراً" ..
ويقول أيضاً: "وقد أخبر الله -تعالى- في كتابه أن كثيراً من الجن والأنس كالأنعام بل هم أضل, فأباح الله -عز وجل- ذبح هذه البهائم - المطيعة الذاكرة له- لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم, وتكمل لذاتُهم في أكلهم اللحوم, فإنها من أجلِّ الأغذية وألذها, مع أن الأبدان تقوم بغير اللحم، من النباتات وغيرها؛ لكن لا تكمل القوة والعقل واللذة إلا باللحم, فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم والأكل من لحومها, ليكمل بذلك قوة عباده وعقولهم, فيكون ذلك عوناً لهم على علومٍ نافعة, وأعمالٍ صالحة يمتاز بها بنو آدم على البهائم, ويتقوون بها على ذكر الله -عز وجل-".
إلى أن قال: "فأما من قتل هذه البهائم المطيعة الذاكرة لله -عز وجل-، ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله -عز وجل-, ونسي ذكر الله، فقد غلب الأمر، وكفر النعمة. فلا كانت البهائم خيراً منه وأطوع!!" اهـ كلام الحافظ ابن رجب..
أعوذ بالله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج: 36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم |
الخطبة الثانية:
عباد الله:
إن تسخير هذه الأنعام للناس من أعظم نعم الله على عباده، كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس: 71- 72].
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- معلقاً على قوله تعالى: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): "من أجل هذا سخرناها لكم أي: ذللناها لكم، وجعلناها منقادة لكم خاضعة, إن شئتم ركبتم, وإن شئتم حلبتم, وإن شئتم ذبحتم".
وقال أيضاً: "والله -تعالى- خلقها للعباد وليس محتاجاً إليها، ولا إلى عباده؟ فهو الغني عن العالمين؟ ولكنه -تعالى- خلقها تسخيراً للعباد, وليتقربوا بها إليه بإهراق دمها في هذه الأيام الفاضلة, كما قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 37]".
عباد الله:
في النهي عن صيام أيام التشريق بعد العمل الصالح في عشر ذي الحجة لمن لم يحج, وبعد أعمال الحج؛ في هذا النهي عن الصيام والتمتع بما أحل الله من الطيبات إشارةٌ إلى حال المؤمنين في الدنيا. فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج, وهي زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات, فمن صبر في مدة سفره على إحرامه, وكفَّ عن الهوى, فإذا انتهى سفرُ عمره, ووصل إلى مُنى المُنى فقد قضى تفثه ووفى نذره, فصارت أيامه كلها كأيام منى, أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-, وصار في ضيافة الله -عز وجل- في جواره أبد الأبد, ولهذا يقال لأهل الجنة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
مَنْ صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غداً بعد وفاته, ومن تعجل ما حرم عليم من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته وشاهد ذلك: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة, ومن لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة".
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون, واعمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحسن عبادته. واذبحوا لله -تعالى- هداياكم وأُضحياتكم في هذه الأيام، وتأكدوا من سلامتها من العيوب، واختاروا السِّمان الصحيحة، واسألوا الله القبول .. وتفكروا في تقلب الأيام والدهور!!
فكما تنقضي هذه الأيام الفاضلة على المفرِّط والمحسن معاً - مع الفارق الكبير بين عملهما-، فكذلك الدنيا تنقضي على الجميع، لا تقدِّم المحسن قبل حلول أجله, ولا تؤخِّر العاصي ليتوب, بل (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61]!! ولكن الطائع ينسى مشقة الطاعة, وصبره عليها, وصبره عن الشهوات, ويجد حلاوة الأجر والثواب.. وكذلك العاصي ينسى حلاوة الشهوات، ويجد مرارة السيئات التي كُتبت عليه من أجر تضييعه للفرائض وارتكابه للنواهي.
اللهم أعز الإسلام ..