المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | صلاح الدين بورنان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد |
إنَّ الحياةَ الدنيا سريعةُ الزوالِ، متقلِّبة الأحوال، ولم يخلُقِ الله الخلقَ فيها ليكونُوا مخلَّدين، ولا ليكونوا فيها مهمَلين، لا يُؤمَرون بطاعة، ولا يُنهَون عن معصية، بل خلَقهم عبيدًا مكلَّفين، سعادتُهم في طاعةِ ربهم أرحمِ الراحمين، وشقاوَتهم في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، هادياً ومبشراً ونذيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصحَ الأمّةَ، فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْوَمَن رَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة 197].
أمّا بعد:
فاتقوا الله، اتَّقوا الله بالتقرُّبِ إليه بفعلِ الخيرات، وهَجر المنكرات؛ فإنَّ الحياةَ الدنيا سريعةُ الزوالِ، متقلِّبة الأحوال، ولم يخلُقِ الله الخلقَ فيها ليكونُوا مخلَّدين، ولا ليكونوا فيها مهمَلين، لا يُؤمَرون بطاعة، ولا يُنهَون عن معصية، بل خلَقهم عبيدًا مكلَّفين، سعادتُهم في طاعةِ ربهم أرحمِ الراحمين، وشقاوَتهم في معصية ربِّ العالمين، قال الله -تعالى-: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69 - 70].
وقال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [الجن: 23].
ألا وإنَّ في يدِ الموتِ كأسًا لكلِّ أحد في هذه الدار، سيذوق سكراتِه، ويقطَع لذّاته، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" يعني الموت [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"].
فإنَّ الموتَ ما ذُكِر في قليل إلا كثّره، وما ذُكِر في كثير إلا قلَّله، وكفى بالموت واعظًا، لا يدرِي المرءُ هل سيكون قبره روضةً من رياض الجنة، أو حفرةً من حفَر النار، والحياةُ الآخرة إمّا نعيمٌ مقيمٌ أبديّ، وإما عذابٌ أليمٌ سرمديّ.
أيّها المسلمون: يروى أنّ يعقوب -عليه السلام- زاره ملك الموت مرة، فقال يعقوب -عليه السلام- لملك الموت: "إذا حان أوان أجلي، فأرسل إليّ رسولا، أو رسولين، يعلمونني بأوان أجلي".
وبعد مدة من الزّمن جاء ملك الموت ليعقوب -عليه السلام-، فقال يعقوب -عليه السلام-: "أجئت زائرا أمّ لقبض روحي؟! قال ملك الموت: بل لقبض روحك، فقال يعقوب -عليه السلام-: أما وعدتني أنّك سترسل إليّ رسولا أو رسولين؟! فقال ملك الموت: قد فعلت يا يعقوب!.
أولا: بياض رأسك بعد سواده.
ثانيا: انحناء ظهرك بعد استقامته.
ثالثا: وضعف بدنك بعد قوته.
هذه رسلي إلى بنى آدم قبل الموت".
أيها النّاس: مما لا شك أنّ هذه العلامات الثلاث قد ظهرت في الكثير منّا، ولكن ومع هذا، ما زال الكثير من الناس يعتقد جازما غير شاك أنّه لا يموت أبدا، وأنّه مخلد في الدار الدنيا، وأنّه سيبقى بصحة جيدة، وسالما معافى، وأنّه سيعيش سنوات طويلة، وأعمارا مديدة، وأنّ نوائب الدهر لن تمسه بسوء، والله -عزّ وجلّ- يقول: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78].
وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ، الغير سليم، أصبح همّ الكثيرين منّا هو التنافس الشديد على الدنيا، وملذاتها، والتسابق إلى كراسي البرلمان، أو وتنافس على مقاليد السلطة، والمناصب، ولو دفع في سبيلها أموالا طائلة، ولو قدم حياته ثمنا لذلك، وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ، وقع الكثير من الخلق في أمور وأحوال تغضب رب العزة -جلّ جلاله-، من انتهاك للمحرمات، كالسلب والنهب والاختلاس، وأكل الربا، وأكل الرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، وارتكاب للفواحش والمنكرات، ومن شرب للخمر والمسكرات والمخدرات، ومن تضيع للحقوق والواجبات، وأصبح الإنسان لا يبالي بأي شيء أمن حلال أخذ أم من حرام، على حد قول القائل: "أنا والطوفان ورائي!".
يقول سبحانه وتعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
إنّ العبد ينبغي عليه: أن ينظر إلى حال أسلافه وأجداده، وإخوانه وجيرانه، ومن يعرفهم، ومن عاش معهم في وقت من الأوقات: أين هم الآن؟ وأين نزلوا؟
عندما ينظر نظرة متفكر ومعتبر، يجدهم قد رحلوا وانتقلوا من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وتركوا وراءهم المباني الشاهقة، والأموال المكدّسة، والمناصب الِشّاغرة، وخلّفوا وراءهم الأولاد والزوجات، والأراضي والضيعات، والكثير من الآلات، لم يرحلوا من دنياهم إلا بثوب أبيض ادخلوا فيه.
إنّ القرآن الكريم يخبرنا عن حال العبد إذا انتقل إلى عالم الآخرة، أنّه يتمنى أن يعود إلى دار الدنيا، ويطلب من الله -عزّ وجلّ- أن يعيده إلى الدنيا، من أجل أن يعمل صالحا فقط، يقول سبحانه -عزّ وجلّ-: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99 - 100].
يريد أن يعود إلى الدنيا من أجل أن يعمل الصالحات فقط، لا يريد أموالا ولا عقارات، ولا مناصب ولا ثروة ولا مسؤولية، ولا أيّ شيء، يريد أن يعمل صالحا فقط.
فيا عبد الله: لا تستوحش قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين، لا تسل عن هالك كيف هلك، ولكن سل عن ناج كيف نجا، والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر النّاس عن هذه الحقائق يتجاهلون، أو يتغافلون، يقول سبحانه -عزّ وجلّ-: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنّه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
إن الغفلة -أيها المسلمون- هي التى تجعل العبد يغفل أو يتغافل عن هذه الحقائق التى لا بد منها.
إنّ العبد ينبغي عليه اليوم: أن يكون حريصا على ما يرضي الله -جلاّ وعلا-، من فعل الصالحات، وإقامة العبادات والقربات.
يحرص على فعل الخيرات، من إعانة المساكين والمحتاجين، والمرضى، وذي الحاجات الخاصة.
يسارع في المشاريع الخيرية، كبناء المساجد، وأبواب الخير كثيرة، ومتنوعة، والعبد أدرى، وأعلم بحاله، فهو ليس محتاج للإمام أن يرشده، أو يقول له: افعل، أو لا تفعل، وكل شخص إمام نفسه، والسّعيد من وفّقه الله لفعل الخير، وطوبى وهنيئا لمن جعله الله مفتاحا من مفاتيح الخير، وأجرى مصالح الناس على يديه، ففي الحديث قال: "بادروا بالأعمال ستا: ما تنتظرون إلا غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو كبرا مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال، فشر مستطير، أو الساعة، والساعة أدهى وأمرّ".
وصدق من قال:
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولا بد يوماً أن ترد الودائع |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | إِلاّ الَّتي كانَ قَبْلَ المَوْت بانِيها |
فَإِنْ بَنَاها بِخَيْرٍ طابَ مَسْكِنُها | وَإِنْ بَنَاها بِشَرٍّ خابَ بانِيها |
أين الملوك التي كانت مسلطنة | حتى سَقَاها بِكاسِ المَوْتِ سَاقِيها |
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت | أَنَّ السَّلاَمَة َ فِيْها تَرْكُ ما فِيها |
اغرس أصول التقى ما دمت مقتدرا | واعلم بأنك بعد الموت لاقيها |
أين الملوك التي كانت مسلطنة | حتى سَقَاها بِكاسِ المَوْتِ سَاقِيها |
أمْوالُنا لِذَوِي المِيْراثِ نَجْمَعُها | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
كم من مداين في الآفاق قد بنيت | أمست خراباً ودان الموت دانيها |
إنّ المكارم أخلاق مطهّرة | فالعقل أوّلها والدّين ثانيها |
والعلم ثالثها والحلم رابعها | والجود خامسها والعرف ساديها |
والصّبر سابعها والبرّ ثامنها | والشّكر تاسعها واللّين عاشيها |
لا تأسفن على الدنيا وما فيها | فالموت لاشك يفنينا ويفنيها |
واعمل لدار البقاء رضوان خازنها | والجار أحمد والجبار بانيها |
قصورها ذهب والمسك طينتها | والزعفران حشيش نابت فيها |