الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الزهد |
كثير من الناس اليوم شغلتهم الدنيا عن الآخرة، فمنهم من اشتغل بجمع الأموال وتنميتها وضيع ما أوجب الله عليه من الصلوات العبادات، ومنهم من اشتغل بالتمتع بها وإعطائه نفسه ما تشتهي من ملاذها وشهواتها فأترف فيها ونسي الآخرة وصار يكره ذكرها ويستثقل الحديث عنها، وهؤلاء يعتبرون التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة من باب التغفيل لتمكن الدنيا من قلوبهم وغفلتهم عن الآخرة
الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]
عباد الله، تأملوا أحوالكم، وتذكروا مصيركم، وانظروا في أعمالكم، فإنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى، واعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، تفكروا في الدنيا وسرعة زوالها، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ) [الرحمن:26-27] كل حي فيها يموت، وكل قوي يضعف، ولك جديد يبلى: وكل عامر يخرب، والآيات الواردة في القرآن الكريم في التحذير من الاغترار بالدنيا وبيان سرعة زوالها وضرب الأمثال لها كثيرة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن مصير من قصر همه عليها ورضي بها وأرادها وحدها وأعرض عن الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8] .
وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16] .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" وفي حديث آخر: "الدنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر" رواه مسلم، وفي حديث آخر: "لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" رواه الترمذي وصححه
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز فقال: أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن وليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تَرْكُها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغّرارة الخداعة وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصَفْوها مَشُوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً، ولم يضرب لها مثلاً، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر، وفيها واعظ، وقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها وخزائنها لا ينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضعه مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسي ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر. والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه.
عباد الله: إن ذم الدنيا لا ينصرف إلى ما خلق الله فيها من المنافع والمآكل والمشارب والأموال وإنما ينصرف الذم والوعيد إلى تصرفات بني آدم فيها، فمن افتخر بها وأعجب بها وشغلته عن طاعة الله وأنسته الآخرة فهذا هو المذموم المعاقب، كحالة عاد لما خوفهم نبي الله هود عليه السلام من عقوبة الله: (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15] وكحالة فرعون لما أنذره نبي الله موسى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51] وكحالة قارون لما آتاه الله الكنوز (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:76-78]أي بسبب حذقي ومعرفي، أو لأني استحقه، فالذي ينظر إلى الدنيا حيث تحصل على شيء منها بهذا المنظار وتحمله على التكبر والإفساد في الأرض.
وينسى الآخرة فهو مذموم معاقب، أما من يأخذ الدنيا من الوجوه المباحة ويستعين بها على طاعة الله، ولا تحمله على الكبر، فإنه مثاب مأجور "ونعم المال الصالح للرجل الصالح". وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يتخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقاً فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بينته فوزرهما سواء" رواه الإمام أحمد و الترمذي وابن ماجة.
أيها المسلمون: كثير من الناس اليوم شغلتهم الدنيا عن الآخرة، فمنهم من اشتغل بجمع الأموال وتنميتها وضيع ما أوجب الله عليه من الصلوات العبادات، ومنهم من اشتغل بالتمتع بها وإعطائه نفسه ما تشتهي من ملاذها وشهواتها فأترف فيها ونسي الآخرة وصار يكره ذكرها ويستثقل الحديث عنها، وهؤلاء يعتبرون التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة من باب التغفيل لتمكن الدنيا من قلوبهم وغفلتهم عن الآخرة، فاتقوا الله عباد الله- واستعدوا للقاء الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:5-6] .