العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
وقد يرى البعضُ أنَّ في قيام دولة إسرائيل, وتجمّعَ اليهود بها نكايةً في الإسلام والمسلمين، ولكنَّ الحقيقةَ غيرُ هذا، فالله -سبحانه وتعالى- حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية, لا يُمكن أنْ تكونَ هذه الضربةُ, وهم مُفرَّقون مُبَعْثرون في كلِّ أنحاء العالم، فلن نحاربهم في العالم كله، فكيف لنا أن نَتَتَبَّعُهم وهم مُبَعْثَرون، في كلِّ بلدٍ شِرْذمةٌ منهم؟!.. فتجمُّعُهُمْ ولو على حساب اغتصاب أرضنا, هو تحقيقٌ لموعود الله, وهو بدايةُ زوالهم, ويُسهِّل علينا تَتَبُّعَهُمْ, وتَمَكُّنَنَا من القضاء عليهم؛ فالواجب علينا - معاشر المسلمين- أنْ نتفاءل ولا نيأس, ونأخذ بأسباب النصر والتمكين.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الأحداث التي نشهدها في فلسطين الْمُحتلة, أصابت الكثير من المسلمين بالإحباط واليأس, وجعلتهم يشعرون بأن ذلك مَحُض شرٍّ لهم, وخالصُ ضرر عليهم, وهذا من الخطأ.
ولقد أخبرنا الله -تعالى- في كتابه عن هذا الأمر بالتفصيل, وذلك في بداية سورة الإسراء, فلْنَتَأَمَّلْها ونَفْهَمْهَا.
قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) [الإسراء: 4- 7].
يُخْبِرُ -تعالى- أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب, أي أخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم, أنهم سَيُفْسِدُون في الأرض مرتين, ويعلون علواً كبيراً, أي يتجبرون ويَطْغَون ويَفْجُرون على الناس.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) أي أولى الإفسادتين (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي سَلَّطْنَا عليكم جنداً من خلقنا.
وتأملوا كيف أضافهم إليه, وهذا يدل على شرفهم ومكانتهم عنده, كما أضاف ناقةَ صالحٍ إليه, وكما أضاف البيت إليه, فقال: ناقةَ الله, بيتي.
وهؤلاء العبادُ صالحون مُؤمنون, وهم أولو بأس شديد, أي قوة وعُدَّةٌ وسَلْطَنَةٌ شديدة, فجاسوا خلال الديار, أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم, أي: بينها ووسطها, وانصرفوا ذاهبين ومنصرفين, لا يخافون أحداً، وكان وعداً مفعولاً.
وقد ذهب الكثير من المتأخرين إلى أنَّ الفساديْن بعد الإسلام, وهذا هو ظاهر السياق.
فالفساد الأول: كان في المدينة؛ حيث أبرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم معاهدةً يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم وتصالح معهم، فلما غدروا واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خلال ديارهم، وقتل منهم مَنْ قَتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر.
فهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله.
ثم قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) [الإسراء: 6]، والخطاب في هذه الآية مُوجَّه لبني إسرائيل؛ حيث إنه -تعالى- سيعيد القوة والتَّمْكين لهم؛ بسبب أخذهم بأسبابها, وبسبب تفرُّق المسلمين وتفريطِهم في دينهم ودنياهم؛ حيث تخلَّوْا عن منهج الله الذي ارتفعوا به، وتَنصَّلوا من كَوْنهم عباداً لله، فدارت عليهم الدائرة، وتسلّط عليهم اليهود.
ولذلك قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ), أي: جعلنا الدائرة لكم عليهم, وهذا هو الفساد الثاني.
وحرف (ثُمَّ) يفيد الترتيب مع التراخي، ولم يَقُل سبحانه: فرددنا، بل (ثُمَّ رَدَدْنَا)؛ ذلك لأن بين الكَرَّةِ الأُولى, التي كانت للمسلمين في زمن النبوّة، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروبٌ لعدة قرون، منذ ذلك الحينِ إلى أنْ قامت دولتُهم في فلسطين الْمُحتلة.
وقوله تعالى: (وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) وهذا ما حدث, فقد أصبحوا أصحابَ رَأْسَ المالِ في العالَمِ كلِّه، ومُتِّعُوا بالْبنين, الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
فإذا كانت الكَرَّة الآنَ لليهود، فهل سيدوم لهم ذلك؟
لا, لن تدومَ لهم الغَلبة، ولن تدوم لهم الكرّةُ على المسلمين، بدليل قولِه سبحانه وتعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) [الإسراء: 7]، أي: إذا جاء وقت الإفسادِة الثانيةِ لهم، وقد سبق أنْ قال سبحانه عنهم: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)، وفي الآية بشارةٌ لنا, أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكونُ لنا يقظةٌ وصَحْوةٌ, نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقِه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة، وستعود لنا الكَرَّة على اليهود.
وقوله تعالى: (لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ), أي: نُلحق بهم من الأذى, ما يظهر أثره على وجوههم.
وقوله تعالى: (وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ), أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى, وسينقذونه من أيدي اليهود.
ومن المعلوم, أنّ دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة, كان في عهد الخليفة عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه-، ولم يكنِ الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان النصارى.
فدخولُه الأول, لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للنصارى، لكنَّ هذه المرةَ, سيكون دخول الأقصى وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم, أنْ ندخل عليهمُ المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم.
وإخراجُ اليهود لنا من المسجد الأقصى, تصديقٌ لِنُبوءَة القرآن، وقد وَعَدَنَا بطردِهم منه, بشرط أنْ نعود لمنهج ربنا وتعاليم ديننا, ومما علَّمنا دينُنا, أنْ نُعِدَّ الْعُدَّةَ للجهاد والنضال, وأنْ نجتمع ونتّحد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: تأملوا كلمةَ (الآخرة), في قولِه تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ): فإنها تدلُّ على أنها المرةُ التي لن تتكرر، ولنْ يكونَ لليهودِ غَلَبةٌ بعدها.
وقوله تعالى: (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً), يُتَبِّرُواْ: أي: يُهلكوا ويُدمِّروا، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه, مِن مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم.
فهو وَعْدٌ آتٍ لا شَكَّ فيه، وتأملوا قوله -تعالى- في موضع آخر من السورة: (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً)[الإسراء: 104]، أي اسكنوا الأرض مُتفرقين في كل البلاد، كما قال -تعالى- عنهم: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً)[الأعراف: 168].
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوبَ أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أُولى خطواتِ نهايَتِهم، فكان أنِ اختاروا لهم فلسطين, ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
وقد يرى البعضُ أنَّ في قيام دولة إسرائيل, وتجمّعَ اليهود بها نكايةً في الإسلام والمسلمين، ولكنَّ الحقيقةَ غيرُ هذا، فالله -سبحانه وتعالى- حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية, لا يُمكن أنْ تكونَ هذه الضربةُ, وهم مُفرَّقون مُبَعْثرون في كلِّ أنحاء العالم، فلن نحاربهم في العالم كله، فكيف لنا أن نَتَتَبَّعُهم وهم مُبَعْثَرون، في كلِّ بلدٍ شِرْذمةٌ منهم؟
فتجمُّعُهُمْ ولو على حساب اغتصاب أرضنا, هو تحقيقٌ لموعود الله, وهو بدايةُ زوالهم, ويُسهِّل علينا تَتَبُّعَهُمْ, وتَمَكُّنَنَا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً)، أي: أتينا بكم جميعاً، نضمُّ بعضكم إلى بعض، فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين, بأنَّ الكَرَّة ستعود لنا، وأنَّ الغلبةَ ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله تعالى.
فالواجب علينا - معاشر المسلمين- أنْ نتفاءل ولا نيأس, وأنْ نُوقن بأنّنا سندخل المسجد الأقصى فاتحين مُنتصرين, وذلك حين نعود إلى ديننا, ونأخذ بأسباب النصر والتمكين.
نسأل الله -تعالى- أنْ يحرر الأقصى من رجس اليهود, وأنه يُقِرَّ أعيُنَنا بدحرهم وانتصارنا عليهم, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.