البحث

عبارات مقترحة:

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

من دلالات القرآن

العربية

المؤلف صالح المغامسي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. أهمية القرآن والتأمل فيه .
  2. دلالة القرآن على توحيد الله وإفراده بالعبادة .
  3. دلالة القرآن على العمل الصالح وفضله .
  4. ثلاثة أعمال جامعة للأعمال الصالحة .
  5. دلالة القرآن على أن الدنيا دار حزن والآخرة دار فرح وسرور .
  6. دلالة القرآن على أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله .
  7. دلالة القرآن على أن العبرة بالخواتيم .
  8. دلالة القرآن على نصرة الله لأوليائه وعدم خذلانه لهم .
  9. دلالة القرآن على خلود أهل النار .

اقتباس

تضمن هذا القرآن من الهدى أقومه، ومن السبيل أكرمه. والله -تبارك وتعالى- أمرنا أن نتدبر آياته، وأن ننظر في عظاته، وأن نفقه عن الله -جل وعلا- كلامه. وإن فقه المؤمن لما جاء به القرآن العظيم؛ مما يقربه إلى الله -جل وعلا-، ويدنيه من رحمة ربه -تبارك وتعالى-. وكم في القرآن العظيم من دلالات من فقهها...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته، وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيا عن أمته، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله، وعرف به، ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: فإن تقوى الله -جل وعلا- أعظم الوصايا، وأجل العطايا، هي الزاد الأعظم، والطريق الأكرم، والسبيل الأمثل، إلى رحمة الله -جل وعلا-، وهي وصية الله -تبارك وتعالى- للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].

ثم اعلموا -عباد الله- أن القرآن العظيم كتاب جليل اللفظ، ذو أثر عظيم، جعله الله -جل وعلا- معجزة خالدة لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-.

تضمن هذا القرآن من الهدى أقومه، ومن السبيل أكرمه.

والله -تبارك وتعالى- أمرنا أن نتدبر آياته، وأن ننظر في عظاته، وأن نفقه عن الله -جل وعلا- كلامه.

وإن فقه المؤمن لما جاء به القرآن العظيم؛ مما يقربه إلى الله -جل وعلا-، ويدنيه من رحمة ربه -تبارك وتعالى-.

وكم في القرآن العظيم من دلالات من فقهها رزق العلم واليقين، ورزق الرسوخ على الصراط المستقيم.

من أعظم تلك الدلالات: أن الله -جل وعلا- أخبر أن توحيده وإفراده بالعبادة هي السبيل الأعظم إليه، وهو الدين الذي ارتضاه لنفسه جل وعلا، وابتغاه لعباده، ولا يقبل جل وعلا دينا غيره، قال ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85].

قصَّ الله -جلَّ وعلا- علينا في قرآنه العظيم: نبأ أصحاب الكهف، وأخبر أنهم لم يكونوا يوما من الدهر شيوخ مجربين، ولا كهول متعلمين، لكنهم فِتية، قضى الله عليهم بالنوم سنين عديدة.

ومع أن الإنسان لا يكون أضعف حال من حاله وهو نائم إلاّ أن الله رزقهم جل وعلا الهيبة، لا يتسلط عليهم عدو عابر، ولا وحش كاسر! بل إن الأرضة على دقتها منعها الله -جل وعلا- من أن تصل إليهم، قال ربنا: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) [الكهف: 18].

ثم بين جل وعلا قبل ذلك السبب الأعظم في حفظ الله -جل وعلا- لهم، وهو: أن توحيد الله كان راسخا في قلوبهم، قال الله -جل وعلا- عنهم: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14].

فحفظ الله -جل وعلا- أبدانهم بما في قلوبهم من عظمة الله -جل وعلا-.

وهذه القلوب أوعية، وحظ كل امرئ من رحمة الله على قدر حظ قلبه من عظمة الله -جل وعلا- في قلبه، فكلما كان القلب ممتلئا بتوحيد الله، ومعرفة عظمته وقدره -جل شأنه- كان أدنى وأقرب إلى رحمة ربه، وخالقه وسيده ومولاه.

وكما يحفظ الله -جل وعلا- بالتوحيد الأبدان، يحفظ الله -جل وعلا- بالتوحيد البلدان والأوطان، قال الله -جل وعلا- للخليل إبراهيم: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) [الحج: 26].

فقرن جل وعلا بين إقامة بلد مبارك، وبين إقامة التوحيد في القلوب، والبعد عن ألوية الشرك ومظاهره.

جعلني الله وإياكم من أهل التوحيد الذين هم أهل الله -جل وعلا- حقا.

أيها المؤمنون: قال الله -جل وعلا- عن أهل النار وهم يصطرخون فيها: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر: 37].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (نَعْمَلْ صَالِحًا) أي نقل: لا إله إلا الله، فبين الله -جل وعلا- أنها منية كل متمن في الآخرة، وهي القسيم بين أهل الجنة والنار".

عباد الله: مما دل عليه القرآن: أن العمل الصالح زخر لصاحبه، وموئل كريم للقائم به، قال ربنا -جل وعلا-: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

وبين جل ذكره: أن الكافر والمقصر لا يتحسران على شيء حال موتهما، وعند مقاربة الأجل، أشد من تحسرهما على أنهما لا يستطيعان أن يعملا صالحا، قال ربنا: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100].

فالعمل الصالح فيه بعد رحمة الله -جل وعلا- نجاة العبد.

وجماع الأعمال الصالحة ثلاثة: أعظمها وأجلها: أن يسمع المؤمن المؤذن فيجيبه، فإن ترك المؤذن دون إجابته من دلائل قسوة القلب، ومن دلائل حرمان الله لذلكم العبد، ومن دلائل أن ذلكم العبد لم يفقه بعد نعمة الله -جل وعلا- عليه، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "من لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب، فقد قلَّ علمه، وحضَر عذابهُ".

فإجابة المؤمن للنداء من أعظم الأعمال الصالحة التي يقترب بها إلى الله.

والثاني من جماع الأعمال الصالحة: بر العبد لوالديه، فإن الله -جل وعلا- قرن حقه بحقهما، بل قرن حقهما بحقه: (أَنِ اشْكُرْ لِي) بالعبادة (وَلِوَالِدَيْكَ) [الإسراء: 23] أي بالبر.

وقال وهو أصدق القائلين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].

وحق الوالدة آكد وأعظم وأجل، قال ربنا -جل وعلا-: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14].

وعند أبي داود في السنن من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يوم في حلقته، فجاءه رجل، فقال: يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنني خطبت امرأة فأبت أن تقبلني، ثم خطبها غيري فقبلته، فقتلها لما أصابني من الحنق عليه، فقال له ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يا هذا ألك والدة؟" أي والدتك حية، قال:  لا يا ابن أخي أكثر من الاستغفار، وازدد من الأعمال الصالحة" فلما خرج ابن عباس من مجلسه تبعه عطاء أحد تلاميذه، فقال له: يا ابن عباس أراك سألت الرجل عن أمه؟ فقال رضي الله -تعالى- وأرضاه-: "والله لا أعلم عملا صالحا أحب إلى الله من بر الوالدة".

وهذا كله ظاهر آثاره، ودليله في القرآن والسنة.

وثالثا ما يجمع الأعمال الصالحة: صلاة الرجل في الليل الآخر، فإن الله -تبارك وتعالى- قال وقوله الحق: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة: 16].

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: "وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر" ثم تلا آية السجدة.

فإذا وفق العبد أن يجيب النداء إذا سمع، ويبر والديه، ويكون له حظ من قيام الليل، فقد جاء بجماع الأعمال الصالحة، ومن زاد زاده الله -جل وعلا- من فضله.

مما دل عليه القرآن: أن هذه الدنيا دار حزن يحزن فيها المرء، ويخشى من الموت، وكم غيب الموت من أهل وأقارب، ويحزن فيها المرء؛ لأنه يشقى كدا وسعيا ليعول نفسه، ويقوت من يعول، ويحزن فيها المؤمن خوفا من النار أن يدخلها، فهذه الثلاثة جماع كل حزن، والله -جل وعلا- قال عن أهل جنته: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34].

(أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) كله، فهم في الجنة لا يخشون النار، وهم في دار الخلود لا يخشون الموت، وهم في دار يرزقون فيها بكرة وعشيا، لا حاجة فيها أن يطلبوا رزقا أو قوتا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 34].

فبمغفرته غفر لنا الزلات، وبشكره قبل منا الحسنات وضاعفها لنا: (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ) [فاطر: 35].

فهي ليست دار عبور، بل دار خلود.

(مِن فَضْلِهِ) أي من رحمته جل وعلا علينا: (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) أي تعب في أجسادنا: (وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) أي تعب في أرواحنا، فجمع الله لهم السلامة في الجسد والأرواح، وهذا من تمام النعمة، وكمال المنة من الله -تبارك وتعالى- علينا.

دل القرآن -أيها المؤمنون- على أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، والله -جل وعلا- يقول: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10].

فأخبر جل وعلا: أن مكرهم إلى وبال، وإلى هلاك، وإلى ثبور.

والمكر على دربين: مكر الأمم، كما أخبر الله -جل وعلا- بالرسل، ومحاربتهم إياهم لما دعوا إلى عبادة الله -جل وعلا وحده، وهؤلاء قال الله عنهم: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل:50 - 52].

ومكر يقوم به عصاة المؤمنين، يمكر الرجل لينال أذى من أعراض المؤمنين، وأعراض المؤمنات، يتربص بهم الحالة، ودائرة السوء، يريد أن يصل إلى قصده منهم، وربما يتحقق لبعضهم شيء مما يبتغيه.

وينبغي أن يعلم أن الله -جل وعلا- محيط بعلمه بهم، حال ما يبيتون الأمر، والله -جل وعلا- عليم بهم، وهم يقومون به، والله -جل وعلا- عليم بهم، وهم يفرغون منه.

أما كيف يكون مكر أولئك إلى بوار؟

فإنه ما من أحد يمكر بمؤمن ولا مؤمنة ينال من عرضه، أو من دمه، أو من ماله، أو يتربص بمؤمنة سوءً، إلا والله -جل وعلا- مطلع عليه.

فيرى ذلكم العبد الخاسر عاقبة مكره، يراها أول ما يراها قبل أن يموت، حين تنزع الروح، فيرى من غلظة الملائكة ما لا يخطر له على بال، وكل من حوله لا يشعرون بشيء مما يجري له، وهو لا يستطيع منعه، ولا يقدر على دفعه.

ثم ينال حين يوسد في قبره، وتحل عنه أربطة الكفن، فيرى عاقبة مكره عيانا، فيتمنى أنه لو لم يمكر بمؤمن ساعة من الدهر، ثم يرى ذلك حال يقوم الأشهاد، ويحشر العباد بين يدي ربهم -جل وعلا-، فإذا رأى ذلك استحيا من ربه -جل وعلا-، وعلم أن هذا هو الخسران المبين، وقد جاء في السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن الله -جل وعلا- يقول لبعض العصاة يوم القيامة: أكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا يارب، فيقول الله -عزوجل- له: فاليوم أنساك كما نسيتني.

نسأل الله حسن العاقبة.

"فاليوم أنساك كما نسيتني" قال الله -جل وعلا-: (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا) [الأعراف: 51].

ومن دلالات القرآن التي دل عليها: أن الله -جل وعلا- إذا أراد بعبد خيرا ختم له بخير، ووفقه للعمل الصالح، فالعبرة بالخواتيم.

وقد كان وما زال باب التوبة مفتوحا، والله يقبل التوبة عن عباده.

جاء عند الطبرني بسند صحيح من حديث أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد الله بعبدا خيرا طهره" قالوا: يا رسول الله وما طهور العبد؟ قال عليه الصلاة والسلام: "يلهمه الله -جل وعلا- عملا صالحا، ثم يقبضه عليه".

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا أواخرها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلاما على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

عباد الله: فإن من دلالات القرآن: أن الله -جل وعلا- أعظم ناصر، وأجل معين، والعبد وهو يتقلب في أيامه هذه، لا بد له من مرغوب يطلبه، ومن مرهوب يخافه ويدفعه، ولا يدفع مرهوب إلا بالله وحوله، ولا يطلب مرغوب إلا بالله -جل وعلا- ورحمته.

وقد دل القرآن على أن الله -جل وعلا- لا يضيع أهله، ولا يخذل أولياءه، ولما ألقي خليل الله -جل وعلا- في النار أحرقت النار منه وثاقه، وخرج -سلام الله عليه- يمشي على قدميه، فلما رآه أبوه، وكان الأب مثل قومه كافرا، قال له: "نعم الرب ربك يا إبراهيم".

فقد رأى آزر بعينيه، أي رحمة ألبسه الله -جل وعلا- خليله إبراهيم، فلا أحد يحفظ وينصر إلا الله -تبارك وتعالى-.

وقد جاء في آثار الصالحين: أن الحجاج بن يوسف غضب يوما على الحسن البصري، فاستدعاه، وأمر بالجلاد والنطع والسيف دعاه ليقتله، فلما دخل الحسن على الحجاج في مجلسه حرك شفتيه عند باب المجلس، فرآه الحاجب المسئول عن الباب، وهو يحرك شفتيه، دون أن يفقه ما يقول، فلما دخل الحسن على الحجاج تغير الحجاج، وأخذ يكرمه، ويطيبه ويسأله، ويقول له: أنت سيد العلماء يا أبا سعد، فما زال يسأله ثم ودعه، حتى وصل به إلى الباب وخرج ولم ينل منه بسوء، فتعجب الحاجب مما رأى، فتبع الحسن البصري، وقال: يا أبا سعيد والله إنك لتعلم أن الحجاج ما دعاك ليكرمك، ولكنه دعاك ليقتلك، وإنني رأيتك عندما دخلت من الباب أنك حركت شفتيك، فأسألك بالله: ماذا كنت تقول؟

قال الحسن: أما وقد سألتني، فإني كنت أقول: "اللهم يا ولي نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته علي بردا وسلاما، كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم".

وهذا يعرف في الشرع وفي العلم: بتأول القرآن.

فيه الإنسان ينظر إلى آيات القرآن، فيتأملها، ثم يتأولها، والمعنى بأن يتأولها: أن ينظر ما الدعاء، فيقول فمثلا: قال الله -جل وعلا- عن الصديق يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].

فيقول المؤمن في دعائه: "اللهم اصرف عني السوء والفحشاء، واجعلني من عبادك المخلصين".

قال الله -جل وعلا- في كتابه: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 27- 28].

فيتأول المؤمن القرآن، يقول في دعائه: اللهم قني عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم.

وهكذا في غيرها من آيات القرآن.

وهؤلاء المؤمنون يقولونها في الدنيا تعبدا، ويقولونها في الآخرة تلذذا.

ومما يحفظ الله -جل وعلا- به عباده: أن يقوم العبد بطاعة الله -تبارك وتعالى-، فإن أقداما مضت، وتمضي إلى المساجد، تجيب الجمع والجماعات، حق على الله -جل وعلا- أن يحفظها.

وإن قلوبا تخشع، وتجد عند قراءة القرآن، حق على الله -جل وعلا- أن يهديها.

وإن أعينا تذرف دمعها خشية لله، حق على الله -جل وعلا- أن يحرمها على النار.

وإن جباها تسجد لخالقها وبارئها، ترجوا رحمته، وتخشى عذابه، حق على الله -جل وعلا- أن يعزها.

وإن أيد تعطي مما أعطاها الله -جل وعلا- حق على الله -جل وعلا- أن يرفعها، ويعلي شأنها.

فعلى قدر العبد من التوفيق للعبادة يكون حظه من حفظ الله -جل وعلا- له.

وأصل التوفيق للعبادة إنما يكون على شأن عظيم، وهو مخافة الله -جل وعلا-، فلا يمكن أن يوفق كل التوفيق إلا من كان أعظم خوفا لله، قال الله -جل وعلا- في نبأ موسى مع قومه: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) [المائدة: 23].

فقول الله -جل وعلا-: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) هذه علامة توفيق.

وقول الله -جل وعلا-: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) إخبار عن صفة هذين الرجلين.

وقول الله -جل وعلا-: (أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا) إخبار بأن من أعظم النعم: أن يرزقك الله -جل وعلا- أن تخشاه في الغيب والشهادة.

ومن عرف عظمة الله حق المعرفة، لم يكن له بد إلا أن يخشى ربه، ومن عرف الله حق المعرفة لم يكن له ملجأ ولا بد إلا أن يخشى الله.

وعلى قدر علم الإنسان بعظمة خالقه وسيده ورازقه على قدر خوفه من الله -جل وعلا-: (قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام:15].

(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46].

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40 - 41].

قال عن زكريا وآله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [الأنبياء: 90].

(رَغَبًا) فيما عندنا من الرحمة.

(وَرَهَبًا) أي خوفا مما عندنا من العذاب.

وما منع الصالحون أن يعصوا الله عدم خلوتهم، فإنهم يخلون كما يخلو غيرهم، ولا عدم قدرتهم، فإن الله أعطاهم عافية في أبدانهم وأموالهم، وما منعهم أن يعصوا الله -جل وعلا- خوفهم من الناس، فالناس يمكن أن يشترى رضاهم بالدينار والدرهم، لكن منعهم من معصية الله خوفهم من مقام الله -جل جلاه-.

والله -أيها المباركون-  مستو على عرشه، استواء يليق بجلاله وعظمته.

وسعت رحمته كل شيء، فلا ذنب تعجز عنه رحمة الله.

ووسع علمه كل شيء، فليس شيء موجودا إلا والله -جل وعلا- يعلمه.

ووسع سلطانه كل شيء فليس أحد موجودا إلا والله -جل وعلا- قاهره.

بل إن حملة العرش، وهم حملة العرش، الله -جل وعلا- مستغن عنهم كل الغنى، وهم على قربهم من ربهم فقراء كل الفقر إلى رحمة وعظمته.

فالسعيد من جعل الله -جل وعلا- في قلبه نورا يهتدي به إلى معرفة الرب -تبارك وتعالى-، قال أصدق القائلين: (نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء) [النــور: 35].

ومن حفظ الله -جل وعلا- في ليله ونهاره بإقامة طاعته، واجتناب معصيته، زاده الله -جل وعلا- نورا في قلبه.

ومن دلالات القرآن: أن أهل النار -عياذا بالله- لا يموتون فيها ولا يحيون، لا يموتون فيسترحون، ولا يحيون فينعمون.

وأما العصاة من المؤمنين، فإنهم يموتون إماتة في النار، ثم إنهم يخرجون منها ضبائر ضبائر، فيلقون على نهر عند أبواب الجنة، فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم الماء، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد يخبر عما يكون من أهوال يوم القيامة، فيمر المؤمنون على الصراط: "فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبا، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا؟ فيقول الله -تعالى-: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار.

فأخرجوه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40].

فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: "هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه.

فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندى أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أى شىء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا".

اللهم إنا نسألك في مقامك هذا رضا لا تسخط علينا بعده أبداً.