الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
اعلموا: أن الجهالة في الأشياء، تورث الضلالة في العواقب، والغبن في المعاملات ينتج عنه كثير من المشاكل والاختلافات، فالمؤمنون عند شروطهم، فإن تعاقد طرفان، وبُيِّنت الأمور بينهما، ووضَح المطلوب لكل منهما زالت المشاكل، وحل الوفاق والاتفاق، وتعلمون قصة....
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدى هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعلموا -عباد الله- أن الجهالة في الأشياء تورث الضلالة في العواقب، والغبن في المعاملات ينتج عنه كثير من المشاكل والاختلافات، فالمؤمنون عند شروطهم، فإن تعاقد طرفان وبُيِّنت الأمور بينهما، ووضَح المطلوب لكل منهما زالت المشاكل، وحل الوفاق والاتفاق، وتعلمون قصة الثلاثة الذين أُغلق عليهم باب الكهف بصخرة عظيمة لا يستطيعون تحريكها، فتوجهوا إلى الله بصالح أعمالهم، وزالت الصخرة عن مكانها، ومن هؤلاء الثلاثة رجلٌ صاحبُ عمل قال في توسله إلى الله: "... اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ -وفي رواية من أرز- فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ -أي رفض أخذ الأجرة، مستقلاًّ لها فتركها وذهب- فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ -بعد مدة من الزمن يطالب بأجره الزهيد الذي رفضه أولا، فاضطرته الحاجة إليه- فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ متعجبا-: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا -الصخرة-، فَكُشِفَ عَنْهُمْ" [صحيح البخاري: 2215].
وللحفاظ على حقوق الآخرين، لا يجوز الاستحواذ على أموال أعدائنا إذا أردنا ترحيلَهم من بلادنا، فقد أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليَهُودَ بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلاَهُمْ" [ذكره البخاري في صحيحه].
وحثنا ديننا على اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، لقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص: 26].
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الخَازِنُ الأَمِينُ، الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ، أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ" [صحيح البخاري: 2260].
والخازن، هو العامل والأجير.
واعلموا -عباد الله- أن المؤمنين عند شروطهم، لا ينبغي التعاقد على الغيب المجهول، كالعمل والأجر، فلا بد أن يكون كلٌّ من العمل والأجر معلوما لدى المتعاقدين، فلا يجوز أن يقول الأجير عند الاتفاق على الأجرة، فيسأله صاحب العمل: كم تريد؟ فيقول: "ما نختلف" "بسيطة"، "إللّي منك بركة"، "زَيِّ الناس"...، أو يقول العامل والأجير لصاحب العمل: كم تعطيني؟ فيقول صاحب العمل: "ما نختلف"، "سأرضيك"، "سأبسِطك"، "سأعطيك أفضل من الناس"...، كلُّ ذلك لا يجوز.
وهذا كما يقولون: "راعي خالته"، وهو مَثَلٌ لِيبيٌّ عرفنه الشيخ ياسين -حفظه الله تعالى-، معناه: أن صاحبة العمل استأجرت ابنَ أختها، فتقول: "هو ابنُ أختي لا يريد من خالته شيئا"، وهو يقول: "هي خالتي لا بد أن تكرمني وتعطيني كثيرا"، ويعيش الاثنان على الأوهام، ثم تكون بعد ذلك المشاكل، عَنْ حَمَّادٍ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى طَعَامِهِ؟ قَالَ: "لَا حَتَّى تُعْلِمَهُ" [قال الألباني: "صحيح مقطوع" سنن النسائي: 3859].
أي تقول له: اعمل عندي على طعامك ليس لك غيره، فإن وافق كان بها.
وعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله تعالى عنه- قَالَ: "كُنْتُ أَدْلُو الدَّلْوَ بِتَمْرَةٍ، وَأَشْتَرِطُ أَنَّهَا جَلْدَةٌ" [سنن ابن ماجه: 2447].
أي يشترط في أجرته أن تكون على صفة معلومة، حتى لا يختلفا.
وموسى -عليه السلام- آجر نفسه عند شعيب راعيا ثمان سنين، على أن يأكل ويشرب ويتزوج ابنته، فأتم موسى -عليه السلام- العمل عشر سنين.
وهذا من كرم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
فالعمل معلوم، والأجرة معلومة قدْرا.
أما أمُّ موسى -عليه السلام-، فقد استأجرها فرعون لترضع ولدها موسى -عليه السلام-.
واستأجر عبد المطلب حليمة السعدية لترضع حفيده محمدا -صلى الله عليه وسلم-.
واستأجر أهلُ مكةَ نبيَّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ليرعى لهم الغنم، فقَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلا رَعَى الْغَنَمَ"، فَقَالَ أصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ! كُنْتُ أَرْعَى عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ" [شرح السنة، للبغوي: 8/ 265].
فالعمل معلوم، والأجرة معلومة.
وعند الوفاء بالأجر لا تجوز المماطلة والتسويف، أو التنقيص من الأجرة المتفق عليها إلا بالتراضي، لا بسيف الحياء كما يقولون، أعلم قصصا واقعية كثيرة مضمونها؛ أن أحد الأجراء والعمال بنى بيتا لأحد الناس، وعندما أتم ما اتفقا عليه أعطاه جزءًا من الأجرة، واعتذر عن بقيتها بحجة قلة المادة، فصبر الأجير، حوالي أربع سنين.
بينما صاحب البيت أكمل بيته من قصارة وتبليط ودهان، وبقي يسوِّف ويماطل الأجير الذي بنى البيت، ويعتذر بقلة المادة! فالأجير يضطر بسيف الحياء أن يتنازل عن شيء من عرقة وتعبه، وقد عدَّ العلماء، ومنهم ابن حجر الهيتمي، ذلك من الكبائر، فقال: "الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: تَأْخِيرُ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ، أَوْ مَنْعُهُ مِنْهَا بَعْدَ فَرَاغِ عَمَلِهِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ: 2227، وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ" [وَابْنُ مَاجَة: 2443، بِسَنَدٍ حَسَنٍ].
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" [الزواجر عن اقتراف الكبائر: 1/ 437].
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَعْظَمَ الُّذُنوبِ عِنْدَ اللهِ: رَجُل تَزَوَّج امْرَأة فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، طَلَّقَهَا وَذَهَبَ بِمَهْرِهَا، وَرَجُلٌ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً فَذَهَبَ بُأُجْرَتِهِ، وَآخَرُ يَقْتُلُ دَابَّةً عَبَثاً" [مستدرك الحاكم: 2743، كتاب النكاح، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي، الصحيحة: 999].
وقال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، -فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ" [صحيح البخاري: 2287].
ومن الأجراء من لا يعطي العملَ حقَّه، -فلا يحسن عمله، أو- يتأخرُ في بدْءِ العمل، ثم يعملُ ببطءِ وتأنٍّ وتأخُّرٍ، كأنما يساق سوقا وهو يريد أجرته كاملة، كيف تريدُ الأجرةَ كاملةً وأنت لا تعملُ العملَ كاملا؟ أليس هذا من الظلم؟ أليس هذا من أكل المال بالباطل؟ إن أجيرا كهذا لا يستحق في دين الله -تعالى- من أجرته إلا بمقدار عمله، وما زادَ من الأجرة فحرام عليه.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وعاملوا الناس بالعدل، عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حلِّلوا مكاسبكم، اجعلوها غنيمةً لكم تعينكم على طاعة الله، لا تجعلوها غُرْمًا عليكم، فتفقدوا بركتها، وتستحقوا عقوبة الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188] [الضياء اللامع من الخطب الجوامع: 2/ 234].
فيجب على العامل أن يفيَ بِعَمَلِه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" [الصحيحة: 1113].
وأفضل العمل ما قام به الإنسان بنفسه، فقد ورد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ؛ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" [البخاري: 2072].
وإنفاقك على أهلك مأجور عليه عند الله -جل جلاله-، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ؛ فَهُوَ صَدَقَةٌ" [ابن ماجة : 2138، صحيح الترغيب: 1685].
واعلموا -أيها العمال! أيها الأجراء-: أن الدولة في الإسلام تكفل لكم -إن عملتم في أحد مرافقها- الزواج والخادم والمسكن، قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً؛ فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ؛ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ؛ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا" قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ" [أبو داود: 2945، المشكاة: 3751].
لكن من هم الأجراء؟ من هم العمال؟!
العامل هو كلُّ من يعمل، من رئيسِ الدولة، أو ملكِها أو أميرِها، أو سلطانِها أو خليفتِها، إلى من يعمل في النظافة والحدادة والنجارة، ... فهؤلاء كلهم أجراء.
فهذا الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "لَمَّا استُخْلِفَ ... قَالَ: "لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ" [صَحِيحٌ].
فولي الأمر لا بد له من خادم أو عامل يقوم على شئونه، وما يحج به ويعتمر، وملابس للشتاء، وأخرى للصيف، وراتبا لقوته وعياله، وما له من نصيب وسهم مع المسلمين، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عُمَرَ فَخَرَجَتْ عَلَيْنَا جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: "هَذِهِ سُرِّيَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ"، فَقَالَتْ: "وَاللَّهِ مَا أَنَا بِسُرِّيَّةٍ، وَمَا أَحِلُّ لَهُ، وَإِنِّي لَمِنْ مَالِ اللَّهِ".
ثُمَّ دَخَلَتْ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا عُمرُ، فَقَالَ: "مَا تَرَوْنَهُ يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: مِنْ هَذَا الْمَالِ؟" قَالَ: قُلْنَا: "أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا"، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ أَخْبَرْتُكُمْ مَا أَسْتَحِلُّ مِنْهُ، مَا أَحُجُّ وَأَعْتَمِرُ عَلَيْهِ مِنَ الظَّهْرِ، وَحُلَّتِي فِي الشِّتَاءِ، وَحُلَّتِي فِي الصَّيْفِ، وَقُوتَ عِيَالِي، وَشِبَعِي، وَسَهْمِي فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
قَالَ مَعْمَرٌ: وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي يَحُجُّ عَلَيْهِ وَيَعْتَمِرُ بَعِيرًا وَاحِدًا.
... ويَجُوزُ لِلْوَالِي أَنْ يَأْخُذَ -راتبا- مِنَ بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ مِنْهُ مَسْكَنًا، وَخَادِمًا، رُوِيَ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا"، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ" [سنن أبي داود: 2945].
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذَا يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ اكْتِسَابَ الْخَادِمِ، وَالْمَسْكَنِ مِنْ عُمَالَتِهِ الَّتِي هِيَ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَفِقَ بِشَيْءٍ سِوَاهَا.
وَالْوَجْهُ الآخَرُ: أَنَّ لِلْعَامِلِ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ، وَخَادِمٌ، اسْتُؤْجِرَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، فَيَكْفِيهِ مِهْنَةَ مِثْلِهِ، وَيُكْتَرَى لَهُ مَسْكَنٌ يَسْكُنُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي عَمَلِهِ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي شَيْئًا لِقَرَاطِيسِهِ" -والله أعلم- [شرح السنة، للإمام البغوي: 10/ 85- 87].
وهذا كله حتى لا يمدن عينيه إلى ما في أيدي الناس من رشوة ونحوها، فأين هذا ممن يلعبون بأموال المسلمين، ويتلهون بعرق العاملين؟ وأين هذا ممن أسرف في مقدرات الأمة التي هو مستأمن عليها، أين هم من الخيانة وعقوبتها في الدنيا قبل الآخرة؟ -رحماك ربي رحماك-!.
فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد:
دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله تعالى عنهما- وَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ!" فَقَالَ النَّاسُ: "الْأَمِيرُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ!" ثُمَّ قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ!" فَقَالَ النَّاسُ: "الْأَمِيرُ" فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: "دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ" قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: "إِنَّمَا مَثَلُكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَوَلَّاهُ مَاشِيَتَهُ، وَجَعَلَ لَهُ الْأَجْرَ عَلَى أَنْ يُحْسِنَ الرَّعِيَّةَ، وَيُوَفِّرَ جَزَازَهَا -أي صوفها- وَأَلْبَانَهَا، فَإِنْ هُوَ أَحْسَنَ رَعِيَّتَهَا، وَوَفَّرَ جَزَازَهَا، حَتَّى تَلْحَقَ الصَّغِيرَةُ، وَتَسْمَنَ الْعَجْفَاءُ، أَعْطَاهُ أَجْرَهُ، وَزَادَهُ مِنْ قِبَلِهِ زِيَادَةً، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُحْسِنْ رَعِيَّتَهَا، وَأَضَاعَهَا حَتَّى تَهْلَكَ الْعَجْفَاءُ، وَتَعْجَفَ السَّمِينَةُ، وَلَمْ يُوَفِّرْ جَزَازَهَا وَأَلْبَانَهَا، غَضِبَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَجْرِ فَعَاقَبَهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْأَجْرَ" فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: "مَا شَاءَ اللهُ كَانَ" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: 2/ 125].
حقًّا! إن أولياء الأمور أجراء، استأجرهم الله على عباده، فإن أحسنوا فيهم، أحسن الله إليهم، وإن أساؤوا التصرف معهم، فظلموهم انتقم منهم ربهم في الدنيا قبل الآخرة، وجعله عبرة لغيره.
فحذار حذار: يا من توليتم أمور المسلمين من اللعب والتلاعب بأموال الناس، ومقدرات الأمة.
أيُّها الظالم: اليوم تستطيع أن تتخلص من ظلمك، وترجع الحقوق إلى أهلها، الحقوق اليوم أموال دراهم دنانير، أما غدا! فالحقوق تؤخذ من حسناتك، وتعطى للمظلومين، أو من سيئاتهم تطرح في ميزانك، فتصبح من اللمفلسين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ"، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" [صحيح مسلم: 2581].
عباد الله: إن الله -تعالى- قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن بقية الصحابة أجمعين، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم بمنك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم فرّج همّ المهمومين، ونفّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضى المسلمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].