الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
لَقَدْ أَضْحَى بَعْضُ الشَّبَابِ أُلْعُوبَةً فِي أَيْدِي مَنْ لَا يَعْرِفُونَ، يُوَاصِلُونَهُمْ عَبْرَ الشَّبَكَاتِ الْعَالَمِيَّةِ، ثُمَّ يُقْنِعُونَهُمْ بِأَفْكَارِهِمْ، فَيَثِقُ المَخْدُوعُونَ بِهِمْ، وَيُسْلِمُونَهُمْ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمُ الْأَمْوَاتُ عَلَى نُعُوشِ التَّغْسِيلِ، يَقْلِبُونَ عُقُولَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَيَصُوغُونَ أَفْكَارَهُمْ كَيْفَ يَشَاءُونَ؛ لِيَبْذُلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ فِي الْإِفْسَادِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَتَرْوِيعِ الْآمِنِينَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ تَعَالَى.. إِنَّ مَنْ حَقَّقَ أَصْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى حُرُمَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فَيَنْتَهِكُهَا، وَلَا عَلَى دِمَاءِ المُسْلِمِينَ فَيَسْفِكُهَا، وَلَا عَلَى بُلْدَانِهِمْ فَيُفْسِدُ فِيهَا.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ؛ هَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْإِيمَانِ، وَضَلَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَهْلُ الْجُحُودِ وَالْكُفْرَانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ بَعَثَ فِي المُؤْمِنِينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا الْإِيمَانَ، وَاسْعَوْا فِيهِ إِلَى الْكَمَالِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِلْمٌ يُتَعَلَّمُ، وَأَبْعَاضٌ تَتَجَزَّأُ، فَيَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ قَبْلَ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ ازْدَادُوا بِهِ إِيمَانًا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَانًا ازْدَادَ قُرْبًا مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى، وَحُبًّا لَهُ، وَرَغْبَةً إِلَيْهِ، وَخَشْيَةً مِنْهُ، وَتَلَذَّذَ بِكُلِّ عِبَادَةٍ يُؤَدِّيهَا؛ لِأَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي تَحْمِلُ قُلُوبًا عَامِرَةً بِاللَّـهِ -تَعَالَى- لَيْسَتْ كَالْقُلُوبِ الْخَاوِيَةِ الْقَاسِيَةِ (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَلْفِتُ انْتِبَاهَ قَارِئِ الْقُرْآنِ ارْتِبَاطُ الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، دُونَ سَائِرِ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَكُرِّرَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَجَاءَ فِي مَوْضُوعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَفِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنِ المُؤْمِنِينَ بِهِ بِأَنَّهُمُ المُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا فِي آيَةِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَفِي مَدْحِ المُؤْمِنِينَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّـهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 99].
وَفِي بِنَاءِ الْبَيْتِ دَعَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة: 126]، فَخَصَّ دَعْوَتَهُ بِالمُؤْمِنِينَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَفِي بَابِ المَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22].
وَفِي الْحَثِّ عَلَى التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وَفِي الرَّدِّ إِلَى السُّنَّةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59].
وَفِي عِمَارَةِ المَسَاجِدِ (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة: 18]، ويُكَرِّرُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لَهَا: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّـهِ) [التوبة: 19].
وَفِي شَأْنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ تَعَالَى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 44-45]، فَكُرِّرَ فِي الْآيَتَيْنِ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَفِي فَرْضِ الْجِزْيَةِ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29].
وَفِي وَصْفِ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ) [آل عمران: 114].
وَفِي الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَاقِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّـهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [الطلاق: 2].
وَفِي شَأْنِ المُطَلَّقَاتِ الْحَوَامِلِ: (وَلَا يَحِلُّ لهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة: 228].
وَلمَّا ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَضْلَ النِّسَاءِ وَعَظَ أَوْلِيَاءَ النِّسَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة: 232].
وَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِيَيْنِ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور: 2].
وَفِي نَفْيِ الْإِيمَانِ أَيْضًا يُكَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ مَنْفِيٌّ عَمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة: 264].
وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ثُمَّ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لَهَا يُحَرِّضُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، بِتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقِ الْإِيمَانَ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا) [النساء: 38- 39].
فَبَانَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الِارْتِبَاطُ الْوَثِيقُ بَيْنَ رُكْنَيِ الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعُلَمَاءُ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ يَتَلَمَّسُونَ عِلَّةَ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هُمَا أَشْرَفُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَأَعْظَمُهُمَا؛ وَلِذَا نُصَّ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- هُوَ الدِّينُ أَوْ لُبُّهُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ فَيْصَلُ الْإِذْعَانِ وَالتَّمَرُّدِ، وَفَيْصَلُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَالْجُحُودِ بِهِ؛ إِذْ لَا يَكْفُرُ بِهِ إِلَّا مَنْ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالمَحْسُوسِ.
وَالْإِيمَانُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- هُوَ مَبْدَأُ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرَبٍّ وَاحِدٍ لَا يَصِلُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ؛ إِذِ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ يَصْلُحُ الِاعْتِقَادُ وَهُوَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ الْوَازِعُ وَالْبَاعِثُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَفِيهِ صَلَاحُ الْحَالِ الْعَمَلِيِّ.
وَالْإِيمَانُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَمُنْتَهًى، فَمُبْتَدَؤُهُ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- وَمُنْتَهَاهُ الْيَوْمُ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَبَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ دَخَلَتْ كُلُّ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ انْدَرَجَ الْإِيمَانُ بِالمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ وَالْبَعْثِ وَالْقَدَرِ. وَالمُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَسْعَدُ فِي الدُّنْيَا بِالْعَمَلِ لِلَّـهِ -تَعَالَى- يَرْجُو ثَوَابَهُ، وَيَسْعَدُ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يَلْقَى جَزَاءَهُ.
وَلِذَا وُعِدَ المُؤْمِنُونَ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 62]. فجَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ لَهَا أَدْيَانٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهِي الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ المِلَلِ، وَجَاءَتْ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ؛ هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُفَقِّهَنَا فِي الْإِيمَانِ، وَيُعَلِّمَنَا الْقُرْآنَ، وَيَزِيدَنَا بِالْقُرْآنِ إِيمَانًا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنَ الْقُرْآنِ حَظَّكُمْ؛ فَإِنَّهُ كِتَابُ رَبِّكُمْ، وَحُجَّتُهُ عَلَيْكُمْ، وَشَفِيعٌ لَكُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: دَعَا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَقْوَامَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت: 36].
وَالمُلَاحَظُ فِي دَعْوَةِ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ لمَّا دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ نَهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ يَقْطَعُونَ عَلَى النَّاسِ طُرُقَهُمْ، وَيَبُثُّونَ الرُّعْبَ فِيهِمْ، وَيَسْلُبُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَازِعٌ يَزَعُهُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ إِيمَانَهُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- يَدْعُوهُ لِمُرَاقَبَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِيمَانُهُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَرْدَعُهُ عَنِ الْفَسَادِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ سَيُحَاسَبُ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى فَسَادِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْإِفْسَادُ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَالْأَعْدَاءُ يَتَرَبَّصُونَ بِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ وَأَنْكَى، وَذَلِكَ كَتَفْجِيرِ المَسَاجِدِ، وَقَصْدِ الْآمِنِينَ بِالْقَتْلِ وَالتَّرْوِيعِ، وَإِحْدَاثِ الْقَلَاقِلِ فِي الْبِلَادِ الْآمِنَةِ، فَذَلِكَ شَرُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ عَظِيمٌ، وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ كَبِيرٌ، فَإِذَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا عَلَى جَهْلٍ! نَعُوذُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنَ الْجَهْلِ وَالْهَوَى، وَمِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَفَسَادِ الْأَفْكَارِ.
لَقَدْ أَضْحَى بَعْضُ الشَّبَابِ أُلْعُوبَةً فِي أَيْدِي مَنْ لَا يَعْرِفُونَ، يُوَاصِلُونَهُمْ عَبْرَ الشَّبَكَاتِ الْعَالَمِيَّةِ، ثُمَّ يُقْنِعُونَهُمْ بِأَفْكَارِهِمْ، فَيَثِقُ المَخْدُوعُونَ بِهِمْ، وَيُسْلِمُونَهُمْ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمُ الْأَمْوَاتُ عَلَى نُعُوشِ التَّغْسِيلِ، يَقْلِبُونَ عُقُولَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَيَصُوغُونَ أَفْكَارَهُمْ كَيْفَ يَشَاءُونَ؛ لِيَبْذُلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ فِي الْإِفْسَادِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَتَرْوِيعِ الْآمِنِينَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ تَعَالَى.
إِنَّ مَنْ حَقَّقَ أَصْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى حُرُمَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فَيَنْتَهِكُهَا، وَلَا عَلَى دِمَاءِ المُسْلِمِينَ فَيَسْفِكُهَا، وَلَا عَلَى بُلْدَانِهِمْ فَيُفْسِدُ فِيهَا. وَلَا يَجْنِي ثَمَرَةَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ إِلَّا أَعْدَاءُ المِلَّةِ وَالدِّينِ؛ لِيَنْشُرُوا الْفَوْضَى فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَسْتَبِيحُوهَا وَيُقَسِّمُوهَا، وَيَنْهَبُوا ثَرَوَاتِهَا، فَهَلْ يَعِي الشَّبَابُ المُغَرَّرُ بِهِمْ ذَلِكَ، وَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا يُرَادُ بِهِمْ؟
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكْبِتَ المُفْسِدِينَ، وَأَنْ يُعْلِيَ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَالدِّينِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...