البحث

عبارات مقترحة:

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

السيد

كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...

العواصم من الفتن القواصم

العربية

المؤلف خالد بن سعد الخشلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. كثرة ظهور الفتن في آخر الزمان .
  2. الأسباب العاصمة من الفتن والمنجية منها .
  3. الاعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة من الفتن .
  4. أهمية لزوم جماعة المسلمين والحذر من مفارقتها .
  5. فضل العبادة والإكثار من الأعمال الصالحة زمن الفتنة. .

اقتباس

ألا وإن من أعظم، بل إن أعظم ما يُستمسك به للنجاة من الفتن صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها هو الاعتصام بالكتاب والسنة.. الاعتصام بالكتاب والسنة هو العاصم من الفتن، الاعتصام بالكتب والسنة هو المخرج من الفتن، الاعتصام بالكتاب والسنة هو النجاة من الفتن على المستوى الفردي والجماعي؛ فالرجوع إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما في كل الأمور هو والله طريق الفوز والفلاح ومسلك الهدى والنجاح.. إنها الاعتصام بحبل الله المتين، إنه الاعتصام بصراط الله المستقيم المبين، إنه طريق العصمة من التفرق والاختلاف...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فإن من اتقى الله جعل الله له من كل همّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومنحه مولاه ولايته ومحبته ونصره وتأييده (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 62- 64].

أيها الإخوة المسلمون: لقد أخبر النبي الكريم الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- عن ظهور الفتن في آخر الزمان على اختلاف أنواعها، وأشكالها وضعفها وشدتها، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن فتنًا عظيمة ستحصل للأمة يلتبس فيها الحق بالباطل، فيتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا.

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".

فشبَّه -صلى الله عليه وسلم- هذه الفتن بقِطَع الليل المظلم؛ وذلك لفرط سوادها وظلمتها، وعدم تبين الصلاح والفساد فيها عند فئام من الناس.

وأخبر -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ظهور الفتن من علامات الساعة وأشراطها، فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، وتظهر الفتن، ويُلقى الشحّ، ويكثر الهرج"، قالوا: وما الهرج؟ قال: "القتل".

والمقصود بتقارب الزمان المشار إليه في الحديث فيما يظهر: ما وقع في هذا العصر من تقارب بين المدن والأقاليم، وقصر زمن المسافة بينها؛ بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعات والإنترنت، وغيرها من وسائل النقل والاتصال، ووسائل الاتصال الاجتماعي.

وأما قبض العلم، فالمراد به رفعه، وذلك بموت حَمَلَته من أهل العلم الراسخين، فيقبضهم وبقبضهم يُقبض العلم ويُرفَع، ثم لا تسل بعد ذلك عن الفساد العريض الذي يحصل للأمة بسبب قبض علمائها والراسخين من أهل العلم فيها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".

والمقصود بالعلم الذي يُقبَض في هذا الحديث بقبض حَمَلته هو العلم الشرعي علم الكتاب والسنة، علم الحلال والحرام، وهو العلم الذي ورثه العلماء عن الأنبياء؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، وبموتهم يذهب العلم، وتموت السنن، وتتفشى البدع، ويعم الجهل، وما أعظمه من خطر يصيب الأمة يوم تفقد علماءها! ثم يتصدر للفتية رءوس جهال يفتون بغير علم يتقحمون كل عسير، ويقدمون على الفتوى في كل أمر خطير، حتى إن أحدهم لا يكاد يحسن قراءة القرآن، ولا عنده عناية بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم هو بعد ذلك يتكلم في المسائل الكبار والنوازل العظام ويصول ويجول ويحلل ويحرم ويقدم ويؤخر.

وإن تعجب من هذا، فاعجب أشد العجب في أن يجد أمثال هؤلاء النكرات الذين لا يُعرَفون بعلم، ولا عمل صالح، حينما تجد أمثال هؤلاء تجد من يوافقهم ويتبعونهم ويتابعونهم في مواقعهم.

 وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وتظهر الفتن"، فالمراد بظهور الفتن المشار إليها في هذا الحديث: كثرتها واشتهارها، فيكثر ظهورها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وما يترتب على ذلك من المحن والبلايا العظام، ففيه كما يقول ابن كثير -رحمه الله- "إشارة نبوية إلى تغلغل الفتن في الأوساط الإسلامية".

وإخباره -صلى الله عليه وسلم- عن ظهور الفتن يشمل فتن الدين والدنيا، أما فتن الدين فكل ما يصدّ عن الإيمان بالله، والقيام بأمره، واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- من العقائد الفاسدة، والأفكار الهدامة، والسلوك المنحرف، والصدّ عن ذِكْر الله وعن الصلاة بالاشتغال بالشهوات واللذائذ المحرمة.

وما أكثر القنوات اليوم ووسائل التواصل التي تصدّ عن دين الله، وعن ذِكره بإثارة الشُّبَه والترويج لها، ونشر الكفر والفسق والبدع.

وأما فتن الدنيا؛ فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب والطرد والتهجير، وهذا كله راجع إلى ضعف العلم الصحيح والإيمان الخالص، وفشو الظلم والجور، ومهما يكن من أمر أيها الإخوة في الله؛ فإن هذا الحديث النبوي العظيم يحمل إعجازًا نبويًّا في الإخبار بالمغيبات؛ بحيث إنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد نوعية الفتن لا كمًّا ولا كيفًا، بل أخبر بظهور الفتن وما يشاهده المرء في عالم اليوم من تتابع الفتن عامًا بعد عام ظهورًا وكثرة، ويُجلي بحق ويُظهر بصدق عظمةَ إعجاز النبوة في الإخبار عن هذه المغيبات.

فنرى اليوم -أيها الإخوة في الله- فتنًا تتجدد تظهر في مجال الإعلام والتعليم، والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، والحروب الطاحنة، واستضعاف المسلمين وهوانهم، وحرق مساجدهم وتدميرها، واستحلال أعراضهم، وسفك دمائهم، وطردهم من أراضيهم والتحزب عليهم، وكذلك ما نراه اليوم من فتنة النساء وكثرتهم وصولتهم، وخروجهن عن مأمورات الشرع، وكذلك فتنة العلم، فأصبح كثير من الناس يتعلمون لأغراض مادية وأطماع دنيوية.

وكذلك فتنة فشو الأمراض المستعصية الفتاكة، وفتنة المروق من الدين، ومجون المجتمعات وفسادها؛ حتى إن الناس في كل يوم يصبحون مستغربين لأنماط من الفتن وغرائب الأحوال مما لم يكن قد ألفوه من قبل.

وكأن الناس حينما تحيط بهم الفتن ظهورًا وتتابعًا وكثرةً تغمرهم هذه الفتن فلا يتبين كثير من منهم طريق الحق والصواب والخلاص من هذه الفتن، وإنما يسير الكثير من الناس في دوامة هذه الفتن من فتنة إلى أخرى، ومن فتنة إلى التي هي أكبر منها، وأشد منها وقليل من الناس هم المستبصرون وسط هذه الدوامة المهلكة. فنسأل الله لنا العصمة ولإخواننا المسلمين، نسأل الله للجميع العصمة والنجاة للجميع.

أيها الإخوة المسلمون: كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أمته بعظيم الفتن وعظيم أثرها، وشدة وقعها على الناس؛ فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب العاصمة من الفتن والمنجية منها، ألا وإن من أعظم، بل إن أعظم ما يُستمسك به للنجاة من الفتن صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها هو الاعتصام بالكتاب والسنة.

الاعتصام بالكتاب والسنة هو العاصم من الفتن، الاعتصام بالكتب والسنة هو المخرج من الفتن، الاعتصام بالكتاب والسنة هو النجاة من الفتن على المستوى الفردي والجماعي؛ فالرجوع إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما في كل الأمور هو والله طريق الفوز والفلاح ومسلك الهدى والنجاح.

إنها الاعتصام بحبل الله المتين، إنه الاعتصام بصراط الله المستقيم المبين، إنه طريق العصمة من التفرق والاختلاف (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103] (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78].

إنه اعتصام توكل على الله، إنه اعتصام استعانة وتفويض الأمر لله، إنه اعتصام لجأ وعياذ وإسلام النفس لله رب العالمين، والاستسلام له -سبحانه وتعالى-، إنه اعتصام بوحيه المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك بتحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم، ومن لم يكن كذلك فهو منسلّ من هذا الاعتصام، وإن ادعاه، فالدين كل بالاعتصام بالله والاعتصام بحبله ووحيه علمًا وعملاً وإخلاصًا، واستعانة ومتابعة واستمرارًا على ذلك كله حتى يلقى العبد ربه.

هؤلاء المعتصمون بالله وبكتابه هم الموعودون بالنصر على أعدائهم، هم الموعودون بالتمكين والأجر المبين، (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف:170].

هؤلاء المستعصمين بالله وكتابه هو الموعودون بالضلال والسلامة من الانحراف والنجاة من الفتن، بل والنجاة يوم القيامة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تضمن الله لمن اتبع هداه بألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة".

وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- أنه سيكون في أمته اختلاف كثير من بعده، وافتراق عظيم، وأن الحق مع المتمسكين بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والمعتصمين بها.

يقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضُّوا عليها بالنواجذ".

لكن هذا الاستمساك بالكتاب والسنة لا يوصل -أيها الإخوة في الله- إلى هذه النتيجة من النجاة والفوز والنصر على الأعداء، إلا إذا كان استمساكًا حقيقيًّا تكون الرجعة فيه في المواقف والأحداث والتصرفات والقرارات تكون الرجعة فيه للكتاب والسنة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36].

إخوة الإسلام: ومما يعصم من هذه الفتن الطاحنة لزوم جماعة المسلمين، والحذر من مفارقتها، وإذا كان المسلمون بأشد الحاجة دائمًا إلى لزوم الجماعة، والحذر من الفرقة فإنهم في أيام الفتن والمحن أشد حاجة إلى ذلك، لاسيما إذا كانت الولاية شرعية كما هو الحال في هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية؛ حيث البيعة فيها لولاة الأمر على الكتاب والسنة، والسيادة فيها وأنظمتها للشريعة، ونظامها الأساس للحكم ينص بوضوح على أن المرجعية للكتاب والسنة.

إن للعصمة من الفتن والنجاة من هذه البلايا: الحذر من مفارقة الجماعة وتفريق الكلمة، والمحافظة على هذه الوحدة المباركة التي جمعت بين شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها على الكتاب والسنة والتوحيد، وألفت بين أطياف المجتمع وأقاليمه المتنوعة المختلفة.

كما أن المسلم مطالَب في أوقات الفتن، بل في كل وقت وحين، ولكن في أوقات الفتن والمحن تتأكد هذه المطالبة؛ مطالَب بالالتفاف حول العلماء الربانيين الذين أمضوا حياتهم في تعلم الكتاب والسنة وتعليمهما، والحذر من الالتفاف حول الأصاغر والأحداث.

وفي حديث حذيفة -رضي الله عنه- لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتن، قال حذيفة: "فما تأمرني إذا أدركني ذلك؟" قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ونتيجة الجماعة أي: لزوم الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه".

وهل ينشد المسلم في دنياه وأخراه غير هذه المقاصد نتيجة لزوم الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه.

ونتيجة الفُرقة ومخالفة الجماعة: عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم.

فنسأل الله بمنّه وكرمه سبحانه وتعالى -وهو وحده العاصم من الفتن المنجّي منها- أن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إن ربي على كل شيء قدير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله خير الدنيا والآخرة وسعادة الدنيا والآخرة، وفقني الله وإياكم لتقواه وجنبنا أسباب غضبه وسخطه إن ربي على كل شيء قدير.

إخوة الإسلام: إن مما ينبغي للمسلم أن يعتصم به وقت الفتن: تقوى الله -عز وجل- وملازمة طاعته وعبادته، إن الملازم لطريق التقوى والعبادة لا آفة تطرقه، ولا بلية تنزل به؛ فإن وجد من تطرقه البلايا مع التقوى، فذاك في الغالب إما لتقدم ذنب يجازى عليه، وإما لإرادة رفع درجاته وعلو منزلته في الآخرة عند ربه.

وقد جاءت نصوص كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل العبادة والإكثار من الأعمال الصالحة زمن الفتنة، فعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العبادة في الهرج كهجرة إليّ"، يقول النووي -رحمه الله-: "المراد بالهرج هنا الفتنة، واختلاط أمور الناس، وسبب الفضل كثرة العبادة في أيام الفتن أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد".

إن كثيرًا من الناس اليوم يأسى على واقع الأمة، ويحزن لمصائبها وتألب وتحزب الأحزاب عليها، ولكنّ هذا الشعور وحده لا يكفي، إن مصاب الأمة في أفرادها وشعوبها ومجتمعاتها أعظم من مصابها بأعدائها.

ووالله أيها الإخوة المسلمون: لو رجعت الأمة إلى دين ربها، وصحّحت مسارها، وقوّمت اعوجاجها، وقوّت إيمانها، وزكّت قلوبها؛ والله لتبدلت أحوالها، وتغيرت أمورها، وما الأمة بمجموعها إلا الأفراد، فإذا توجهت الهمم إلى إصلاح النفوس وتزكيتها وإصلاح الآخرين حصل من ذلك فوز عظيم ونصر مبين.

إخوة الإسلام: إن المسلم مطالَب دائمًا وفي أيام الفتن على الخصوص بالبعد عن العجلة، والتضرع، والحرص على الأناة والتؤدة، وتحكيم نصوص الكتاب والسنة والرجوع إلى العلماء الربانيين في فهم نصوص الوحي والبعد عن العاطفة المجردة وخفة الرأي.

كما أن المسلم مطالَب بالنظر المتين، والتأمل العميق في المصالح والمفاسد، ومآلات الأمور ونتائجها وعواقبها؛ فإن الدين كله مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، فقد يزين للإنسان عمل ما، وأنه عمل صالح، لكن إذا نظر في مآلاته وعواقبه وما ينتج عنه تبين عظم الشرور وكثرة المفاسد الناجمة عن هذا العمل فيتقيه ويبتعد عنه.

والمسلم مع هذا كله على ثقة تامة، ويقين لا يخالطه شك في أن الله -عز وجل- وحده ناصر دينه ومعلي كلمته وقامع أعدائه (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].

إن المستقبل للإسلام ولو كره الكافرون، وكلما اشتدت المحن والمصائب وتجمع الأعداء، وتحزبوا على الأمة؛ كلما كان ذلك إيذانًا بقرب فجر جديد تسعد به البشرية وتنعم به الإنسانية في ظل شريعة رب الأرض والسماء (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء:51].

نسأل الله -عز وجل- أن يعجّل بكشف الغمة عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويبدل خوف الأمة أمنًا، وتفرقها إلى اجتماع ووحدة على الكتاب والسنة؛ إن ربي على كل شيء قدير..

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...