الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
أيها الناس: لقد قَلَّ الورع في هذا الزمان، وأصبح المال غايةً بعد أن كان وسيلةً، أصبح الرجل لا يهمه إلا كسب المال، ولا يهمه من أين اكتسبه من حرام أو حلال؟ وهذا كما أنه نقص في الدين، فهو نقص في العقل والتدبير، كيف تتجاوز الحلال إلى الحرام، وأنت ...؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يقضي بالحق، ويحكم بالعدل، وهو أحكم الحاكمين، حكم بالعدل وأمر به، وحرم على نفسه الظلم وحرمه على عباده، وهو أرحم الراحمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وجامع الخلق ليوم لا ريب فيه ليفصل بينهم بحكمه وهو خير الفاضلين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، طيب الذات والأسماء والصفات والأفعال، لا يقبل إلا الطيب من الأقوال والأعمال والأموال.
ألا وإن الطيب من الأموال ما اكتسبه الإنسان من طريق حلال، ثم أنفقه فيما يرضي الكبير المتعال.
أما المال الذي اكتسبه من حرام، فليس بطيب، فلا يقبله الله منه؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، لا والذي نفسي بيده لا يُسْلِم أو لا يَسْلَم عبد حتى يُسْلِم أو يَسْلَم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه" قالوا: وما بوائقه؟ قال: "غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالًا حرامًا فيتصدق به، فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهـره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسـن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"[أحمد (1/387)].
أيها المسلمون: إن في هذا الحديث لعبرةً وموعظةً لمن كان له قلب: أنه يدل على أن كثرة الدنيا، وتنعيم العبد بها لا يدل على محبة الله العبد؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولكن الدين في العبد هو الدليل على محبة الله، فإن الله لا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
وإن هذا الحديث ليدل على أن كسب الحرام خسارة لا ربح فيه للعبد، فإن تصدق به لم يقبل منه، وإن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن خلفه بعده كان زاده إلى النار.
كيف يليق بحال المؤمن أن يسمع مثل هذا، ثم يكتسب المال من طريق حرام، وهو يعلم أنه محرم؟
وكيف يليق به أن يذهب دينه من أجل دنياه؟
كيف يليق به أن يجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة؟
ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا، وأن اكتسابه بطريق محرم هدم للدين والدنيا؟
إن اكتساب المال بالغش كسب حرام، واكتسابه بالكذب كسب حرام، واكتسابه بالربا، وقلب الدين كسب حرام، واكتسابه بالدعاوي الباطلة كسب حرام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس منا"[مسلم (102) الترمذي (1315) ابن ماجة (2224) أحمد (2/242)].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"[مسلم (106) الترمذي (1211) النسائي (2563) أبو داود (4087) ابن ماجة (2208) أحمد (5/162) الدارمي (2605)].
ولعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله، وكاتبه وشـاهديه، وقـال هم سـواء"[النسائي (5103) أحمد (1/83)].
وقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهـو عليـه غضبـان"[البخاري (2380) مسلم (138) الترمذي (2996) أبو داود (3244) ابن ماجة (2323) أحمد (1/379)].
وتخاصم رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرض، فقال للمدعي: "ألك بينة؟" قال: لا، قال: فلك يمينه؟ فقال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس لك منه إلا يمينه" فلما أراد أن يحلف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لئن حلف على مال ليأكله ظلمًا ليلقين الله وهو عنه معرض، فأدرك الرجل مخافة الله، فرد أرضه"[مسلم (139) الترمذي (1340) أبو داود (3245) أحمد (4/317)].
أيها الناس: لقد قَلَّ الورع في هذا الزمان، وأصبح المال غايةً بعد أن كان وسيلةً، أصبح الرجل لا يهمه إلا كسب المال، ولا يهمه من أين اكتسبه من حرام أو حلال؟
وهذا كما أنه نقص في الدين، فهو نقص في العقل والتدبير،
كيف تتجاوز الحلال إلى الحرام، وأنت ترى المال يذهب وأنت عنه تنقل؟
كيف ترضى أن تكدس المال لغيرك عليك إثمه والتعب في تحصيله ولغيرك غنمه وثمرات عاقبته؟
هل رأيت أحدًا قبلك خَلَد للمال، أو خُلِّد المال له؟
فاتق الله -أيها المؤمن- وأجمل في الطلب، فإن رزق الله لا يدرك بمعصيته، وإنـما يدرك بطاعتـه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 – 3].
أيها الناس: لقد كثرت في المحاكم الخصوم، وصار الناس يتباهون أيهم يغلب في الخصومة وهو يرى أن الحق لغيره، ولكنه يدعي ما ليس له، أو ينكر ما يجب عليه ظلمًا وعدوانًا، ثم يعلل نفسه بأن القاضي حكم له.
يظن أن حكم القاضي يقلب الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، ولكن الأمر ليس كذلك، فالقاضي يحكم بالظاهر، وليس له إلا ما يسمع من الخصمين، وأما الباطن فإلى الله -تعالى-، هو الذي يحكم به يوم تبلى السرائر، ولا يوجد للظالم من قوة ولا ناصر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي به بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"[البخاري (6566) مسلم (1713) النسائي (5401) أبو داود (3583) ابن ماجة (2317) أحمد (6/320) مالك (1424)].
أيها المسلمون: إن بعض الناس لما غلت الأراضي والبيوت، صاروا يدعون ما ليس لهم، وينكرون ما كان عليهم، ومن هؤلاء من يكون شريكًا في أرض، فيتولى بعض الشركاء بيعها، أو تصبيرها، وهو عالم بذلك، وراض به في أول الأمر ومقتنع، حتى إذا تغيرت الأمور أتى بالحجج التي قد تنفعه في الدنيا، ولكن لا تنفعه في الآخرة، وسوف يأتي يوم القيامة حاملًا لكل شبر ظلمه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"[البخاري (3026) مسلم (1610) الترمذي (1418) أحمد (1/190) الدارمي (2606)].
يا ويح الظالم يوم القيامة! ويا ويله يأتي في ذلك اليوم العسير الشديد! حاملًا مَظلمَته! مُطوَّقًا بها من سبع أرضين! وقد فارقها في الدنيا، لم يخلد لها، ولم تخلد له!.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وخافوا عقابه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 188].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.