المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
شَهِدَتْ البشريةُ قَبْلَ أَنْوارِ الرِّسالةِ المحمديَّةِ ألواناً مِنَ الظُّلْمِ والقَهْرِ، تَسَلَّط فيها الأَقوياءُ على الضُّعفاء، وَغَلَبَ فيها صوتُ العصبيَّةِ على نداءِ العَقْلِ والفِطَرِ السَّوِيَّة،... فجاءَتْ شَرِيْعَةُ السَّماءِ رحمةً وبَرْدَاً وَسَلاماً، فَنَقَلَتْ الإنسانَ الضَّعيفَ المسْتضْعفَ من قُمْقُمِ الظُّلمِ المهانَةِ، إلى قِمَمِ العزِّ والكَرَامَةِ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إخوة الإيمان: عَاشَت الإنْسانيةُ قبلَ مَبْعثِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أزْمِنَةً مديدة كان للطغيان جولته، وللانحراف والفساد سطْوَتُه.
شَهِدَتْ البشريةُ قَبْلَ أَنْوارِ الرِّسالةِ المحمديَّةِ ألواناً مِنَ الظُّلْمِ والقَهْرِ، تَسَلَّط فيها الأَقوياءُ على الضُّعفاء، وَغَلَبَ فيها صوتُ العصبيَّةِ على نداءِ العَقْلِ والفِطَرِ السَّوِيَّة، فكانت القبيلةُ تنفجرُ غضباً لِغَضَبِ سَيِّدِها، لا تَسْأَلُهُ فِيْمَ غَضِبَ.
في هذا الأَجْواءِ المُظْلِمَةِ المنْحَرِفَةِ، وَتلكَ الثَّقَافَاتِ الجائِرَةِ القَاتِمَة لَا تَسَلْ عن كرامةِ الضُّعفاء، ولا عَن حُقوقِ الأُجراء، فتلك مبادئُ طَاشَتْ وتَلَاشَتْ في قانون البطْشِ والطَّمَع.
فجاءَتْ شَرِيْعَةُ السَّماءِ رحمةً وبَرْدَاً وَسَلاماً، فَنَقَلَتْ الإنسانَ الضَّعيفَ المسْتضْعفَ من قُمْقُمِ الظُّلمِ المهانَةِ، إلى قِمَمِ العزِّ والكَرَامَةِ.
فحقُّ لنا أن نُفاخِرَ، وأنْ نرفعَ صَوْتَنَا وَنُجَاهِرَ، بأننا الأمةُ التي وقفت مع ضَعَفَةِ الخلقِ ونَصَرَتْهُم، وصانتْ حقوقَهم وأكرمَتْهُم، وجرمت في الدنيا الاعتداءَ عليهم وفي الآخرة.
فَهنيئاً لهذا الإنسانِ حينما يعيشُ في حِمَى الإسلامِ، هنيئاً له الكرامة، والحقوق المصانة، لأنه إنسانٌ وكفى بها كَرامة، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ)[الإسراء:70]، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين:4].
في مَظَلَّةِ الإسلامِ الحقِّ، يعيشُ الإنسانُ الأمنَ والأَمان، أمانٌ في بدنه وماله، وعرض ومشاعره، فغيبتُه وهمزُه ولمزُهُ حرام، والطعن في عرضه وإيذاؤه آثام وإجرام، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[الأحزاب:58].
في واحةِ الإسلامِ حُرِّيَتُك مُقَدَّرة، فقل ما شئت وافعل ما شئت، دون أن تمس جناب دينك، أو تتعدى على غيرك، فالناس أحرار في ما يقولون وما يفعلون، واستعبادهم من الجرم، والإعانة على هذا الاستعباد تشريع لهذا الظلم، وقديماً فهم الفاروق أن استعباد الناس جريمةٌ لا تتوافق مع طبيعة الإنسان وكرامته فقال قولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟!
حرام حرام في شريعة الإسلام أن يُسلَّع البشر، أياً كانت صورُ ذلك الاتِّجار.
المتاجرة بالبشر هي حالة نفسية، قبل أن تكون مهنة تجارية، تغيب فيها كرامة الإنسان، وتحضر عندها نزغات الطمع والطغيان.
إن الاتجار بالبشر يأخذ صوراً وأشكالاً، ومظاهره تحكي ظلماً ونكالاً.
والمتاجرة بالبشر مفهومها أوسع من بيع الأطفال والنساء، واستعبادهم بالفواحش والبغاء، فثمة صور تقع في مجتمعات المسلمين، يُتخذ من هذا الإنسان سلعة للمتاجرة، تقع ظلما عليه فوراً ومباشرة.
فكلُّ مَنْ استغلَ هذا الإنسانَ لضعفه، أو قلة عقله، أو حاجته، لمطامعه ومصالحه وماديته، فقد وقع في الاتجار بالبشر، وحسبك بهذا الوصف قبحاً وذمَّاً.
المتاجرون بالبشر فئة انسلخوا من إنسانيتهم، وأعمتهم أطماعهم، فهم لا يفكرون إلا ما دخل الجيب، حتى وإن كان ذلك من المحرم أو العيب.
استقدام الخدم والخادمات وأكل حقوقهم، وتضييع أجورهم، جرم شنيع، وظلم فظيع، وصورة من الاتجار لا يرضاها الله ولا رسوله، وقد حدثنا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عن الله -جلَّ جلاله- أنه قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
المتاجِرُ بالبشر هو ذلك الكفيل الذي نزعت منه الرحمة وتحرَّكت في جوانحه العنصرية، فَأرهِقَ عمالَه فوقَ طاقَتِهم، أو أجبرَهم على أعمالٍ لم يُستقدموا أساساً لها، ولم يرضوا بها، من أجل أن "العصمة" بيديه، والجوازَ لديه.
ليسمع هذا الظلوم وصية نبيه -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُم، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
المتاجِرُ بالبشرِ هو ذلك الكائن البشري، الذي تتحرك بين جنبيه صنمُ الطغيان، ولكن على المستضعفين الوافدين، فأصبحت كرامةُ هؤلاء وحقوقُهم كلأً مباحاً له، فجائز في طغيانه أن يشتمَ هذا، أو أن يُهينَ ذلك، أو يضرب ذاك، أو أن يسطوا على ماله؛ لأنه من الفئة المستضعفة.
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدَ صحابته يضرب خادماً له، فناداه: "الَلهُ أقدر عليك منك عليه"، فالتفتُ فإذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال الرجل: يا رسول الله هو حرّ لوجه الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما لو لم تفعل للفحتك النار".
وتقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا قَطْ بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله".
والمتاجرون بالبشر أيضاً: هم أفراد ومؤسسات وقنوات، يُسَلِّعون بضائعهم بالمرأة الفاتنة، ويسوقون لدعاياتهم وبرامجهم بالحسناوات المليحات.
وهم أولئك المتاجرون بجسد المرأة، بعيداً عن كفاءتها ومهارتها وعقلها، فيجعلون من شرط توظيفها: أن تكون جميلة أو صغيرة، أو أن تتخلى عن مبادئها، فتنزع حجابها، وترضى بالاختلاط والسفور، وتلك والله استغلال لحاجة الناس ومتاجرة.
يا كل تاجر ويا كل صاحب عمل: عيب والله أن تستغل حاجة بعض النساء واضطرارهن للعمل والمادة، بفتح الأبواب أمامهن بأعمال لا تليق إلا بالرجال، كنقل البضائع وتنظيف الممرات، وصيانة السيارات، وخدمة الآكلين والآكلات، وغيرها من الأعمال التي لا تليق بالمرأة وأنوثتها وحشمتها وضعفها.
وأسوأ صور استغلال البشر: أن يستغلَّ الرجلُ قوامتَهُ على بنْتِهِ أو زوجتِه، ليتخذها آلة للتكسب، فيقتطع من راتبها، من دون طيب نفسها، أو يضع الأرقام الفلكية مهراً لها، مخالفاً قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً، أَيْسَرُهُنَّ مَؤُونَةً"؛ ظلم ودناءة أن يعضل الرجل زوجته ويعلّقها وهو لا يريدها من أجل أن يسترد مهرها كاملاً.
فأين هؤلاء المتاجرون من قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيراً"، وأين هم عن وعيد محمد -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إني أحرِّج حق الضعيفين؛ المرأة واليتيم".
نعم هذه صور نراها ونقرأ عنها ونسمع بها، تختلف من مجتمع وآخر كثرة وقلة، وهذا كله بسبب طغيان المادة في النفوس، وفقر مشاعر الرحمة الإنسانية، وجفاف التدين، وغياب الخوف من الله -تعالى-.
فالإنسانية ليست كلمات تُسطر وتقال، بل هي مبادئ ومواقف وأفعال.
فالحمد لله الذي هدانا لهذه الشريعة الوسط السمحة، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم |
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا إخوة الإيمان: ورغم ما ذكرناه من صورٍ مؤلمة، إلا أن الغالب في المجتمع -ولله الحمد- أن أهلَه رحماءُ وشرفاء، بعيدون عن مثل هذه الأخلاقيات الدنيئة، فالخير في مجتمعات المسلمين كثير وكبير، ولا زال فينا ومعنا رجال يوفون بالعهود، ويقيمون الحقوق، ويؤدون للأجير راتبه وحقه قبل أن يجف عرقه.
لا زلنا نرى -ولله الحمد- أن الخدم يعاملون معاملة كريمة، ويعيشون في البيوت كأنهم أحد أفراد الأسرة.
لا زالت الرحمة والرفق تتحرك في جوانح كثير من الكفلاء، فلا يثقلون على العمال، ولا يكلفونهم من الأعمال ما لا يطيقون.
ولا زلنا نماذج مشرقة من صور التسامح والإحسان، مع هؤلاء المغتربين، وتعليمهم لدينهم، ودعوتهم للخير، ما يفخر بمثله المجتمع.
وما زالت المرأة في المجتمع محترمة ومصانة ومحفوظة حقوقها عند كثير من الأولياء الأتقياء، الذين تنزهوا وتساموا عن أطماع غيرهم الدنيئة.
وتلك والله قيم جميلة، ومبادئ نبيلة، تعكس صورة حسنة لنا، ورسالة براقة لمجتمعنا، يبقى أثرها مباركاً إلى حين؛ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت:35].
وصلوا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية |