العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | محمد راتب النابلسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
بعض الأوامر لا يوجد على وجه الأرض تشريع يحرّمها، فمن انصاع لأمر الله -عز وجل- فهو يعبده حقاً، وهو مخلص حقاً؛ لأن غض البصر ليس على وجه الأرض جهة تمنعه فهو عبادة فهو عبادة الإخلاص، فهو العبادة التي يرقى بها الإنسان كل يوم مئات المرات ولا سيما في ظروف الفتن والموبقات، ولا سيما في عصر النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات. إن غض البصر عبادة الإخلاص والمسلم يتقرب بها إلى مولاه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر.
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ في الخطبة قبل السابقة بدأت موضوع غض البصر منطلقاً من أن الأوامر الإلهية نحن قادرون على تطبيقها لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولأن الله -سبحانه وتعالى- لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولأن المحنة الشديدة التي يمر بها المسلمون لابد من تحليل أسبابها، فمن أبرز أسبابها خلل في العلاقة مع الله.
أيها الإخوة الكرام؛ وأكدت أيضاً في خطب سابقة أن من تلبيس إبليس على المؤمنين أنه يزهدهم فيما هم قادرون عليه، ويدفعهم إلى ما لا يستطيعون، فلذلك أبدأ سلسلة هذه الخطب بما نحن قادرون عليه بما هو في وسعنا وضمن إمكاننا، ولعل هذا الذي نحن قادرون عليه يكون سبباً لنصر الأمة.
أيها الإخوة الكرام؛ تحدثت في خطبة سابقة حول غض البصر، عن أسباب إطلاق البصر، وعن آثار إطلاق البصر في نفس المؤمن، وفي حجبه عن الله -عز وجل-، ومروره بسلسلة لا تنتهي من المتاعب النفسية، والقلق، والضجر، والسأم، وما إلى ذلك ووعدت أن أتابع الموضوع حول طرق معالجة هذه المشكلة.
علاج مشكلة إطلاق البصر:
1-العلاج القرآني: أيها الإخوة الكرام؛ العلاج الأول هو العلاج القرآني، إذ أن الله -سبحانه وتعالى- يقول في آية محكمة قطعية الدلالة:
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [سورة النور: 30].
أيها الإخوة الكرام؛ بينت سابقاً أن هناك أوامر إلهية تتوافق مع التشريعات الوضعية فمن انصاع لها فلا ندري أهو خائف من الله -عز وجل- أم ممن أصدر هذه القوانين الوضعية؟ ولكن في الدين بعض الأوامر لا يوجد على وجه الأرض تشريع يحرمها، فمن انصاع لأمر الله -عز وجل- فهو يعبده حقاً، وهو مخلص حقاً؛ لأن غض البصر ليس على وجه الأرض جهة تمنعه فهو عبادة فهو عبادة الإخلاص، فهو العبادة التي يرقى بها الإنسان كل يوم مئات المرات ولا سيما في ظروف الفتن والموبقات، ولا سيما في عصر النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات. إن غض البصر عبادة الإخلاص والمسلم يتقرب بها إلى مولاه، وفضلاً عن ذلك إن الحجاب للمرأة عبادة تتميز بها فنسميها إن صح التعبير عبادة إعفاف الشباب، فكما أن الرجل مأمور أن يغض بصره المرأة مأمورة أن تتحجب، وأن تستر مفاتنها عن الناس.
أيها الإخوة الكرام؛ معلوم قطعاً أن الله -سبحانه وتعالى- لا يأمر عباده إلا بما يقدرون عليه وهو -سبحانه وتعالى- أعلم بهم، وأعلم بما يصلحهم، والخطاب في هذه الآية: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [سورة النور: 30].
لم يستثن أحداً من هذا الأمر، بل إن الخطاب عام لأهل الإيمان، فلا يأتي متحذلق بعد ذلك ويقول بأنه لا يستطيع، أو أن الهوى قد غلب عليه، أو أن الزمان صعب، أو أن هذه الظروف لا يستطيع أحد أن يستقيم فيها، هذا كلام، كلام فيه جهل شديد، لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) [سورة البقرة: 286].
هذا الذي يعتذر بهذه الأعذار إنما جنى على نفسه بإطلاق بصره، ولو أنه امتثل الأمر لبلغه الله ما يريد، ما كان الله ليعذب قلباً بشهوة تركها صاحبها في سبيل الله، لو أنه أصر على طاعة الله لأراحه الله -عز وجل-، وأذهب من قلبه هذا الذي كان يعتلج به يوم كان يطلق بصره.
لكن لا أكتمكم -أيها الإخوة- أن هذه العبادة تحتاج إلى صبر ومصابرة، فكل منا أودع الله فيه بعض الأهواء قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [سورة آل عمران: 14]، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [سورة النازعات: 40-41].
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته | يوم النزال ونار الحرب تشتعلُ |
لكن فتى غضّ طرفًا أو ثنى بصرًا | عن الحرام فذاك الفارسُ البطلُ |
أيها الإخوة الكرام؛ يقول أحد العلماء ليكن لك في هذا الغض عن المشتهى نية تحتسبها عند الله، وتكتسب بها الفضل، وتدخل بها في جملة من نهى نفسه عن الهوى، ألا إن سلعة الله غالية.
2- العلاج النبوي:
ثانياً -أيها الإخوة الكرام- يمكن أن نستخدم العلاج النبوي، وذلك حينما سئل -عليه الصلاة والسلام- عن نظر الفجأة، فأرشد إلى العلاج النافع الذي من استعمله سدّ عليه هذا الباب بالكلية، ولا يحتاج معه لعلاج آخر، قال -عليه الصلاة والسلام-: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة؟ فأمرني فقال: اصرف بصرك" (أحمد عن جرير بن عبد الله).
ينبغي أن تغض البصر ابتداء فلو وقعت عينك على ما لا تحل لك يوجه النبي توجيهاً رائعاً ويقول: "...اصرف بصرك" (أحمد عن جرير بن عبد الله).
وقد أوصى ابن عمه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- فقال -عليه الصلاة والسلام-: "يَا عَلِيّ لا تُتْبِعِ النّظْرَةَ النّظْرَةَ, فَإِنّ لَكَ الأُولَى, وَلَيْستْ لَكَ الآَخِرَة" (الترمذي عن ابن بريدة).
هذان العلاجان أيها الإخوة هما من أنفع الأدوية، ولا يحتاج معهما المؤمن إلى علاج آخر إذا عمل بها، إنهما علاجان وقائيان، والعلاج الوقائي يعد أفضل علاج ينتفع به الإنسان، لأنه يعالج الأمور قبل حصولها أصلاً، فإذا غض المؤمن بصره عن الحرام، ثم إذا وقع نظره على شيء صرفه مباشرةً ولم يعاود النظر فإنه أمن بذلك من تلك الفتنة العظيمة بسبب امتثاله لأمر الله ورسوله، قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) [سورة فصلت: 35].
3- الصبر على غض البصر:
ثالثاً: الصبر على غض البصر، لأن في إطلاق البصر قد يجد الإنسان ما تتلذذ به العين، ويشتهيه القلب، فكان غض البصر على الإنسان محتاجاً إلى الصبر، وكلما استرسل بصره ثم أراد أن يغضه بعد ذلك وجد صعوبةً كبيرة في ثنيه. يقول الإمام الحسن رحمه الله تعالى: "إن هذا الحق حال بين الناس وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضل الله - عز وجل- ورجا ثواب الآخرة"، وقال بعض العلماء: "إن طاعة الله مفتقرة إلى الصبر عليها، وإن المعصية مفتقرة إلى الصبر عنها، فلما كانت النفوس مجبولةً على حب الهوى، وكانت بالطبع تسعى في طلبه، افتقرت إلى الصبر عنه والصبر عليه"؛ الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة.
4- التفكر في عاقبة إطلاق البصر:
أيها الإخوة الكرام؛ أيضاً من توجيهات النبي -عليه الصلاة والسلام- أن المؤمن إذا أراد أن يغض بصره تفكر في أن هذه المرأة السافرة التي تبرز محاسنها لعامة الناس إنما هي عاصية، وقد تكون كافرة، وقد تكون فاسقة، وقد تكون لئيمة الطبع، فليس الجمال الحسي هو كل شيء، المرأة المؤمنة الطاهرة العفيفة المطواعة التي ترعى حق زوجها وأولادها فيها جمال خلقي هو الأصل في حسن العلاقة الزوجية، وقد قال الله - عز وجل-: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [سورة المنافقون: 4]. كأن الله - عز وجل- يبين أنك إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم.
5- التأمل في عاقبة إطلاق البصر:
أيها الإخوة: لو أن الإنسان تأمل في عاقبة إطلاق البصر، وكيف أنه يحجب به عن الله - عز وجل-، وكيف أن الشقاء يتسلل إلى قلبه لكف عن هذه المعصية التي يتلمس نتائجها بشكل واضح، ولا أدل على ذلك من قول الله - عز وجل- في معرض الحديث عن هذا النبي الكريم سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام إذ قال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين) [سورة يوسف: 33]؛ فالجهل أن يصبو الإنسان إلى امرأة لا تحل له، هذا معنى الجهل في القرآن الكريم واضحٌ بيّن.
6- أن يتذكر الإنسان ماذا أعدّ الله للمؤمنين في الجنات من حور عين:
أيها الإخوة الكرام؛ أيضاً من وسائل غض البصر أن تذكر ما أعدّ الله للمؤمنين في الجنات من حور عين، لا قلق، ولا شعور بالمعصية، ولا شعور بالحجاب، الله - عز وجل- في آيات كثيرة يتحدث عن الحور العين فقال تعالى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [سورة الدخان: 54].
وقد طلبت امرأة من زوجها في عهد الصحابة شيئاً فوق طاقته فقال: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداها على أهل الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك".
الله - عز وجل- يقول: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة الزخرف: 71]. وقال أيضاً: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [سورة الإنسان: 20].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: " قال اللهُ: أعدَدتُ لِعبادي الصالحينَ ما لا عَينٌ رأتْ, ولا أذنٌ سمعت, ولا خَطرَ على قلبِ بَشَر. فاقرؤوا إن شِئتم" (البخاري عن أبي هريرة). (فلا تَعلمُ نَفس ما أخفِيَ لهم مِن قُرّةِ أعيُن) [سورة السجدة: 17].
7- اليأس من اقتراف المعصية:
سابعاً أنت حينما تعقد العزم الأكيد على غض البصر تدخل في حالة نسميها مبدئياً اليأس من أن تقترف هذه المعصية، فإذا وصل العبد المؤمن إلى هذه الحالة ترتاح نفسه، ويرتاح قلبه، وتستقيم جوارحه، ويأنس بقرب الله - عز وجل-.
أيها الإخوة: يقول بعض العلماء: وجدت الراحة في اليأس. أنت حينما تعقد العزم الأكيد على أن تكف عن هذه المعصية ولا تطمع أن تعود إليها إطلاقاً دخلت في يأس ممتع، دخلت في يأس مسعد، اليأس من أن تقترف هذه المعصية.
أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان حينما يتقصد تطبيق هذا الأمر الإلهي وذاك التوجيه النبوي ينبغي أن يبتعد عن مواطن الفتن، ففي الأماكن التي تكثر فيها النساء الكاسيات العاريات ينبغي أن يبتعد عنها، في كل مكان يظن أنه سيلقى عدداً كبيراً من هؤلاء النساء الفاسقات ينبغي أن يبتعد عن هذه الأماكن لينجو بنفسه، بل إنه ينبغي أن يأوي إلى كهفه ألا وهو بيته ومسجده، وطوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة.
8- طاعة الله لحفظ نعمة البصر:
شيء آخر أيها الإخوة الكرام؛ هو أن هذه النعمة نعمة النظر من أسباب دوامها، ومن أسباب سلامة العين، ومن أسباب سلامة البصر، أن تغض البصر، لأن العين التي تغض عن محارم الله هي عين في حفظ الله، وقد سمى النبي --عليه الصلاة والسلام-- عيني الإنسان بحبيبتيه، ففرق كبير جداً بين من يرى الأشياء بعينيه وبين من لا يرى شيئاً، فالذي يستمرئ هذه المعصية ويطلق بصره لعل الله يعالجه في الدنيا قبل الآخرة، فلذلك من أجل أن ترجو سلامة هذه الحاسة ينبغي أن تطيع الله فيها، نعمة البصر نعمة كبرى لا ينبغي أن تعصي الله بنعمة أنعم الله بها عليك.
9- صرف النظر إلى ما أحلّ الله للإنسان:
شيء آخر ينبغي أن تصرف النظر إلى ما أحل لك قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [سورة المؤمنون: 5- 6].
وينبغي أن تنظر في ملكوت السموات والأرض قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [سورة يونس: 101].
أيها الإخوة الكرام؛ حينما تقف عند حدود الله يحفظك الله - عز وجل-، حينما تبتعد عن الأسباب فأنت في ركن ركين، وفي حصن حصين، فالله - عز وجل- نهى عن إطلاق البصر، ونهى عن الخلوة بالأجنبية، ونهى عن صحبة الأراذل، فأنت حينما تبتعد عن هذه الأسباب فأنت في حصن الله، وفي ذمة الله، وفي حفظه، فمثلاً من تفاصيل الأحكام الشرعية أن تستأذن قبل دخول البيوت ولو دخلت إلى غرفة أمك، قال: يا رسول الله إنها أمي؟ قال: "أتحب أن تراها عريانة"؟ ينبغي أن تستأذن إذا دخلت إلى أمك، أو بناتك، أو محارمك، من أجل ألا يقع بصرك على عوراتهم. الاستئذان قبل الدخول وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما شرع الاستئذان من البصر" (البخاري عن سهل بن سعد).
ونهى المرأة عن الخضوع بالقول لئلا يطمع فيها الذي قي قلبه مرض، وأمر المرأة بالقرار في البيوت، قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [سورة الأحزاب: 33].
فلا تخرج المرأة إلا بضرورة وبشروط شرعية من حجاب، ومن جدية في القول، ومن حركة طبيعية. (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) [سورة النور: 31].
10- ألا يخوض في أعراض المؤمنين:
أيها الإخوة الكرام؛ أيضاً حينما ينتهي الإنسان عن أن يخوض في أعراض المؤمنين لقول الله - عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) [سورة النور: 19].
فوائد غض البصر:
1- الامتثال لأمر الله –تعالى-:
يا أيها الإخوة الكرام؛ من فوائد غض البصر الامتثال لأمر الله –تعالى-، وفي ذلك غاية السعادة والفوز والفلاح في الدارين، شعور الطائع أنه يطيع الله شعور لا يعرفه إلا من ذاقه، شعور المرء أنه في طاعة الله، وأنه في رضوان الله، وأنه لا يقترف معصيةً تغضب الله - عز وجل-، هذا شعور مسعد، هذا شعور مطمئن، هذا شعور يجعلك متوازناً، هذا شعور يجعل الطريق إلى الله سالكة، هذا شعور يجعل بينك وبين الله صلة مستمرة.
2- تخليص القلب من ألم الحسرة:
وفي غض البصر -أيها الإخوة- تخليص للقلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق بصره دامت حسرته، وفي إطلاق البصر -أيها الإخوة- تفريق للقلب، وتشتيت له، وإبعاد له عن الله -عز وجل-، مع إطلاق البصر هناك الوحشة بين العبد وربه، فإذا غض المسلم طرفه أورثه الله أنساً به لا يعرفه إلا من ذاقه، قال سيدنا عثمان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من القرآن".
3- يورث غض البصر القلب نوراً وإشراقاً:
وإن غض البصر يورث القلب نوراً وإشراقاً، يظهر في العين والوجه والجوارح، كما أن إطلاق البصر يورث الظلمة تظهر على وجه الإنسان، وعلى جوارحه، ولهذا جاءت آية النور بعد آية غض البصر. قل للمؤمنين يغضوا فروجهم.. ثم يقول الله - عز وجل-: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) [سورة النور: 35].
وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في بعض أحاديثه: "والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله، فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله -عز وجل- إيماناً يجد حلاوته في قلبه" (الحاكم وصحح إسناده من حديث حذيفة).
أيها الإخوة: وإن غض البصر كما يقول بعض العلماء يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فجاء في الأثر أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله -يخاف منه الشيطان- وقال بعضهم: "إنهم –أي: العصاة، ومنهم الذين يطلقون أبصارهم- وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، فإن ذلّ المعصية في رقابهم؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه". أي: مهما تمتعوا في الحياة الدنيا، مهما ركبوا من مركبات فارهة، وسكنوا قصوراً واسعة، فإن ذلّ المعصية يتبعهم في كل شؤون حياتهم.
وفي دعاء القنوت: "إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت"؛ إن غض البصر أيها الإخوة يورث القلب سروراً وفرحةً وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، لأنه قهر عدوه بمخالفة نفسه وهواه، فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعطاه الله مسرةً ولذةً أكمل منها، كما قال بعضهم: "والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب".
4- يخلص القلب من أسر الشهوة:
ومن فوائد غض البصر أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير أسير هواه ألم يقل -عليه الصلاة والسلام-: " تَعِسَ عبدُ الدينارِ والدرهم والقَطِيفةِ والخميصةِ، إنْ أُعطى رضي، وإن لم يُعطَ لم يَرْضَ" (البخاري عن أبي هريرة).
فالذي يغض بصره خلص قلبه من أسر الشهوة، وإطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله وعن الدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الحجر: 72].
وغض البصر يسد باباً من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على موافقة العمل، فإذا سدّ هذا الباب وغض المرء بصره عن محارم الله فإنه بذلك سدّ عن نفسه باباً من أخطر الأبواب عليه.
5- يفتح للإنسان طرق العلم وأبوابه:
ثم إن غض البصر يفتح لك طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليك أسبابه، وذلك بسبب نور القلب فإذا استنار القلب ظهرت به حقائق العلم وتكشفت بسرعة. ألم يقل الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي | فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وأنبأني بأن العلـم نـــور | ونور الله لا يُهدى لعاص |
6- يورث القلب صحة الفراسة:
ثم إن غض البصر يورث القلب صحة الفراسة، فإنه من النور وثمراته، فإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأن القلب يصير بمنزلة المرآة المجلوة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس، فإذا أطلق العبد نظره تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمس نورها. قال بعض العلماء: "من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن محارم الله، وكفّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال، لم تخطئ له فراسة".
7- يسد على الشيطان مدخله إلى القلب:
أيها الإخوة الكرام؛ ومن فوائد غض البصر أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء إلى المكان الخالي.
أي حينما يطلق الإنسان بصره نفذ إلى باطنه الشيطان، وإن غض البصر دليل قوة الإيمان وسلامته، وإيثار ما عند الله - عز وجل- على الشهوة والغريزة، غض البصر دافع قوي إلى الترقي والزيادة، فالذي يغض بصره يتابع الترقي، وفرق بين متابعة الترقي وبين مدافعة التدني. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران: الآية 142].
صور مشرقة للسلف في غضّ البصر:
أيها الإخوة الكرام؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- وصفه الله - عز وجل- وهو في سدرة المنتهى، وهو في أعلى درجات القرب فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)[سورة النجم: الآية 17].
أي أن الإنسان حينما يرقى إلى الله - عز وجل- يسمو، ما زاغ البصر وما طغى، وقد ورد في بعض الآثار أن حسان بن عطية خرج إلى العيد، فقبل له: "ما رأينا عيداً أكثر نساء منه، فقال: والله ما تلقتني امرأة منذ خرجت". أي: ما وقعت عينه على امرأة منذ خرج من بيته إلى المسجد. قالت امرأة لزوجها: "كم من امرأة مستحسنة نظرت اليوم؟ فلما أكثرت عليه قال: ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك".
وكان بعض العلماء يغض بصره فمرّ نسوة فأطلق بصره حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى. وقال بعض العلماء أيضاً: "والله ما نظرت إلى غير أم عبد الله - أي زوجته - في يقظة ولا منام، وإني لأرى المرأة في المنام فأذكر أنها لا تحل لي فأصرف نظري عنها".
الله تعالى عليم بذات الصدور:
أيها الإخوة الكرام؛ بقي موضوع دقيق هو أن الإنسان أحياناً يغض بصره أمام ملأ من الناس حفاظاً على سمعته، أما إذا خلا له الجو فيطلق بصره، هذه الحالة المرضية تغطيها الآية الكريمة: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [سورة غافر: 19].
عينا القلب والبصر:
بقي شيء أخير أيها الإخوة؛ الإنسان له عينان في رأسه يبصر بهما الدنيا، وله عينان في قلبه، فحينما تعمى عينا القلب يهلك ويشقى في الدنيا، وحينما تبصر عينا القلب يسعد في الدنيا والآخرة، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذْرنا، الكيَّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ.
الخطبة الثانية:
أشهد أن لا الله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه أجمعين.
عبادة غض البصر عبادة الإخلاص لله - عز وجل-:
أيها الإخوة الكرام؛ هذه المعلومات وتلك النصوص من آيات وأحاديث، وتلك التوجيهات، وهذه الفوائد هي مبذولة لكل الناس في كل كتب علوم الإسلامية، العبرة لا في سماعها، ولا في مراجعتها، ولا في التدقيق فيها، العبرة في تطبيقها، وهذا الذي يتوهم أن غض البصر صعب عليه لو أنه عقد العزم على غض البصر، وابتعد عن أماكن الفتن أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه، أورثه حلاوة في قلبه ونوراً في قلبه.
أيها الإخوة الكرام؛ تكاد هذه العبادة أن تكون أكثر العبادات تقرباً من الله - عز وجل-، إنها عبادة الإخلاص، لا ترجو ثواب أحد، ولا تخشى عقاب أحد بهذه العبادة، بل إنك وأنت في غرفتك لو فتحت نافذة في بيت آخر، وأطلت منها امرأة، من يستطيع من أهل الأرض أن يكشف هذه المخالفة؟ لكن الله يعلم، فإذا غضضت البصر معنى ذلك أنك مؤمن بأن الله يراقبك، ومؤمن بأن الله سيجزيك بهذه الطاعة خير الجزاء، وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه.
موضوعات الاستقامة قد يجدها بعض الناس قاسية، ألفوا أن يأخذوا حريتهم ثم يتحدثوا في الشؤون العامة، الشؤون العامة مريحة جداً؛ تنتقد وتزمجر وتغضب، ولن تستطيع أن تفعل شيئاً في النهاية وكأنك مهتم بأمر المسلمين، ومهتم بما يحل بهم من مصائب، لكن هذه الأشياء الصغيرة التي أنت قادر عليها، والتي تقربك إلى الله، والتي تلقي في قلبك نوراً، وفي وجهك نوراً، والتي تعيدك إلى طمأنينتك، وإلى سلامة علاقتك مع الله، والتي تقيم خط اتصال بينك وبين الله، هذه عبادة بين أيدي كل المسلمين.
المشكلة أيها الإخوة أن الذين يقتلون ويزنون ويسرقون قلة بالنسبة إلى مجموع المسلمين، ولكن مجموع المسلمين ماذا أهلكهم؟ هذا الذي يتوهمونه صغائر، "إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم".
المشكلة أن معظم المسلمين لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يسرقون، ولا يرتكبون فاحشة كبيرة، أما هذه الصغائر التي يتوهمها الإنسان صغائر حينما يصر عليها تنقلب إلى كبائر، وتنقلب إلى حجب تحول بين العبد وربه، فإن أردت الاتصال بالله حقيقةً لابد من غض البصر، ولابد من أن تضع حظوظك تحت قدمك، وعندئذ إياك أن تظن أنه لا شيء إذا أطعت الله - عز وجل-، بالعكس كل شيء ينتظرك إذا أطعت الله - عز وجل-، كل شيء.
فيا أيها الإخوة: العبرة من هذه الخطبة تطبيقها، العبرة من هذه الخطبة أن تسعدوا بالقرب من الله - عز وجل-، وهذا شيء في متناول أيديكم، حديث المسلمين اليوم في أشياء ليست في متناول أيديهم إطلاقاً، وسهل جداً أن تعزو كل مشكلة إلى جهة بعيدة أو قريبة وأنت بريء، لكن إذا حاسبت نفسك حساباً دقيقاً فالأشياء التي تستطيعها ما أكثرها فلتفعلها، الأشياء التي في قدرتك، ولا أحد يسألك، ولا أحد ينتقدك، ولا أحد يحاسبك، ولن تكون موضع مسألة إطلاقاً، هذه فيما بينك وبين ربك.
فيا أيها الإخوة الكرام؛ أسأل الله أن أسعد وإياكم بهذه الطاعة، أسأل الله أن أسعد أنا وإياكم بهذه العبادة التي ينفرد بها الدين عن بقية النظم الوضعية.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تُنسنا ذكرك يا رب العلمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد سخياً رخيّاً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عُضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين.
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أَعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين.