التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | الشيخ راكان المغربي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
فكم من الأسرِ عانتِ الشقاءَ والضياعَ؛ بسببِ إدمانِ بعضِ أفرادِها على الخمرِ، وفي خبرٍ منشورٍ في الجرائدِ قبلَ عدةِ سنين: "أَنَّ شَابَّاَ مُدْمِنَاً فِي إِحْدَى مُدُنِ الْمَمْلَكَةِ قَتَلَ شَقِيقَهُ الأَكْبَرَ بِإِطْلَاقِ النَّارِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمُ، ثُمَّ اعْتَدَى بِالضَّرْبِ عَلىَ وَالِدَتِهِ، ثُمَّ انْتَحَرَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: في يومٍ عظيمٍ، ومحفلٍ جليلٍ، ينزلُ الوحيُ على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليرفعَ الإعلانَ الإلهي، ويُظهرَ المنةَ الربانيةَ، ويعلنَ إتمامَ النعمةِ على البشرية, ذلك اليومُ هو يومُ عرفة، من حجةِ الوداعِ والتي كانت آخرَ المحافلَ الكبيرةَ التي يحضرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في ذلك اليومِ نزل قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
بنعمةِ اللهِ وفضلِه، كَمُلَ دينُ الإسلامِ؛ ليكونَ منهجاً شاملاً يصلحُ حياَة البشرِ في الدنيا، ويقودُهم إلى النعيمِ في الآخرة, أتم اللهُ على عبادِه نعمةَ الإسلامِ؛ لتكون شرائعُه مصدراً للنور، ومِشعلاً للهدى، ومنهجاً لتنمية الإنسانِ وإصلاحِه, وحفظِه في كلِّ الجوانب.
فكان من مقاصدِ شرائعِ الإسلامِ وغاياتِه الكبرى حفظُ الدينِ والنفسِ والعقل والعرض والمالِ، أو ما يسمى بالضرورياتِ الخمس, تلك الضروريات تأسست عليها كثيٌر من شرائعِ الإسلام وأحكامِه، فعلى سبيل المثال: الصلاةُ تحفظُ الدين وتصلُ الإنسانَ بربه، والقتلُ مجرَّمٌ لأنه يزهقُ النفس، والقاذفُ يُجلَدُ لأنه يتعدى على العرض، والعلمُ محمودٌ لأنه يحفظ العقلَ ويمنعُه من الجهل، والتبذيرُ مذمومٌ لأنه يعودُ على المالِ بالضياع، وهكذا لو تأملتَ في كثيرٍ من شرائعِ الإسلامِ فستجدُ تحقيقَ هذه المقاصد واضحاً بيناً فيها.
وإن من تلك الشرائعِ التي جاء بها الإسلامُ؛ ليحققَ مقصدَ حفظِ الضروريات، شريعةُ تحريمِ الخمر, الخمرُ التي أطلقَ عليها ذو النورينِ عثمانُ بن عفانَ -رضي الله عنه- لقبَ "أمِّ الخبائث"، وما ذاك إلا لما فيها من خبثٍ عظيمٍ, يجرُّ وراءَه كلَّ خبيث، ومصداقُ ذلك ما ورد في وصيةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لأبي الدرداء -رضي الله عنه- حين قال له: "وَلا تَشْرَبِ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ".
والحقيقةُ أنَّ المقامَ لا يتسعُ لتعديدِ الشرورِ التي يجلبُها الخمرُ على الفردِ والمجتمعِ، ولكن حسبنا أن نقفَ مع بعضِ أصولِ الشرورِ والمفاسدِ.
فأما الضررُ البدنيُّ للخمرِ على النفس، فقد نشرت منظمةُ الصحةِ العالميةِ في موقعِها على الإنترنت تقريراً عن تعاطي الكحول، تقولُ فيه أنه: "يعتبر أحدَ عواملِ الخطرِ الرئيسيةِ في العالمِ بالنسبةِ للمرضِ والعجزِ والوفاة, وهو سببٌ رئيسيٌ لأكثر من 200 مرضٍ وإصابة، ويؤدي إلى ما يقرب من 3.3 ملايين حالةَ وفاةٍ سنوياً على الصعيد العالمي، متفوقاً بذلك على فيروسِ الإيدز أو العنف أو السل.
إضافةً إلى ذلك فإن 4.8% من العبءِ العالميِّ للأمراضِ والإصاباتِ يُعزَى إلى الكحول, وتشير التقديراتُ -على الصعيد العالمي- إلى أنّ استهلاكَ الكحولِ يسبب أكثرَ من 10% من عبء الأمراض غير السارِية, بما في ذلك تشمُّع الكبد، والتهابُ البنكرياس، وسرطاناتُ الفم، والبلعوم، والحنجرة، والمريء، والكبد، والقولون، كما يسبب السكتةَ الدماغية، وفرطَ ضغطِ الدم" ا.ه
وأما ضررُه على الأعراضِ والشرفِ فهو أظهرُ من أن يُستَدَلَّ عليه؛ فطالما سمعنا عن انتهاكِ السكارى شرفَهم وسمعتَهم بأنفسهم، فمنهم من يبولُ على نفسه، ومنهم يتجولُ عارياً في الشوارع، ولا يقتصر ذلك على نفسه؛ بل يصل إلى التعدي على غيره بالتحرش أو الاغتصاب، وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية -أيضا- ذكرت المنظمة أن شرب الخمر من أهم أسباب التحرش الجنسي.
وأما ضرره على العقل فلا ينكرُه أحد، فهو الذي يُذهِبُ العقلَ، ويفقدُ الإنسانَ القدرةَ على التفكيرِ السليمِ، واتخاذَ القراراتِ الصائبة، ولا يقتصرُ ذلك على فترة السُّكْر، وإنما يمتدُّ لما هو أبعدُ من ذلك، كما هو مثبتٌ في الدراساتِ الطبيةِ الحديثةِ، ومن آخرها دراسةٌ حديثةٌ صادرةٌ من إحدى الجامعاتِ العامَ الماضي تقول: بأن الخمر "يعمل على تثبيطِ خلايا الجهازِ العصبيِّ، وأن شربَ الكحولِ الدائمَ وبكثرةٍ يعيقُ نموَّ المخ، ويسببُ تلفَ الدماغ، ويزيدُ من الاضطراباتِ العصبيةِ والإدراكيةِ والنفسية"(بحث: أَضرار الخمر وعلاقتها بحوادث المرور، سليمان خلافي وباحمد رفيس، جامعة الجزائر 2020م).
وأما ضرره على المال، فمدمنُ الخمرِ يؤدي به إدمانُه لأن يكون عبداً أسيراً للخمر، يبذلُ من أجلِ الوصولِ إليه الغالي والنفيس؛ ليحققَّ شهوةَ نفسِه، ويطفئَ غليانَها، ولو كان ذلك في سبيلِ ضياعِ ماله، والتفريطِ في ثروته, وقد يتعدى ذلك إلى الانخراطِ في جرائمِ السرقةِ والسطو, وغير ذلك؛ لما يحدثه أثرُ المخدِّرِ من غيابِ العقل، وفقدانِ المسؤولية.
ولا يخفى -أيضا- ضررُ الخمرِ على المجتمعِ والعلاقاتِ الأسرية, فكم من الأسرِ عانتِ الشقاءَ والضياعَ؛ بسببِ إدمانِ بعضِ أفرادِها على الخمرِ، وفي خبرٍ منشورٍ في الجرائدِ قبلَ عدةِ سنين: "أَنَّ شَابَّاَ مُدْمِنَاً فِي إِحْدَى مُدُنِ الْمَمْلَكَةِ قَتَلَ شَقِيقَهُ الأَكْبَرَ بِإِطْلَاقِ النَّارِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمُ، ثُمَّ اعْتَدَى بِالضَّرْبِ عَلىَ وَالِدَتِهِ، ثُمَّ انْتَحَرَ وَأَنْهَى حَيَاتَهُ بِطَلْقَةٍ فِي الرَّأْسِ"(صحيفة أنحاء الوطن ٢٠١٣)، وليس هذا الخبرُ فريداً من نوعه، ولك أن تبحثَ في محركاتِ البحث؛ لتطّلعَ على الكثيرِ من مثل هذه الأخبار!.
من أجلِ تلك الشرورِ كلِّها جاءت شريعةُ الإسلامِ العظيمةُ بتحريمِ الخمرِ والتشديدِ فيه، والعقوبةِ عليه، وجاء النداءُ الربانيُّ من الحكيمِ العليمِ -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)[المائدة: 90-91].
وجاءت النصوصُ النبويةُ لتحذرَ من هذا الشرِّ المستطير، وتبينَ خطرَه العظيمِ على دينِ الإنسان ومصيرِه في الآخرة, قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مبيناً استحالةَ اجتماعَ الإيمانِ مع شرب الخمرِ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وقد لعن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الخمرَ، ولعنَ كل من اقتربَ منها؛ فقال: "لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إِلَيْهِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ).
وبين عُقُوبَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ البشعةِ؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُخَمِّرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِراً؛ بُخِسَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِي).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلِّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ -عز وجل- عَهْدَاً لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟, قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ", أَوْ "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وشاربُ الخمرِ معرضٌ للحرمانِ من الجنة؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا, ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا؛ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ), وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثَةٌ قَدْ حَرَّمَ الله -تبارك وتعالى- الْجَنَّةَ عَلَيْهِمْ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخبثَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ: حَسَنٌ لِغَيْرِهِ).
فيا عباد الله: احذروا وحذّروا أبناءَكم من الخمرِ وأهلِه؛ فإنها مِفتاحُ كلِّ شر، وأمُّ كلِّ خبيثة، حفظنا اللهُ وإياكم وأهلَنا وأحبابَنا، وجنّبَنا الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطن.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: وإن مما يتساهلُ فيه كثيرٌ من الناس، الاستهانةُ بمشاهدةِ أفلامِ الفجورِ التي يكثرُ فيها مشاهدَ الزنا والخمورِ والمخدرات، فإن الأبناءَ والبناتِ صحيح أنهم لا يخالطونها وإنما يشاهدونها فقط، ولكنَّ تلك المشاهدةَ تؤدي إلى الإلفِ والاعتياد، وكما يقولون: "كثرةُ المِساسُ تُقِلُّ الإحساس".
أضف إلى ذلك ما توحي به تلك الأفلامُ من إبرازِ شخصياتِ الأبطالِ الذين يمارسون أدوارَ الفجور، وقد يتخذُهم الأبناءُ قدواتٍ لهم، يتأسونِ بهم، ويفعلون أفعالَهم, ومثل هذا التأثيرِ قد يحصلُ بالتدريجِ وعلى أمدٍ طويلٍ دونَ أن يشعرَ بذلك الآباءُ والأمهات, فالحذر الحذر -يا عباد الله-؛ و"كلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتِه".
معاشر المؤمنين: ألا من ابتليَ بشيءٍ من هذه الخبائثِ فليتبْ؛ فإن الله غفورٌ رحيم، يحبّ التوّابينَ ويحبّ المتطهرين.
ومن كان يعرف أحداً من هؤلاء فليعنه على التوبة، وليبذل أقصى الوسع في إنقاذه من تلك المهالك؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ, فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ، بِنَعْلِهِ, وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ".
وإن أعظم العونِ له أن تأخذَ بيدِه، وتنقذَه مما وقع فيه من البلاءِ والشرِّ العظيم؛ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2].