الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّ من العاداتِ والتقاليدِ، والأخلاقِ والآدابِ، ما هو موافق للفطرة، ولم تنكرْه شريعة الإسلام، بل أقرّته، وحثَّت عليه، ومنها ما أنكرته الشريعة، فبينته، وحذرت منه، وهذه بعض العادات والتقاليد الشعبية المخالفة للأحكام الشرعية، فمنها: التقرب إلى الله بالصمت، وعدم الكلام، فقد يظنُّ بعض الناس أنه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
إنَّ من العاداتِ والتقاليدِ، والأخلاقِ والآدابِ، ما هو موافق للفطرة، ولم تنكرْه شريعة الإسلام، بل أقرّته، وحثَّت عليه، ومنها ما أنكرته الشريعة، فبينته، وحذرت منه، وهذه بعض العادات والتقاليد الشعبية المخالفة للأحكام الشرعية، فمنها: التقرب إلى الله بالصمت، وعدم الكلام، فقد يظنُّ بعض الناس أنه بحرمان نفسه من بعض المباحات يتقرَّب إلى الله، كالسكوت، وعدم الكلام، طيلة موسم الحجِّ مثلا، وهذا في الحقيقة من عمل الجاهلية، فقد دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا: "زَيْنَبُ" فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: "مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ؟" قَالُوا: "حَجَّتْ مُصْمِتَةً" -أي صامتة- قَالَ لَهَا: "تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ" فَتَكَلَّمَتْ -وما أكثر كلامها- فَقَالَتْ: "مَنْ أَنْتَ؟" قَالَ: "امْرُؤٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ" قَالَتْ: "أَيُّ المُهَاجِرِينَ؟" قَالَ: "مِنْ قُرَيْشٍ" قَالَتْ: "مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟" قَالَ: "إِنَّكِ لَسَئُولٌ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ" قَالَتْ: "مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الجَاهِلِيَّةِ؟" قَالَ: "بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ" قَالَتْ: "وَمَا الأَئِمَّةُ؟" قَالَ: "أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رؤوس وَأَشْرَافٌ، يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ؟" قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: "فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى النَّاسِ" [البخاري: 3834].
ومن العادات والتقاليد المخالفة للشريعة في السفر للحجِّ وغيرِه: أن يؤاخيَ رجلٌ امرأةً ليس معها محرم، فيقول لها: "أنت أختي! أنت محرمة عليَّ!"، وتقول له: "أنت أخي!"، وبذلك في ظنِّهم أنها أصبحت أختَه، فتكشفُ أمامَه عن شعرِها ورأسها، وساعديها وساقيها، ويخلو بها، ويتعامل معها معاملة الأخِ لأخته، ولا يخطبها ليتزوجها؛ لأنه في زعمهم آخاها، وهذا لا يجوز، فهو من باب تحريمِ الحلال، وهو الزواج بها، وتحليلِ الحرام وهو الخلوة بها، وكشفُها عن عوراتها أمامه، قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ: سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ" فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً؟! قَالَ: "اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ" [البخاري: 3006، ومسلم: 1341].
لقد اعتادت بعض النساء المسلمات ألاَّ تستترَ ممّن هو صديقٌ للعائلة، الذي يكثر التردُّدَ والزيارة، وصدق قولُ القائل: "مع كثرة الإمساس يقلُّ الإحساس" فتقول: "والله إنني أعتبره كأخي!" ولكنَّ اعتبارَها هذا لا يجعله أخًا حقيقيًّا لها، بل هو أخٌ في الإسلام، وزوجها -أيضاً- أخوها في الإسلام، فإذا كان حموها؛ وهو قريبُ الزوج يجبُ أخذُ الحِيطةِ والحذرِ من تكرار دخوله وخروجه والخلوة معه، فكيف بالغريب؟؟ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ!" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ -وهو أخو الزوج وقريبه- قَالَ: "الحَمْوُ المَوْتُ" [البخاري: 5232، ومسلم: 2172].
إنَّ عادةَ المصافحة بين الرجال والنساء اللاتي لسن بمحارمَ ولا زوجاتٍ، عادةٌ منتشرةٌ بين المسلمين، مخالفةٌ لتعاليم ديننا الحنيف، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ" [المعجم الكبير للطبراني: 20/ 211، رقم: 486، عن مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ، وانظر: الصحيحة: 226].
وعَنْ يَسَارِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، مَوْلَى بَنِي عَامِرٍ: أَنَّ عَائِشَةَ الْعُذْرِيَّةَ -أو العدوية أو البصرية هي بنت عرار- أَتَتِ الْحَسَنَ -الْبَصْرِيَّ- فَرَحَّبَ بِهَا وَأَدْنَى مَجْلِسَهَا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ مُصَافَحَةِ النِّسَاءِ لَصَافَحْتُكِ" [اعتلال القلوب، للخرائطي: 1/ 126، رقم: 245].
هذا في عادة المصافحة، فكيف بالتقبيل الذي يكون عند العودة من سفر، أو خروجٍ من مشفىً، ونحو ذلك؟
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: "لَأَنْ يَقْمَلَ دِمَاغُ رَجُلٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ تُقَبِّلَهُ امْرَأَةٌ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَذَكَرَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُفَلِّي رَجُلًا فَقَبَّلَتْهُ" [مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 14، رقم: 17314].
وقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَأَنْ يَحِلَّ فِي رَأْسِي مِخْيَطٌ حَتَّى أَخْبُو -أي أموت- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي امْرَأَةٌ لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ" [مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 14، رقم: 17313].
ويَقُولُ الْحَسَنَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَغْسِلُ رَأْسَ رَجُلٍ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَحْرَمٌ" [مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 15، رقم: 17315].
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: "لَأَنْ يَعْمِدَ أَحَدُكُمْ إِلَى مِخْيَطٍ فَيَغْرِزُ بِهِ فِي رَأْسِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَغْسِلَ رَأْسِيَ امْرَأَةٌ لَيْسَتْ مِنِّي ذَاتَ مَحْرَمٍ" [مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 15، رقم: 17316].
أما عادة مغالاة المهور، التي انتشرت وفحشت، فهي عادة عالجها الشرع، وقوَّمها وصحَّحها، فمن خالف وقع في المصاعب، وتكالبت عليه المتاعب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا؟" قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا، قَالَ: "عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟" قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟! كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ؟" قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ، بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ" [مسلم: 1424].
والشغار عادة في العرب، جاء الإسلام فنهى عنها، وهي زواج امرأة بامرأة ولا مهر بينهما، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الشِّغَارِ".
وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ [البخاري: 5112، ومسلم: 1415].
وهناك عادة سيئة؛ وهي إذا علم أحدهم أن قريبته تقدم لها خاطب، سارع وتقدم لخطبتها، يفسدُ خطبةَ امرأة؛ لأنه يظن أنه أحقُّ بها، وهي عادة قبيحة نهى عنها ديننا، فقد ثبت أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كَانَ يَقُولُ: "نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الخَاطِبُ" [البخاري: 5142].
ومنها: التشاؤم من الزواج بين عيدي الفطر والأضحى، اعتقادا من الناس بأن الزواج بينهما يورث العقمَ والعداوةَ بين الزوجين، وهذا من العادات المخالفة للشريعة، فقد ثبت أن الصديقة عائشة -رضي الله تعالى عنها- تزوجها في شوال.
وكانت العرب تطير من عقد المناكح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها كما تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- طيرتهم، قالت عَائِشَة: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ" [مسلم: 1423]. [البدع الحولية، لعبد الله التويجري، ص: 346].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي دخوله صلى الله عليه وسلم بها بعائشة -رضي الله عنها- في شوال ردٌّ لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين؛ خشية المفارقة بين الزوجين ، وهذا ليس بشيء" [البداية والنهاية: 3/253].
ومنها: تركُ تزويجِ المرأةِ البدويةِ من الفلاحِ، ولو كان ذا خلقٍ ودين، وتزويجُها من قريبها، وإن كان معدوما من الخلق والدين، وهذه عادةٌ فيها مخالفة؛ لقول رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ" قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [السنن الصغير للبيهقي: 3/ 10، ح: 2352، حسنه في الإرواء: 1868، والصحيحة: 1022].
فربَّما لا يَرغب فيها قريبها، ولا يُسمَح لها بتزوُّجِ ذي الخلق والدين، فتكون "فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".
ونهينا -معاشر المسلمين- من الزواج بالمشركات، أو نزوج بناتنا المشركين ولو كانوا من الأقارب، قال رب العالمين: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة: 221].
إن بعض الناس تبقى فتياتُهم دون زواج ويصبحن عوانس، وهنَّ عند أولياءِ أمورهنّ، إذا لم يتقدّم لهنّ أحدٌ من نفس العائلة والقبيلة، ورفضوا من تقدم لهنّ من غيرهم ولو كان ذا خلق ودين، فإذا مات وليُّ أمرهنّ بقينَ عند نساءِ إخوانهنَّ يسومونهنَّ سوء العذاب، ويعشْنَ في حسراتِ فقدان الزواج والأولاد والأسرة، وربما ينحرفن -والعياذ بالله-، فيعود إثمُ ذلك على من حرمهنَّ الزواج الحلال، بسبب العادات والتقاليد المخالفة للشرع والدين.
ونحو ذلك عادة الخوف أن يذهب ميراث الوالد للأغراب، فيحرمونهن من الزواج، فتبقى البناتُ عند نساء إخوانهن إلى أن يمتن وينتقلن إلى القبور، عَن الْحَسَن أَتَاهُ رجل، فَقَالَ: إِن لي بِنْتا أحبُّها، وَقد خطبهَا غيرُ وَاحِد، فَمن تُشِير عَليّ أَن أزوجها؟ قَالَ: "زوّجها رجلا يَتَّقِي اللَّه، فَإِنَّهُ إِنْ أَحبَّها أكرمها، وَإِنْ أبغضَها لم يظلمْها" [شرح السنة للبغوي: 9/ 11].
أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فتوبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد:
عباد الله: ما الذي يرغِّب الرجل في المرأة؟ ما الذي يدعوه إلى نكاحها والارتباط بها؟
يرغِّبه فيها أربعةُ أشياء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" [البخاري: 5090، وَمُسْلِم: 1466].
المال والحسب والجمال والدين، فقد فاز من اختار الدين، وذل وافتقر من اختار غيره.
وانظروا إلى عاقبة من قدم الحسب والمال على الخلق والدين، قال يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: "كُنْتُ عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أَشْكُو إِلَيْكَ مِنْ فُلَانَةٍ -يَعْنِي امْرَأَتَهُ- أَنَا أَذَلُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهَا وَأَحْقَرُهَا؟ فَأَطْرَقَ سُفْيَانُ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ رَغِبْتَ إِلَيْهَا لِتَزْدَادَ عِزًّا! فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! قَالَ: مِنْ ذَهَبَ إِلَى الْعِزِّ ابْتُلِيَ بِالذُّلِّ, وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَالِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ, وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الدِّينِ يَجْمَعُ اللهُ لَهُ الْعِزَّ وَالْمَالَ مَعَ الدِّينِ, ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ: كُنَّا إِخْوَةً أَرْبَعَةً؛ مُحَمَّدٌ، وَعِمْرَانُ, وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَنَا, فَمُحَمَّدٌ أَكْبَرُنَا, وَعِمْرَانُ أَصْغَرُنَا, وَكُنْتُ أَوْسَطَهُمْ, فَلَمَّا أَرَادَ مُحَمَّدٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَغِبَ فِي الْحَسَبِ, فَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ حَسَبًا, فَابْتَلَاهُ اللهُ بِالذُّلِّ, وَعِمْرَانُ رَغِبَ فِي الْمَالِ، فَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِالْفَقْرِ؛ أَخَذُوا مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا, فَبَقِيتُ فِي أَمْرِهِمَا, فَقَدِمَ عَلَيْنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فَشَاوَرْتُهُ, وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ إِخْوَتِي, فَذَكَّرَنِي حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ وَحَدِيثَ عَائِشَةَ, فَأَمَّا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى أَرْبَعٍ: عَلَى دِينِهَا, وَحَسَبِهَا, وَمَالِهَا, وَجَمَالِهَا, فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ".
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً" فَاخْتَرْتُ لِنَفْسِي الدِّينَ، وَتَخْفِيفَ الظَّهْرِ؛ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَجَمَعَ اللهُ لِيَ الْعِزَّ وَالْمَالَ مَعَ الدِّينِ" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: 7/ 289].
وصلوا -عباد الله- على الهادي البشير، محمدٍ أكرمِ رسولٍ وخيرِ نذير؛ فقد أمركم بذلك اللطيفُ الخبير: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّدٍ صاحب الوجه المنير، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب ومَن على نهجهم إلى الله يسير؛ وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا عزيز يا قدير.
اللهمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعدءنا أعداء الدين، ومن شايعهم من المستعمرين الغاصبين، وألِّف بين قلوب المسلمين، وأصلحْ قادتهم، واجمع كلمتَهم على الحقِّ يا ربِّ العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا؛ واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].