العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المعاملات |
أيها الإخوة الكرام: ديننا توحيد وعبادات، ومعاملات وسلوك وأخلاق، فمما لا يستغني عنه مسلم في المعاملات اليومية؛ البيع والشراء، وما زال الناس يبيعون ويشترون منذ القدم. والأصل في البيع والشراء؛ الحل والجواز: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [اَلْبَقَرَة: 275]. ما لم يأت نص بالتحريم، فكل الأشياء، وكل المعاملات البيع جائزة، إلا إن جاء عن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: ديننا توحيد وعبادات، ومعاملات وسلوك وأخلاق، فمما لا يستغني عنه مسلم في المعاملات اليومية البيع والشراء، ومازال الناس يبيعون ويشترون منذ القدم.
والأصل في البيع والشراء؛ الحل والجواز، قَالَ سبحانه تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)[اَلْبَقَرَة: 275].
ما لم يأت نص بالتحريم، فكل الأشياء وكل المعاملات البيع جائزة، إلا إن جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يحرم هذا الأمر، لذا وضَّح العلماء -رحمهم الله تعالى، ونفعنا بعلومهم آمين-، وضحوا ما يلزم المسلم معرفته في البيوع، حتى لا يقع في الحرام، ولو ذهبنا إلى أسواقنا اليوم لوجدناها تعجُّ ببيوع لم ينزل الله بها من سلطان، مليئة بالغش، ومليئة بالغرر، ومليئة بالمخالفات الشرعية، فمن ذلك بين العلماء ضوابط و "شُرُوطَ اَلْبَيْعِ، فَجَمِيعُ اَلْأَعْيَانِ -الأشياء العينية المادية- مِنْ عَقَارٍ -أراضٍ وبيوت وشقق- وَحَيَوَانٍ -الحيوانات الأليفة بأجمعها- وَأَثَاثٍ وَغَيْرِهَا، يَجُوزُ إِيقَاعُ اَلْعُقُودِ عَلَيْهَا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ اَلْبَيْعِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ اَلشُّرُوطِ: الرِّضَا والتراضي، فالبيع لا يكون قهرا، ولا يكون غصبا، ولا يكون بالتحايل، إنما يكون بالتراضي-؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النِّسَاء:29].
ومن شروط البيع: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا غَرَرٌ وَجَهَالَةٌ، شيء مجهول، أو شيء يغرر به، ومن الغرر والجهالة؛ أن يقول: "بعتك إحدى البضاعتين" أو "بعتك إحدى السلعتين" أيهما؟! هنا تكون الجهالة، فاَلنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الغرر" [مسلم: 1513].
أو يقول عندما يريد بيع قطعة من الأرض "ما بلغت الحصاة"، ويلقي الحصاة، فيقول: "هذه بكذا، وكذا"، وهذا مجهول، لا يجوز إلا بالذرع والمسافة والمساحة، أو يقول: "أبيعك ما بطن هذه البقرة"، أو "ما في بطن هذه الشاة أو الدابة"، لا يجوز ذلك، ما الذي في بطنها؟! أنت لا تعلمه، ولو صورته بآلات التصوير الحديثة، لا يجوز بيعه؛ لأنه مجهول.
وَسَوَاءٌ كَانَ اَلْغَرَرُ فِي اَلثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّن.
فالمثمن عرفناه، أما الثمن؛ يقول: "اشتري منك عشرة دونمات مثلا، بما في جيبي، أو بما لي في البنك، شيك أفتحه لك" وهذا لا يجوز؛ لأن الثمن مجهول، وإن كان المثمن معروفا.
كذلك من الشروط: أَنْ يَكُونَ اَلْعَاقِدُ مَالِكًا لِلشَّيْءِ، للسلعة، للبضاعة، وأن تكون تحت يديه، حرَّ التصرف فيها، وأن يكون بالغا راشدا، لا طفلا صغيرا تشتري منه أرض، ولا أن يكون كبيرا بالغا، لكن عقله خفيف، فتضحك عليه، البيع هنا باطل، وأن يكون "مأذونًا له فيه".
أما غير المأذون، فلا ينبغي شرائه.
ورد عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله تعالى عنه-، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! -وكان تاجرا -رضي الله عنه-، فقال: يا رسول الله!- يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: "لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" [سنن أبي داود: 3503].
لا ينعقد البيع حتى تملك البضاعة، اذهب إلى السوق، فاشترِ البضاعة وتكون تحت يديك، ثم بعه إن شاء اشترى، وإن شاء ترك، فإذا ملكه جاز بيعه، يعني الذي لا يملك، لا يبيع، وكيف يملك، إذا اشترينا بضاعة، لا بد من نقلها، من هذا المكان، ومن هذا الدكان، حتى تكون في حيازتي، أضعها في سيارتي، أو في سيارة بالأجرة، أو ما شابه ذلك، يكون الآن انتهى البيع، وصار في ملكي وحيازتي، يجوز لي بيعه، أما وهو في نفس المكان؛ فلا يجوز بيعه، اشتريتَه لكنك ما امتلكته، ملكي ليس ملكا لك، إنه الآن على الأرض، بقي حتى الآن، لكن الذي لا ينقل، بضاعة لا تنقل كالأرض مثلا، أو كالدار، كيف ننقلها؟ لا نقول لك انقلها، نقول: ضع يدك عليها، بتغيير بعض معالمها، بتغيير الأبواب في الدار والشقة والعمارة، أو القفول، أو تغيير المعالم، حدود الأرض، تضع عليها شيئا، من الأسلاك أو ما شابه ذلك، تغير القديم بالجديد، تكون الآن قد ملكتها، فقبل ذلك يا بائعي الأراضي، لا يجوز لكم بيع الأرض، حتى تمتلكوها، وإلا تكونوا وقعتم في الحرام، ومحقت البركة، وحل محلها الضلال والخسران في الدنيا والآخرة.
كذلك مِنْ شُرُوطِ اَلْبَيْعِ أَيْضًا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ رِبًا،
والربا عرفه النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل وصفه وصفا، وبينه وهو في ستة أصناف، قال رَسُولِ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ -تبيع الذهب بالذهب، لا زيادة ولا نقصان، عشر جرامات، بعشر جرامات، لا تزد من أجل المصنعية، ولا ما شابه ذلك- وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، القمح بمثله، كذلك وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ -هذا أمر- يَدًا بِيَدٍ -ليس أن تقول: أعطيك بعد ساعة، بعد شهر، بعد سنة، فالبيع لا يكون كذلك، ويختلف البيع عن الدين، الدين لابد فيه من التأجيل، أما البيع، فلا -يا عباد الله- يقول صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ زَادَ -دفع زيادة- أَوِ اسْتَزَادَ -طلب من غيره الزيادة- فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ" [رواه مسلم: 1584].
ونهى صلى الله عليه وسلم: "عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ، حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا -يعني وهي فجة، وهي زهر، قبل أن توجد، لا يجوز بيعه، لا بد أن توجد ويظهر الصلاح، ويظهر منها أنها جاهزة للقطف والجني والحصاد- وَأَنْ لاَ تُبَاعَ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِلَّا العَرَايَا" [البخاري: 2381].
يعني لا تباع بمثلها، بل تباع بالدينار، وبالدرهم، النخل يباع بالدينار والدرهم، لا يباع برطب، ولا يباع بتمر، مرخَّص فقط في العرايا، والعرايا يحتاجها الناس، يعني؛ إنسان عنده تمر من سنة، فيريد أن يأكل رطبا، ليس عنده رطب، وليس عنده دينار، فقد "رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْعِ العَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ" [البخاري: 2382، مُسْلِمٌ: 1541].
يعني فيما دون سبعمائة كيلو من الرطب أن يشتري الإنسان بالتمر، أما غير ذلك وما فوق ذلك؛ فلا! وهذا للحاجة، وهذا لأناس مخصوصين، يحتاجون مثل هذه الأمور.
عباد الله: إذا ذهبنا إلى بَيعِ الأُصُولِ، يعني ما تقف عليها الثمار، الأصول، الأشجارِ والزروع وما شابه ذلك، فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: -وانتبهوا جيدا لذلك-: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" [البخاري: 2716، ومسلم: 1543].
-نخل أو زيتون أو برتقال أو عنب-.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ اَلْأَشْجَارِ إِذَا كَانَ ثَمَرُهُ بَادِيًا -فأراد هذا الإنسان أن يبيع هذا بأصله كلِّه، يعني يبيع الأرض بما عليها، فإذا كان الرجل قد أبَّرها، يعني لقحها، فالثمرة للبائع صاحب النخل ونحوه، وليس للمشتري، إلا إن اشترط المشتري، هذا إذا باع الأرض بما عليها، أو باع الشجر فقط، لكن إذا أُبِّرت بعد البيع، فهي للمشتري، إلا أن يشترط المبتاع، هل تفهمون ذلك -يا عباد الله-؟! فكيف تبيعون وتشترون قبل أن تسألوا عن ما هو حلال أو حرام.
وَمِثْلُهُ إِذَا ظَهَرَاَلزَّرْعُ اَلَّذِي لَا يُحْصَدُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً -باع الأرض بقمحها بشعيرها، فهذا للمشتري البائع، إلا أن يشترط المشتري، الأصل هذا للبائع- فالحب للبائع إلا أن يشترط المشتري، فَإِنْ كَانَ يُحْصَدُ مِرَارًا -هناك بعض الزروع تحصد مرارا، مرة بعد مرة، ليست مرة واحدة، وهذا أراد البيع- فَالْأُصُولُ لِلْمُشْتَرِي، وَالْجَزَّةُ -الأولى- اَلظَّاهِرَةُ عِنْدَ اَلْبَيْعِ لِلْبَائِعِ -وما بعدها لمن اشتراه-.
وهناك بيع آخر -بيع حلال جائز- يسمى: بيع السَّلَمِ -أو يسمى: بيع السلف، ويكون الثمن فيه مقدما، والبضاعة متأخرة، فإذا وجدت فيه الشروط جاز البيع، ومن شروطه: أن يكون السلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، وألا يكون مطلقا، تريد أن تشتري الحديد، كم طنًّا؟ تُبيِّن ثم تدفع للتاجر، ثم تنتظر الأجل أن يأتي بعد سنة، بعد شهر، بعد شهرين، هذا جائز إن شاء الله لذلك هذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ -يعني يدفعون التمر، السنة والسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ -يدفعون الثمن مقدما لثلاث سنين- فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" [صحيح البخاري: 2240، ومسلم: 1604].
والسَّلَف والسَّلَم، بمعنى واحد -أن تسلم وتؤجل، تسلم الثمن، وتؤجل البضاعة-" [منهج السالكين وتوضيح الفقة في الدين، ص: 139- 151، بتصرف].
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنه- وعن أبيه، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُعَاوَمَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ -ونهى عن بيع السنين- قَالَ أَحَدُهُمَا: بَيْعُ السِّنِينَ هِيَ الْمُعَاوَمَةُ- وَعَنِ الثُّنْيَا، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا" [مسلم: 1536].
وزاد أبو داود: 3405، والترمذي: 1290، والنسائي: 3880، بإسنادٍ صحيح: "وعن الثُّنيا إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ".
والْمُحَاقَلَةُ: أَنْ يَبِيعَ الْحَقْلَ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ -ما هي المحاقلة؟ من الحقل، حقل مليء بالزرع، مليء بالقمح، أو مليء بالشعير، فمنهي أن تشتريه أو تبيعه بقمح أو بشعير، تبيعه بالدرهم والدينار لا مانع، أما أن تبيعه من صنفه أو نوعه أو جنسه، فلا! لأنك لا تدري الكيل المعلوم هذا، هل يؤتى به من الحقل أولا يؤتى، فينبغي أن تستخدم الفلوس والنقود.
أما بيع الْمُزَابَنَةِ، بيع الثمر -التمر- بالرطب على رؤوس النخل، الأشجار، واستثني منه بيع العرايا.
وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، وهي بيع التمر بالرطب على رؤوس النخل، فيما لا يزيد عن خمسة أوسق لحاجة الناس للثمر.
كذلك: بَيْعُ السِّنِينَ، وهِيَ الْمُعَاوَمَةُ -بيع عام بعد عام وأن يشتري نخلا بسنين طويلة، ويدفع ثمنها مقدما، فهذا لا يجوز، لماذا؟
لأنه ليس من السلف، ما أسلف حتى يكون في وزن معلوم، أو كيل معلوم، مطلقٌ هكذا، فهذا فيه غرر وجهالة، من يدري؟! لعلَّ صاعقةً تأتي أو آفة أو عاهة تذهب الثمار.
والثُّنْيَا، مثل؛ أن يقول: أبيعك ثمر هذا البستان يعني ثمار هذا البستان إلا شجرتين -فهذا لا يجوز الكنية فيه، لماذا؟ بعض الناس يجعل لنفسه من الشجر شيئا، ممنوع إلا أن تُعلَم الشجرتان، وأن تُعينان، فإذا عينت الشجرتان المستثنيتان من هذا البستان؛ جاز البيع، نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، فلذلك الذين يبيعون الزيتون على الوزن المعلوم، وما شابه ذلك، ويستثنون شيئا منه، فهذا لا مانع منه، المهم أن يكون شيئا معلوما، يكون كيلا أو وزنا، أو شجرا معينا، أما أن يطلق شجرتين، فأي شجرتين؟! هذا ما هو معروف، ويكون مجهولا.
وهنا أمر خطير، وينتشر في الأمة بشكل كبير، وهو بيع الثمر أو الحب قبل نضجه، يبيعون العنب وهو عبارة عن حبال، ويبيعون الزيتون وهو عبارة عن زهر، والبرتقال كذلك، هذا كله قبل نضجه لا يجوز، لابد أن يظهر، ولابد بشرط الجذاذ، أو الحصاد، بمجرد أن يستلم الثمن يبدأ في العمل، وإن استمر عمله ليالي وأياما، فهذا لا يضر، لذلك- نَهَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ -وفي رواية: "تصفر"، يعني يأتي النضج عليها، ويتغير لونها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ -الثمرة ما أخذت وقتها، أو ما أخذت نموها، وسقطت على الأرض، أو أصابتها عاهة- بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ" [البخاري: 2198، مسلم: 1555].
هو دفع فلوسا ونقودا، لماذا؟
حتى يستفيد من هذا، فذهب هذا الذي دفع الفلوس مقابله هذا الثمر، فماذا ينتظر؟ كيف تأخذ مال أخيك؟
واستمعوا إلى هذا الحديث الذي يرويه زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- -حديث واقعي، حدث في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ المُبْتَاعُ: -أي المشتري- إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، -فساد وعطب وعفن، يصيب الثمرة- أَصَابَهُ مُرَاضٌ -والمراض؛ داء ومرض يقع في الثمرة- أَصَابَهُ قُشَامٌ -يجعل الثمرة متجمدة، متجلدة، لا تثمر، لا تكبر، لا تحدث لها الحلاوة ولا تجري فيها، ولا تصبح تمرا ولا رطبا، يتغير جلدها ولونها بتغير من مادة معينة، أو فطريات، وهذه- عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ -والاختلاف- فِي ذَلِكَ: "فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ" يعني يصلح للقطاف، يصلح للجني، يصلح للحصاد، وهنا "كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا -عليهم- لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ" [البخاري: 2193].
ويستفاد مما تقدم -من أحاديث- النهي عن بيع ما لم يبد صلاحه سواءً أكان ثمراً أم حبوباً أم زرعاً؛ لأنها لا يؤمن من هلاكها بورود العاهة عليها لصغرها وضعفها، وإذا تلفت لا يبقى للمشتري بمقابلة ما دفع من الثمن شيء.
وهناك حالة اتفق العلماء على جواز بيع ما لم يبد صلاحه فيها -متى يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها؟- وذلك فيما إذا شرط البائع على المشتري القطع حالاً -أبيعك لكن الآن تقطع وتحصد، الآن تبدأ في القطف- فيكون علفاً للدواب -يستخدمه-، ونحو ذلك، جاز؛ لأن العلة التي من أجلها نهي عن بيع ما لم يبد صلاحه منتفية هنا.
كذلك المراد ببدو الصلاح -ماذا يعني ببدو صلاح الثمرة؟ هذا -يختلف باختلاف المبيع-وباختلاف الثمرة، وباختلاف الحب- فبدو الصلاح في التمر هو باللون كما تقدم في حديث أنس -رضي الله عنه-: "حتى يحمارَّ هذا في البلح الأحمر أو يصفار" -البلح الأصفر، إذا بدا هذا وظهر جاز البيع، وفي العنب؛ الأسود حتى يسود، أما في غيره؛ فبتغير لونه بالتموه، ويجري فيه الماء الحلو، ويصير لينا، العنب الآخر؛ ويلين ويصفر لونه، وكذلك فهذه العلامة هي في كلِّ ما يتغير لونه عند صلاحه، فصلاحه يكون بتغيُّر لونه، وإن كان العنب أبيض، فصلاحه بتموهه؛ وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلينُ ويصفرُّ لونه.
وإن كان -من النباتات والثمار، التي لا يظهر، وليس لها لون نعرفه بها،- كالتفاح ونحوه -قال: يبدو صلاحه- بأن يحلو ويطيب، وإن كان بطيخاً ونحوه فبأن يبدو فيه النضح -يعرفه الناس أنه ناضج؛ بصوت يطرقونه على البطيخة، وما شابه ذلك-.
وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيباً صغاراً وكباراً، كالقثاء -وهو ما يسمى عندنا بالفَقُّوس- والخيار ونحوه، فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة، -صلاحه أن يكون جاهزا للأكل-.
وليعلم أن بدوَّ الصلاح في بعض ثمرة النخلة، أو الشجرة صلاحٌ لجميعها -عنده بستان من نخيل، لو واحدة بدا صلاحها، يكون البيع للجميع جائزا، أما إذا اختلط الأمر؛ عنب ونخل، وزيتون فصلاح جنس معين، لا ينفع الأجناس الأخرى، وإذا بدا الصلاح في بعض ثمر الحائط جاز بيعُ الكل مطلقاً إذا اتفق الجنس، كله بلح، كله عنب، كله زيتون جاز- فأمَّا إذا اختلف الجنس فلا بد من مراعاةِ بدوِّ الصلاح في كل جنس منها -والله أعلم-.
توبوا إلى الله، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
وعلى ما سبق؛ فلا ينبغي بيع الزيتون أو البرتقال، أو العنب، أو البلح، ونحوِها، قبلَ نضجِ ثمرتها واستوائها، واستعدادِ مشتريها بقطفِها وجنيها وحصدها حالا لا مآلا، خوفا من ورود الآفة، والجائحة والعاهة.
هذا عن الخَرْصِ والتخْمين، وما يسمَّى عندنا -بالضمان-، فلان يتضمن هذا.
أما إن أراد أن يشتريَ بالوزن والكيل، فلا مانع أن يشتري، ولو قبل مدة، ولو قبل ظهور الزهر جاز؛ لأنه يشتري شيئا معلوما، كيل أو وزن معروف فلا مانع، إن اتفقوا على السعر والثمن، واستلام الثمن حالا، وتسليم الثمر والحبِّ مآلا عند الجَنْي والحصاد.
عباد الله: حافظوا على ما أحل الله ورسوله، واجتنبوا ما حرم الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يبارَك لكم في أبدانكم، ويبارَك لكم في إيمانكم، ويبارَك لكم في أولادكم وأهليكم، ويبارَك لكم في أموالكم، ولا يغرنكم كثرة الهالكين، الذين لا يبالون من أين يكتسبون أموالهم أمن حرام، أم من حلال، من الظلم والقهر، أم من الربا والبيوع المحرمة؟
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ! مِنْ أُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ فِي كَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْشَ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِي كَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ!الصَّلَاةُ بُرْهَانٌ -أي دليل على الايمان- وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ -أي وقاية- حَصِينَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ! إِنَّهُ لَا يَرْبُو -أي لا ينمو- لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ -نبت من حرام، جسم إنسان ينبت من حرام- إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ" [سنن الترمذي: 614].
والعياذ بالله.
عافانا الله وإياكم من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، أو إلى غضب الجبار.
فاللهم أغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك.
وأنت -يا عبد الله؛ أيها المسلم المؤمن- كن مع الله دائما.
و(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].