القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | أحمد بن مسفر المقرحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأديان والفرق - أهل السنة والجماعة |
لقد كثر النائين عن أهل العلم في هذا الزمن والمعرضين عن أخذ العلم من أهله، فأوقعوا الأمة في ويلات تلو ويلات، وسببوا لها انتكاسات تلو انتكاسات، وشغلوها عن كثير من المهمات، ولعل من أكثر تلك العقائد؛ تلك العقيدة التي يستبيح أهلها دماء الأبرياء، بحجة الجهاد والدفاع عن الدين، وما علم هؤلاء أنهم يهدمون الدين، وأنهم يشتتون شمل المسلمين؛ فتراهم كل يوم يفاجئوننا بكارثة، وتراهم كل يوم يحدثون لنا مصيبة، فأيّ عقيدة هذه التي تحمل المسلم على قتل نفسه وقتل إخوانه المسلمين؟! ومع ذلك يعدّ نفسه من الشهداء الذين يرتقون في درجات الجنة! وكأنه ما قرأ قول الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)....
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: يقول الله –تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) [الكهف: 103- 106].
قال القرطبي -رحمه الله-: "في هذه الآيات دلالة على أن مِن الناس مَن يعمل العمل وهو يظن أنه محسِن وقد حبِط عمله"، ثم قال -رحمه الله-: "والذي يُوجب إحباط العمل أمران؛ إما فساد الاعتقاد، وإما الرياء، والمقصود بالرياء هنا الكفر".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآيات لم تنزل في جماعة مخصوصة، بل هي عامة".
عباد الله: كثيرة تلك العقائد الفاسدة التي يظن أهلها أنهم على حق، وأنهم ينصرون الإسلام، وأنهم يخدمون الدين وهم من أبعد خلق الله عن منهج الله وسنة رسول الله، وما ذلك إلا لأنهم استقوا مناهج تعاليهم من غير المصادر التي أمر الله ورسوله بالرجوع إليها، وهم أهل العلم الشرعي الذين أمر الله بسؤالهم فقال سبحانه: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء:7]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ إنما شفاء العي السؤال" (رواه أبو داود).
فقل من أخذ الدين من غير حمَلَته وعلمائه المعتبرين يخطر عليه أن يكون ممن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا.
ولقد كثر النائين عن أهل العلم في هذا الزمن والمعرضين عن أخذ العلم من أهله، فأوقعوا الأمة في ويلات تلو ويلات، وسببوا لها انتكاسات تلو انتكاسات، وشغلوها عن كثير من المهمات، ولعل من أكثر تلك العقائد؛ تلك العقيدة التي يستبيح أهلها دماء الأبرياء، بحجة الجهاد والدفاع عن الدين، وما علم هؤلاء أنهم يهدمون الدين، وأنهم يشتتون شمل المسلمين؛ فتراهم كل يوم يفاجئوننا بكارثة، وتراهم كل يوم يحدثون لنا مصيبة، فأيّ عقيدة هذه التي تحمل المسلم على قتل نفسه وقتل إخوانه المسلمين؟! ومع ذلك يعدّ نفسه من الشهداء الذين يرتقون في درجات الجنة! وكأنه ما قرأ قول الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].
فأي جهاد وأي شهادة؟! وقد وقع المسلم في دم أخيه المسلم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا" (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (متفق عليه).
وهؤلاء ما وجدوا لهم منفذًا إلى الجنة ونعيمها إلا عن طريق قتل المسلمين، أما جعل الله للجنة منفذًا إلا عن طريق قتل الأبرياء؟! أما وجد هؤلاء منفذًا إلى الجنة إلا عن طريق قتل الأبرياء؟! أما جعل الله الصلاة منفذًا من المنافذ الموصلة إلى الجنة فقال جل من قائل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 15- 17]، يعني يصلون.
أما جعل الله الزكاة والصدقة من أعظم المنافذ الموصلة إلى الجنة ونعيمها، فقال جل من قائل: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274].
ألا يوجد أعمال يثقل الله بها ميزان العبد يوم القيامة غير قتل الأبرياء، أما أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن حُسْن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، بل أما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسُن خُلقه".
أما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، بل قال -صلى الله عليه وسلم-: "المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة"، بل قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة لمنازل يغبط أهلها الأنبياء والشهداء، وهم ليسوا بأنبياء ولا شهداء"، قالوا: "من هم يا رسول الله؟" قال: "المتحابون في الله"، ما أبسط العمل وما أعظم الأجر!
بل قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد، وهو من الاثنين أبعد" (رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
كل هذه الأعمال وغيرها كثير ما وجد فيها الخوارج منفذًا إلى نعيم الجنة حتى يتعبدون إلى الله بقتل أنفسهم وقتل الأبرياء من إخوانهم المسلمين، بل وقتل الأبرياء من المسلمين، وكلمة إخواننا كأننا ندعوهم إلى الانتماء وقد مرقوا عنا وخرجوا.
سبحان مقلب القلوب والأبصار! ونعوذ بالله من شر أهل النار، ونعوذ بالله من عقائد أهل النار، والله لو وقف هؤلاء مع أنفسهم هنيهة أو جلسوا عند عالم فترة وجيزة لوجدوا الطريق الموصل إلى الجنة يسيرًا، فهل يسألهم الله لو لقَوْه ولم يفعلوا هذه الفعلة، هل يسألهم الله ويقول: لماذا لم تقدموا أنفسكم في الدفاع عن ديني وفي الذبّ عنه! لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر:8].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين وعد بنصره المؤمنين، وتوعد بعقابه المعرضين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: فهذه الأفكار المنحرفة التي يستبيح أصحابها أمننا ووحدتنا وقوتنا ولُحْمَتنا؛ يجب علينا أن نقف صفًّا واحدًا في حربها وعلاجها، يجب علينا جميعا سواء كنا مواطنين أو مقيمين؛ لأن البلد لنا جميعًا، والأمن لنا جميعًا، والخير لنا جميعًا، والحرب علينا جميعًا.
فيجب علينا أن نقف صفًّا واحدًا في حربها وعلاجها، فأما حربها فبالوقوف مع ولاة أمرنا ورجال أمننا للأخذ على أيدي هؤلاء المنحرفين، وأما علاجها وهو الأهم فيحتاج إلى أمور أهمها أمرين أساسين:
الأمر الأول: محاربة المعاصي بكافة أنواعها، وتقديم حق الله على حقوق أنفسنا، حتى لا يغير الله -جل وعلا- ما بنا من النعيم ورغد العيش كما قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]،ـ وحتى نسد باب الذريعة على هؤلاء المارقين الذين يأخذون من انتشار المعاصي وسيلةً لتنفيذ مخططاتهم، ويزعمون أنهم بذلك ينصرون الدين، ويغارون على حدود رب العالمين، وهم بذلك ينفذون إلى مصالح شخصية وأمور ذاتية.
نعم يصطادون الشباب من باب الغيرة على الدين فيقولون لهم: انظروا إلى المعاصي كيف انتشرت ولا رادع لها، أما تغارون على حدود الله؟ أما عندكم همم الرجال لتحاربوا من عصى الله؟
ثم يبدءون يُمْلُون على أولئك الشباب أفكارهم المنحرفة فيصدقوهم؛ لأنهم حدثاء أسنان، ولا يوجد عندهم من العلم ما يعصمهم.
نسأل الله أن يحفظنا وشبابنا من الفتن...
صلوا وسلموا على ما أمركم بالصلاة عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وارض الله عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أجمعين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين..