الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
إنّ أيَّ حياةٍ فاضلة لا بُدَّ لها من رائد، وكل مسيرةٍ ناجِحة لا بُدَّ لها من قائِد. ومَن غَيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائدٌ للحياة، وقائدٌ للأحياء؟! وهو الرائدُ الأمين، والمُبلِّغُ الأمين - عليه من الله أزكَى الصلاة وأتمُّ التسليم -. وهل كان رفعُ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة خمس مراتٍ، يُنادَى باسمه الشريف عبر الأثير إلا لتتواصَل معه النفوسُ والأرواحُ من غير انقِطاعٍ ولا ليومٍ واحد، بل ولا جزءٍ من يوم...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله ذي العزَّة القاهرة، والحكمة الباهِرة، لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على نعمه المُتكاثِرة، وآلائه المُتوافرة، الباطنةِ منها والظاهرة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحقِّ واليقين غيرَ مُرتابةٍ ولا حائِرة، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعلى منارَ الدين، وجمع القلوبَ المُتنافِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وعِترته الطاهرة، وأصحابِه الأنجُم الزاهِرة، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقبَت الأفلاكُ الدائِرة.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإنما تُوعدون لآت. فتدارَكوا الهفَوات قبل الفوَات .. واستكثِروا من الصالحات .. وراقِبوا أنفسكم في الخلَوات، قبل أن يفجَأ هادِم اللذَّات مُذلُّ كل عزيز، ومُقتحِمُ كل حريص، حتى إذا ما نشبَت صوارِمُه، وحلَّت قواصِمُه، شخصَت الأبصارُ والمُقَل، ولم تنفع المُعالجاتُ والحِيَل.
فرحِم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وسارعوا إلى الخيرات، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
أيها المسلمون:
لقد طال على كثيرٍ من المُسلمين الأمَد، واشتدَّ من الأعداء المكرُ والتسلُّط، جدَّ الأعداءُ في إبعاد المُسلمين عن دينهم، فبرزَ الضعفُ والهوان في كثيرٍ من الديار، وجهِلوا ما جهِلوا من حقائق العقيدة والشريعة، فنزلوا عن مكانتهم واستِقلالهم، ليقتاتوا على بقايا من موائِد حضارات الآخرين، استعبدَتهم أُمم لا تُذكرُ معهم في عدٍّ ولا حساب.
معاشر المسلمين:
وحين تكثُر الفتن، وتتوالَى المُدلهِمَّات والنوازِل والمُحدثَات، يبحثُ الناسُ عن مخرَج، ويسألون عن المنجَى والمُلتجَأ. ولئن كان ذلك شاقًّا وعسيرًا على بعض الأُمم والبُلدان، فكيف يكون ذلك عند أهل الإسلام؟! وعندهم الصراط المُستقيم، والنور والهدى، ورائدُهم وقائدُهم وقُدوتُهم وأُسوتُهم هو الهادي البشير، والسراجُ المُنير محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وهو القائل: «تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي: كتابَ الله وسُنَّتي».
ووصيَّتُه في حديث العِرباض بن سارية - رضي الله عنه -، في قوله - رضي الله عنه -: وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجلَت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظةُ مُودِّعٍ، فأوصِنا، فكان مما قال - عليه الصلاة والسلام -: «فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور».
نعم .. معاشر الأحبَّة:
إن أي حياةٍ فاضلة لا بُدَّ لها من رائد، وكل مسيرةٍ ناجِحة لا بُدَّ لها من قائِد. ومَن غَيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائدٌ للحياة، وقائدٌ للأحياء؟! وهو الرائدُ الأمين، والمُبلِّغُ الأمين - عليه من الله أزكَى الصلاة وأتمُّ التسليم -.
وهل كان رفعُ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة خمس مراتٍ، يُنادَى باسمه الشريف عبر الأثير إلا لتتواصَل معه النفوسُ والأرواحُ من غير انقِطاعٍ ولا ليومٍ واحد، بل ولا جزءٍ من يوم.
عباد الله:
ومن أجل هذا كلِّه فقد حُفِظت سُنَّتُه وسيرتُه؛ لأنها الترجمةُ المأثورة لحياة هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -. هذه السيرة المُتميِّزة لشمولها وكمالها، سيرةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هي المصدرُ الحي، والينبوع المُتدفِّق للحياة الإسلامية والمنهج الإسلامي المُستقيم، وهي المخرجُ، وهي المحجَّة.
إنها أصحُّ سيرةٍ لتأريخ نبيٍّ مُرسَل، سيرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ليست مُجرَّد تاريخٍ يُروى، أو قصةٍ تُسرَد، أو واقعةٍ تُحكَى؛ ولكنها تسجيلٌ دقيقٌ لحياة رجلٍ اختارَه الله واصطفاه لرسالته، وأحاطه بعنايته ورعايته، وخصَّه منذ ولادته بخصائص ليست لأحدٍ غيره، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124].
ولمزيدٍ من الإيضاح - معاشر الإخوة -، تأمَّلوا الفرقَ الكبير بين مسار التاريخ ومنهجه، ومسار السيرة النبوية ومنهجها: التاريخُ مرجعُه العقلُ الإنسانيُّ، والعاداتُ البشرية، وطبيعةُ العُمران، والأحوالُ الإنسانية.
أما سيرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فلا تحكمُها العادات، ولا تخضعُ للعقل المُجرَّد؛ بل المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بشرٌ يُوحَى إليه، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4].
ومن هنا أخطأ من أخطأ من المُستشرقين والمُستغرِبين، ومن سارَ على منهاجهم، وهم يدرُسون سيرةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وحياتَه؛ لأنهم نظروا إليها على أنها تأريخٌ إنسانيٌّ بحت.
وما فقِهوا أن التاريخ المُجرَّد قاصِرٌ على الطبيعة الإنسانية، والحياة الاجتماعية. أما السيرةُ النبوية فلها مقاييسُها الربانية، وخصائصُها الرسالية؛ فالوحيُ مصدرُها، والاختيارُ من الله سرُّها، وإصلاحُ البشرية غايتُها، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون: 69]، (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 33].
الأنبياءُ معصُومون مُصلِحون هادُون مهديُّون، في خصائص دينية وغيبيَّة، لهم مُعجزاتُهم وكراماتُهم التي لا يُشارِكهم فيها غيرُهم.
ومن أجل هذا، فإن أي دراسةٍ للسيرة تتجاهل أو تتغافلُ عن هذه الخصائص النبوية، وتجعلُها تأريخًا بشريًّا مُجرَّدًا، فسوف تقعُ في أغلاطٍ في المنهج، وفي التفسير، وفي النتائِج؛ بل قد يقعون في تخبُّطٍ وتناقُضٍ وجهلٍ وضلال.
أما من تعمَّد السلوكَ المُعوَجَّ بقصد التشكيك أو التحريف أو الإبطال، فإن الله يُحبِطُ عمله، ويرُدُّ كيدَه في نحره، كما هو مُشاهَدٌ - ولله الحمد -، (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67]، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95]، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
معاشر المُسلمين:
وحينما أمر الله - سبحانه - بالاقتِداء برسوله، والتِزام سُنَّته، والتِزام هديِه وطريقته في قوله - عزَّ شأنُه -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، وفي قوله - جل وعلا -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]، وفي قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31، 32]، وأمثال هذه النصوص.
لما كان ذلك كذلك حفِظ الله لنا هذه السيرة النبوية، حفظًا لم يكن لأحدٍ قبلَه ولا بعدَه - عليه الصلاة والسلام -، وهيَّأ لها من أهل العلم والفقه والتحقيق والتوثيق ما يبهَرُ العقول، ويُبهِجُ النفوس، ويُقيمُ الحُجَّة. فحظِيَت السيرةُ بتوثيقها كتابًا وسنَّة، توثيقًا مُتواترًا، نقلاً في السطور، واستيعابًا في الصدور، ومُقترِنًا بمشاعر التعظيم والإجلال، ومُمتزِجًا بصادق الحب والتقدير.
وقد تجلَّى هذا التوثيقُ والتدوينُ في جهود أجيالٍ من رجالات العلم، تعاقَبُوا على توثيق رواياتها وأحداثها، أفعالاً وأقوالاً وهديًا، في أقصَى درجات الدقَّة والضبط.
ومنهجُ علماء الحديث - رفع الله قدرَهم، وأعلى مقامَهم - في التوثيق هو المنهجُ الذي اختصَّ به أهلَ الإسلام في توثيق ما نُقل عن نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، في شأنه كلِّه، تحريرًا وحفظًا وضبطًا، وصيانةً عن الروايات الموضوعة والمكذوبة، وتمييزًا للضعيف من الصحيح والحسن، في درجاتٍ من الضبط والإتقان.
ولعله من المشمُول بالحفظ في قوله - عزَّ شأنُه -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، في أمانةٍ وديانةٍ، وصيانةٍ مُنقطِعة النظير. فله الحمدُ والمنَّة.
معاشر المسلمين:
وسيرةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ليست هي سردَ الروايات، وتتبُّع الأحداث في حياته - عليه الصلاة والسلام -؛ بل السيرةُ في معناها الشامل، ومبناها المُتكامل هي حياتُه ومنهجُه وهديُه وسمتُه، ودينُه ودعوتُه، واقتِفاءُ كل ما صحَّ به النقلُ عنه، إيمانًا وتوحيدًا، وأحكامًا وأخلاقًا في شأن الحياة كلِّها.
ذلك أن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرتَه هي التفسيرُ الحي لنصوص الشريعة كتابًا وسُنَّة؛ فالسيرةُ لا تنحصِرُ في التفسير اللفظيِّ وحدَه، السيرةُ توحيدٌ في مواجهة الشرك والوثنية والخرافة، ووحدةٌ في مواجهة الفُرقة والتشتُّت، ودولةٌ في مواجهة القبيلة والعشيرة، وحكمٌ وتشريعٌ في مواجهة الأعراف والتقاليد، وأمةٌ في مواجهة التحزُّب والعصبية، وإصلاحٌ وإعمارٌ في مواجهة التخريب والفساد، وعلمٌ في مواجهة الجهل والأمية.
سيرةٌ نبويةٌ مُحكَمة، ضابطةٌ لمسار المُسلم في حياته كلِّها. في السيرة وتأملاتها وأحداثها يبرُزُ الميزانُ الدقيق بين الحقوق والواجبات، والعدل والقوة، والرحمة والإحسان، والمواساة والمساواة، والشورى والإدارة، وزينة الدنيا وعمارة الأرض، في إتقانٍ وإحسانٍ، وتكامُلٍ وتعاوُن، وبرٍّ وإيثار.
فالطهورُ شطرُ الإيمان، والصلاةُ نور، والصدقةُ بُرهان، والصبرُ ضياء، وطلبُ العلم فريضة، ومن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين، وهل فقهُ الدين إلا فهمُ هذه الحياة ووظيفتها وإحسان الأعمال فيها؟!
يقول سُفيانُ بن عُيينة - رحمه الله -: "إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزانُ الأكبر، فعليه تُعرضُ الأشياء، على خُلُقه وسيرته وهديِه، فإذا وافقَها فهو الحقُّ، وما خالفَها فهو الباطلُ".
أيها الإخوة:
السيرةُ في قُدوتها تهَبُ الإنسان هويَّته، والعقل بصيرتَه، والوجدان قيمتَه. السيرةُ المُصطفوية تبعثُ في المُؤمن العزَّةَ من غير كِبر، وعلُوَّ الهمَّة من غير بطَر، والثقةَ من غير غرور، والطُّمأنينة من غير تواكُل.
سيرةٌ وأُسوة تُشعرُ بالمسؤولية المُلقاة على الكواهِل، والأمانة والاستقامة، والدعوة إلى الله على بصيرة.
وبعدُ رحِمكم الله:
فيقول الإمام الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "واضطرارُ العباد إلى معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق كل اضطِرار؛ فإنه لا سبيلَ إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنالُ رِضا الله البتَّة إلا على أيديهم؛ فالطيبُ من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهو الميزانُ الراجحُ الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم تُوزَن الأقوالُ والأخلاق والأعمال، وبمُتابعتهم يتميَّزُ أهلُ الهدى وأهل الضلال.
وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارَين مُعلَّقةً بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجبُ على كل من نصحَ نفسَه وأحبَّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرِف هديَه وسيرتَه ونشأتَه". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى: 52، 53].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله يُنالُ بحمده الثواب، أحمدُه على جزيل آلائه وهو الكريمُ الوهاب، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاء بالحكمة وفصل الخطاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ والأصحابِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب.
أما بعد، معاشر المُسلمين:
سيرةٌ نبويةٌ مُباركة، ارتفعَت بها الأمة بعد أن كانت وضيعة، وعزَّت بعد أن كانت ذليلة، وتعلَّمت بعد أن كانت جاهلة. بسطَت حقوقَ الفرد والجماعة بتأصيلٍ وتفصيلٍ ليس له نظير، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15، 16].
أمةٌ خيرُ أمة، سارَت على خير سيرة، جاهَدت في الله فانتصَرَت، وغلبَت فرحِمَت، وحكمَت فعدلَت، وساسَت فحرَّرَت، وفجَّرت ينابيع المعارف الحقَّة بعد نُضوبها.
معاشر المُسلمين:
وهذه الأمة فيها الخيرُ إلى يوم القيامة، وسيظفَرُ دينُ الإسلام بكل انتِصارٍ - بإذن الله - مهما احلولَكَت الظُّلَم، وادلهمَّت الخُطوب.
وإن من بوادِر الخير، وبشائر السعد ما وفَّق الله له هذه الدولة المُباركة من مساعٍ مشكُورة، ومُبادراتٍ مذكورة. في تاريخ هذه الدولة السعودية المُباركة تقديمُ العمل قبل القول، تأريخٌ وإنجازاتٌ تُؤكِّدُ مكانةَ المملكة وأهميتها ودورها في صياغة الواقع الإسلامي، والمُشاركة الفاعِلة في العالَم كلِّه بمُتغيِّراته ومُتطلَّباته.
إن هذه الدولة المُباركة هي من تحتضِنُ في أرضها منظمة التعاوُن الإسلامي، ورابطة العالَم الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، ومجلس التعاوُن الخليجي، مضمومًا إلى ذلك جهودُها وأعمالُها المعهُودة والمعروفة في الإغاثة والتنمية للمُجتمعات الإسلامية، وهو في ذات الوقت استمرارٌ للدور الريادي الذي تضطلِعُ به في خدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما، وحماية المُقدَّسات الإسلامية - بإذن الله وعونه -.
وهي الدولة - ولله الحمد - التي سجَّلَت النجاحات الباهرة في مُكافحة الإرهاب ومُحاربته منذ ما يُقارِبُ العِقدَين من الزمان، في استِباقٍ مُتميِّز للقضاء على كل تحرُّكٍ إرهابيٍّ في مهده. ومن هنا، فإن دعوتها ومساعيَها تلقَى هذا التجاوُب الكبير من زعماء العالَم الإسلاميِّ وقادته.
معاشر المسلمين:
وفي العهد السلماني الميمون، عهد عواصِف الحزم ورايات الأمل، تأتي عاصفةُ حزمٍ من نوعٍ آخر. فبعد التحالُف الأنموذج الناجح يأتي تحالُفٌ كبيرٌ مُبارَك، تحالُفٌ يُجسِّدُ المُبادرة الأولى من نوعها في التاريخ الحديث، التي يجتمعُ فيها هذا العددُ الكبيرُ من الدول الإسلامية المُبارَكة.
تحالُفٌ إسلاميٌّ مُبارَك، ينقُلُ الدولَ الإسلامية من ردَّة الفعل إلى صناعة الفعل والمُبادرة به، والاستِباق لما يستدعي الاستِباق. حزمٌ وأمل، وانعِتاقٌ من التبعيَّة، تحالُفٌ يُعزِّزُ اللُّحمةَ الإسلامية، ويفضحُ القوى الانتهازية والشريرة التي تريدُ النَّيلَ من المصلحة الإسلامية العُليا من أجل مصالحها الضيِّقة، تحالُفٌ يحسِمُ - بإذن الله - العبثَ بالمنطقة وبديار الإسلام. تحالُفٌ من أجل عزَّة دين الله، وكرامة الأمة، والعيش الكريم، والاستقرار، والنهوض والتنمية.
مما يُجسِّدُ قُدرةَ أهل الإسلام وعزيمتهم في حل المُشكِلات بمفهومهم الإسلامي الصحيح، والدفاع عن دينهم وديارهم بأنفسهم. هذا التحالُف المُبارك الذي يتطلَّعُ إليه كلُّ مُسلم ويعيشُ في وجدانه وهو يرى أمَّته بقادتها وساستها وقد صارَت أمةً واحدة، ذات هدفٍ واحد، رسمَت جادَّتها وثبتَت خُطاها.
به يظهرُ الوجهُ الصحيحُ القويُّ للإسلام - بإذن الله -، وتظهرُ الأمةُ المُسلمةُ التي تنشُدُ العيشَ بسلامٍ ووئامٍ مع نفسها ومع الآخرين.
تحالُفٌ مُبارَك يسيرُ نحو الوحدة الإسلامية المنشُودة، مع احترامٍ للاختلاف المذهبيِّ السائِغ، وعدم التدخُّل في شُؤون الدول، والبُعد عن إثارة الفتن والنَّعَرات.
تجمُّعٌ نبيل غايتُه جمعُ الكلمة، والعيشُ الكريم، وبسطُ الأمن، ومُحاصرةُ الإرهابيين والمُتطرِّفين غُلاةً وجُفاةً، واحترام المواثيق والاتفاقيات الدولية والثنائية، في توحيدٍ لصفوف الأمة أمام الخطر المُحدِق بها وبمصالحها.
معاشر المُسلمين:
ثم إن هذا التحالُف المُبارَك يُؤكِّدُ موقفَ الدول الإسلامية المُوحَّد في تجريم الإرهاب ومُحاربته ومُحاصرته، وتجفيف منابعه ومصادره، مما يُؤكِّد أن الإرهابيين وعملياتهم الإرهابية لا علاقةَ لها بدين الإسلام؛ بل إن "داعش" - وهي أم الإرهاب وأحدثُ صُوره - ليست دولة، وليست إسلامية، بل هي مجموعة عصاباتٍ تجمَّعَت من آفاقٍ شتَّى، يقِفُ وراءَها من يُموِّلُها ويُسلِّحُها ويدعمُها.
أيها الإخوة:
هذا الإرهاب وإن وُجِد فيه من ينتمي لأهل السنة، فإنه ليس مقصورًا عليهم؛ بل هناك أكثر من ثلاثين منظمة إرهابية من المذاهب والطوائِف الأخرى، كلُّها تقتُل على الهوية، وتُسهِمُ في تشريد الشعوب، وتمزيق الدول، وتشتُّت الأُسر، وتخدِمُ الفوضَى الخلاَّقة.
وهذا التحالُفُ المُبارَك هو الذي سوف يحمِي - بإذن الله - من شُرور هذه الجماعات والمُنظَّمات الإرهابية، أيًّا كان مذهبُها وانتماؤُها أو تسميتُها، والتي تعيثُ في الأرض فسادًا، وفي الأمة تمزيقًا، وفي الإسلام تشويهًا.
كما يكشِفُ هذا التحالُف حقيقةَ من يدعَمون الإرهاب ويُسانِدونَه ويُغذُّونَه فكريًّا وسياسيًّا وماليًّا.
وبعدُ حفِظَكم الله، وأدام عزَّكم:
فبارك الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وجمع كلمة المُسلمين على الحق والهُدى والسنَّة.
ولعلَّ من التوجُّه المُبارَك النظرَ في تكوين هيئةٍ عُليا من علماء الأمة وساستها وإعلامييها، تسترشِدُ بها الدولُ الإسلامية ومُؤسَّساتُها، للعمل على ما يُرسِّخُ أحكامَ الإسلام وثوابته ومُحكمَاته ووسطيَّته وسعَته، في الإعلام والمناهج والمنابِر، في مُعالجاتٍ فكريَّةٍ وتربويَّةٍ وإعلاميَّةٍ، مع علم الخبير بما يحتاجُه ذلك ويتطلَّبُه من جهدٍ ووقتٍ ومال، وحُسن تخطيط، وعملٍ جادٍّ، وطريقٍ طويل، ومن الله العونُ وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، واعلموا أن الإسلام سيبقَى بحفظِ الله ثم بقوَّته وجاذبيَّته وصموده، وجهود المُخلِصين من أبنائِه، رغم كل الحروب والاستِهدافات، مهما تكاثرَت الاتهامات، وانتشرَت التزييفات.
هذا وتقرَّبوا إلى ربِّكم، وتقرَّبوا إلى نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والسلام على هذا النبي المُصطفى، والحبيب المُجتبى.
ففي الصلاة والسلام عليه امتِثالٌ لأمر الله، ويُصلِّي الله عليكم وملائكتُه، وتُرفعُ لكم الدرجات، وتُحطُّ السيئات، وتُكتبُ الحسنات، ويُجابُ لكم الدعاء، وتُكفَون ما أهمَّكم وما أغمَّكم.
وفي الصلاة المُصطفوية: فيها زكاةٌ لكم وطهارة، وطريقٌ إلى الجنة، ونورٌ على الصراط وتثبيتٌ عليه، وتفوزون بالثناء من أهل الأرض والسماء، وتنالوا رحمةَ الله ومحبَّة رسول الله.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، واحقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.