التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها؛ "كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه".
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه.
معاشر المسلمين: لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها؛ "كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه".
ولذا؛ كانت عقولُ الناشئة والشباب هدفاً لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شَرَكهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم ويورِدوهم مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات.
ولا أنفعَ -بإذن الله- للشباب من التحصُّن بعلم الشريعة، فهو يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ) [المجادلة:11]، سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
وتعظيم العلماء من بدهيات تعظيم الشريعة، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء" رواه أحمد. فحقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم.
وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له".
سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب -بإذن الله- من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء".
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل إن الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطِ في طلب العِلم، وإعجابٍ بالرّأي، وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد -صلى الله عليه وسلم- تعوَّذ من الفتن، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول -عليه الصلاة والسلام- عن الفتن: "ومن استشرف إليها -أي: تطلَّع إليها- أخذته" رواه البخاري.
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين: الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما من السبل التي تورث القلبَ الفساد، والشبهة، والتي إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه".
إخوة الإسلام: وتشكيكُ الناشئةِ في المناهج الدّراسيّة يُضعِف همَّتهم في التحصيل وأخذِ المعارف منها، ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ المناهج الدينيّة، والتوسُّع فيها، والبسطَ في شرحها، وتسهيل فهومِها للناشئة، مع عدم إثقال كاهلِ الطّلاب بكثرة المواد غيرِ الدينيّة التي يغني بعضُها عن بعض، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
أيّها المسلمون: الإعلام نافذة واسعةٌ على المجتمع، والشّباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في التوجيه والإرشاد وفي النّصح والفتوى، والتعرّض للدين المتين باللّمز أو لأهله بالسّخريّة والغَمز يوغِر الصدورَ، ويؤجِّج المكامن، والثناءُ على الناشِئة واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً للشّباب؛ لئلا يتَلقَّفهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: (قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه البلاد ورعايةُ ولاّة الأمور لها أمرٌ صان الله به كثيرًا من الناشئة عن الانحراف، كَم انتفع بها من يتيم! وكم أسدَت للناشئة من معروف! وكم أوصدَت من أبواب الشرور! وكم وسَّعت من مدارِك! وكم فتحَت من آفاق!.
والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّة المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون: الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء، وطمأنينة للآباء، وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله -عليهم الصلاة والسلام- عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى -عليه السلام- يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد -صلى الله عليه وسلم- اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي"، وعائشة -رضي الله عنها- تقول: "لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره".
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت، ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال -جلّ وعلا-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّـالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً) [الفرقان:27-28]، فجالِس الصالحين، واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
أيها المسلمون: للمرأة دورٌ مكين في الرعاية والتوجيه، وإذا تخلَّت المرأة في دارها عن مسؤوليّتها وأخْلَت مسكنَها من نفسِها بكثرة خروجِها من منزِلها لم يجِد الأبناء حنانَ الأمومة وعطفَ الحانيَة، ولا يجدون في المسكَن معهم سِوى مَن هو مِن غير جنسِهم مِن الخدم، فيفقِدون عطفَ الوالدَة ورأفة المُشفِقة، فلا يمنَعهم ذلك للتوجّه إلى من يتلقَّفهم بمخدوع الحديثِ وأماني المستقبل.
والإسلامُ ألقى على الأمِّ مسؤولية كبيرةً مشرِّفة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "والزوجة راعيةٌ ومسؤولة في بيت زوجها"، مِن أحضان المرأة تخرَّج العلماء وبرز النّبلاء، ولا أعظم تكريمًا للمرأة ولا أنبلَ تبجيلاً لمكانتِها من إسداء مسؤولية العقول إليها في دارها، فواجبٌ عليها القيام بأعباء تكاليفها لئلا تذرف الدمعَ على أولادِها، وعليها عدمُ الإصغاء إلى أبواقٍ تدعوها إلى الخروج من مملكتِها وإهمال أولادِها.
نسأل الله أن يصلح شباب المسلمين، وأن يحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، وأن يكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه؛ إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، للأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء، فقال -جلّ وعلا-: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) [البلد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوجِنَا وَذُرّيَّـاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عبّاس وهو غلام: "يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك". وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "احرِص على ما ينفعُك".
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعاد ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
واعلم -أيّها الابن- أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة، وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِ سعادةَ الدنيا والآخرة.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن صلاح الأسرة هو اللبنة الأولى في صلاح المجتمع، وهذا في مقدورنا جميعاً. فهل نحن فاعلون؟.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما فيه صلاحنا، وإصلاح ذرياتنا وأسرنا ومجتمعنا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد...