الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
اسمحوا لي أن أتحدث إلى حضراتكم اليوم حديث الذكرى التي نعيشها، ذكرى الاستقلال، ورحيل المحتل البريطاني الذي جثم على صدر هذا البلد ثمانية وعشرين ومائة عاماً، منذ عام تسعة وثلاثين وثمانمائة وألف، إلى سبع وستين وتسعمائة وألف، حتى أصبح يوم الثلاثين من نوفمبر من كل عام يوما للذكرى، واحتفاء بالرحيل، واستقلالا للكيان.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة المؤمنون: إن التاريخ مساحات، وميادين وساحات، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتبتهج بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتظهر لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9].
أيها الإخوة: اسمحوا لي أن أتحدث إلى حضراتكم اليوم حديث الذكرى التي نعيشها، ذكرى الاستقلال، ورحيل المحتل البريطاني الذي جثم على صدر هذا البلد ثمانية وعشرين ومائة عاماً، منذ عام تسعة وثلاثين وثمانمائة وألف، إلى سبع وستين وتسعمائة وألف، حتى أصبح يوم الثلاثين من نوفمبر من كل عام يوما للذكرى، واحتفاء بالرحيل، واستقلالا للكيان.
ذاك الاحتلال الذي نهب الخيرات، وبدد الثروات، وغرّب الثقافات، وحرف الأخلاق والتصرفات. الاحتلال الذي تضافرنا على طرده، وأجمعنا على مغادرته، وأيقنا بضرورة ترحاله.
لقد سن الإسلام مفهوم الاستقلالية في كافة مجالات الحياة، تأكيداً منه أن الأمة المستقلة أمة عزيزة منيعة، لها مصادرها ولها مناهجها الخاصة، وأن الأمة التي لا تعي هذا المفهوم مصداقاً وتطبيقاً، هي أمة ذليلة تعج فيها الأخطاء والتناقضات.
جاء الإسلام ليكرس مفهوم الاستقلالية، فمن تكريس الإسلام للاستقلالية أنه جعل ارتباط المسلمين بالله وحده: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران:28].
من تكريس الإسلام لمفهوم الاستقلالية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ليعطي الإسلام استقلاليته الخاصة به، فقد كان اليهود يقولون: انظروا إلى محمد، إنه يصلي إلى قبلتنا ويدين بغير ديننا!.
ومن تشوقه -عليه الصلاة والسلام- لهذه الاستقلالية، كان يجعل نظره في السماء، وكانت نظرته فيها تتوّق إلى استقلالية لهذه الأمة، في القبلة.
وكان الرد الإلهي لهذا التشوق تأكيداً له: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:144].
وتأكيداً من النبي -عليه الصلاة والسلام- لمفهوم الاستقلالية، كان يجيل نظره في كل ما حوله، فيأمر بإزالة وتغيير كل شيء يذيب الشخصية الإسلامية أو يشوهها، حتى تعدى الأمر إلى أمور الطعام والشراب، فأمر بأن يتكلم المسلم على طعامه؛ مخالفة لليهود الذين كانوا لا يتكلمون بحضور الطعام.
حتى في الألفاظ والمفاهيم، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:104].
إنها أمة مستقلة في منهاجها وفي كتابها، وفي أسلوبها، وفي طرائق حياتها: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) [البقرة:138].
لقد تشربت فطرنا السليمة هذه الفكرة، وسرت في عروقنا، وتسللت في أفكارنا، فنحن نعشق الاستقلال مهما أسرتنا العبودية، ومهما حاول المحتلون استعبادنا، فنحن أمة تعشق الحرية، وتتعبد الله بها، وعلى ذلك رباها نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وهتف قادتها عبر الـتاريخ: "متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟".
أفبعد هذه التربية العميقة المتغلغلة في الجينات ترانا ننحرف عن فكرة الاستقلال، ونرضى بالذل والاستعباد؟.
من هذا المنطلق انطلق الأجداد، عدتهم عقيدة راسخة، وإيمان عميق، ونصر من الله محقق.
واليوم -أيها الإخوة- وبعد أربعة وأربعين عاماً على هذه الذكرى، ونحن نعيش حصاد الأجداد، وثمرات الصبر والصمود، ما زلنا نتساءل: هل تحررنا فعلا من الاستعمار؟! هل هذا الذي أراده الأجداد للأحفاد؟ هل فعلا نعيش اليوم لذة الاستقلال ونقطف ثماره؟ أم أن الأبناء أضاعوا إرث الأجداد، واستبدلوا محتلا بمحتل؟ نعم، استبدلوا محتلا بمحتل!.
أيها الأجداد: لقد طردتم الاستعمار فأرجعناه، وما اشتريتموه قد بعناه، ومن أخرجتموه قد استبدلناه.
لقد رحل الاستعمار لكنه لم يرحل، رحل بجسده وبقي بثقافته وفكره، بقي الاستعمار الذي غزا عقولنا، وغزا ثقافتنا، وشوه حقائق تاريخنا؛ استعمار الفكر والقيم التي حلت بدلا عن قيمنا وأخلاقنا.
إنهم غزاة، ولكن بطرق جديدة، وحيل دخيلة خادعة.
غزاة لا أشـاهدهـم | وسيف الغزو في صدري |
فقد يأتــون تبـغا فــي | سجائر، لونُها يغري |
وفي أهـداب أنثــى، في | مناديــل الهـوى القهري |
وفي حريـة الغـــثـــيــا | ن في عبثـيــة العمر |
وفي الأثـواب نلبســهـا | وفي قـارورة العطـر |
ويستخـفون في جلدي | وينســلُّون مِن شَـــــعري |
وفوق وجوههم وجهي | وتحت خيــولــهم ظهري |
غزاة اليوم كالطـاعــو | ن يخفى وهــو يستشري |
فظيع جهــــل ما يجــري | وأفظـع منه أن تــدري |
لقد وقع الآلاف من أبناء جلدتنا أسرى في يد هذا الغزو الثقافي الذي أفقدنا هويتنا، وأنسانا صبغة أمتنا. فمتى نستعيد أسرانا، ونعلن استقلالنا؟...
الاستقلال الحقيقي الذي ننشده يوم نمتلك غذاءنا ودواءنا وسلاحنا، "فلا استقلال لشعب يأكل من وراء حدوده".
الاستقلال الحقيقي يوم نعتز بانتمائنا، ونعلن في الملأ هويتنا: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83].
الاستقلال الحقيقي يوم نتحرر من الطغاة والمستبدين الذي أكلوا خيراتنا، ونهبوا ثرواتنا، وأفقدونا إنسانيتنا.
الاستقلال الحقيقي يوم نسقط الظلم من أخلاقنا، ونرَحّلُ الفساد من طباعنا، ونطرد الإهمال من سلوكياتنا وأعمالنا.
الاستقلال الحقيقي يوم نصبح أمة محترمة بين الأمم، لها كيانها ولها ذاتها ولها كلمتها، تعود كما كان وهي تقول لمن يهددها ويستخف بها: "الجواب ما تراه، لا ما تسمعه".
أيها الإخوة: لا داعي للمزايدة في معنى الاستقلال، فنحن أمة تربينا على معناه، ونشأنا على فحواه.
من ذا الذي يزعم أنه مستقل عن إلهه ومولاه الذي جعل له عينين، ولسانا وشفتين، وهداه النجدين، وسواه وعدله، ورباه على الملة؟ (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [الحج:78].
أيها الإخوة: لا شك أن مثل هذه المناسبة يأخذ منها الإنسان الدروس والعبر، فكما أننا تخلصنا من محتل غريب كان يحتل بلدنا، أفسد في الأرض فساداً كبيراً، فإنا مازلنا محتلون من الداخل، احتلتنا الأخلاق الغريبة، والتصرفات الهوجاء، والنفسيات المريضة، والمشروعات الضيقة. احتلتنا النفسيات الحاقدة، والعصبيات النتنة، والنزعات المريضة، والنوايا السيئة.
إن هذا الوطن الذي حرره أجدادنا وبذلوا في سبيله الدماء، ومزقوا لاستقلاله الأشلاء، حري بنا أن نكون أكثر الناس حبا له وانتماء، وغيرة ووفاء.
إن المسلم الحقيقي يكون وفيًّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبًّا أشد ما يكون الحب له، مستعدًا للتضحية دائمًا في سبيله بنفسه ونفيسه، بغاليه ورخيصه، فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجلّ وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة.
إن المواطنة الحقة قيم ومبادئ وإحساس، ونصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعزة وموالاة، وتضحية وإيثار، والتزام أخلاقي، إنها شعور بالشوق إلى الوطن، حتى وإن كان لا يعيش الفرد في مرابعه.
فأين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن وصدعوا رؤوسنا بالوطنية ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة للوطن والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة؟! أين الوفاء للأرض التي عاشوا فيها وأكلوا من خيراتها، وترعرعوا في رباها، واستظلوا تحت سماها، وكانت أرض الإيمان والتوحيد والعقيدة الصافية؟!.
لمصلحة من هذا التخريب المنتشر هنا وهناك؟ لمصلحة من تعطيل الخدمات؟ لمصلحة من قطع الطرقات والاغتيالات؟ لمصلحة من نشر الاضطرابات؟ لمصلحة من إشعال فتيل النزاعات، والنفخ في الخلافات؟ هل نشكو عدوا خارجيا أدركنا أم أننا نشكو أبناء الوطن وقوما تربوا في هذا البلد وأكلوا من خيراته ونشؤوا على ترابه؟ هل هكذا يكون الجزاء وحب الانتماء؟ (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33].
لمصلحة من هذا العبث والاستهتار؟ لمصلحة من هذا الإهمال الذي فتت ثروات هذا البلد؟
نهْب منظم للآثار، عبث منظم بالمياه، سرقة واضحة للبحار، بعثرة واضحة للجهود.
ألا يبهرنا أن ينهض اليابانيون بعد الحرب العالمية يصارعون الدمار ويكافحون المرض الذي حل بهم ليبهروا العالم بعد خمسين سنة من الجد والعمل المتواصل؟ ألا يبهرنا الأتراك وقد حولوا بلدهم إلى دولة تعطي ولا تأخذ، وتساعد ولا تستدين؟ ألا يزجرنا أن ينهض كل مواطن في العالم ليعطي بلده الذي يفخر بالانتماء إليه، في حين يسارع بعضُنا للانتقام من البلد ليقضي على ما تبقى من بناه التحتية؟ أطفال يقطعون الطرقات، وكبار ينفذون الاغتيالات!.
حب الوطن لا يكون بمجرد الكلمات والشعارات، بل هو مرتبط بسلوك الفرد المحب ارتباطًا لا انفكاك منه.
حب الوطن يظهر في احترام أنظمته وقوانينه، وفي التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدته وقوته، حب الوطن يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، حب الوطن يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، حب الوطن يظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع...