الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | فهد بن عبدالله الصالح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
العلم الذي نرتزق منه وكفى، ليس إلا حرفة من الحرف، والعلم الذي لا يصل تأثيره إلى نفوسنا، ومن ثم إلى سلوكنا، ما هو إلا حذلقة لا طائل منها.
العلم الذي يجعل صاحبه يتيه به على غيره، ما هو إلا نوع من الكبر والغطرسة، والعلم الذي يسعى لتدمير الإنسان، والفتك به، ويسعى لصناعة المرض وأسلحة الدمار الشامل نوع من الجريمة ..
الحمد لله القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]والقائل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78] أحمده سبحانه واشكره.
أمَا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الأخوة في الله: للإنسان أعداءٌ كثيرون يسعون للقضاء عليه وتهميش دوره في هذا الكون، وأبرز تلكم الأعداء عدوٌ شرس فتك بالأمم وذهب بخيرات بلادها وجعلها فريسة للأعداء هذا العدو اللدود هو الذي جعل الإنسان ينسى خالقه ويعبد شهوته هذا العدو اسمه الجهل.
إنً الجهل -أيها الأخوة- ما وصف بشيء إلا شانه ولا أضيف إلى شيءٍ إلا أساء إليه.. ما غزيت العقول غزواً فكرياً، ولا تحول العاقل الرشيد إلى بوق يصفق للعدو ويهتف بشعاراته، ولا جهل الإنسان بما له وما عليه، ولا ضاعت حقوقه -إلا عبر قنوات الجهل والتخلف.
ومن أجل هذه المصائب وغيرها: أمر الخالق سبحانه عباده بالعلم وحث على التعلم وتوالت الرسالات السماوية تدعوا إلى العلم وترفع من شأنه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [المجادلة: 11].
ولم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم وذلك في قوله مخاطباً إياه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طـه: 114]، وأقسم الله بالتعلم لما له من عظيم الأثر في محو الأمية ورفع مستوى الثقافة والمعرفة فقال تعالى -بسم الله الرحمن الرحيم-: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1]. وقد كرًمَ الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعلم.
وبقدر ما يحمل الإنسان من العلم يكون فضله ومقداره؛ فالعلم من خصائص الإنسان فإذا تخلى عنه فقد تخلى عن إنسانيته ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان قدوةَ الداعين إلى التعلم بأقواله وأفعاله حتى جعل التعلم فريضة ً لازمة ً لكل فرد وذلك بقوله: "طلب العلم فريضة ٌ على كل مسلم ومسلمة".
وحرر صلى الله عليه وسلم بعض أسرى بدر على أن يعلموا طائفة ًمن المسلمين القراءة والكتابة، وسار على هذا النهج السلف الصالح -رحمهم الله- كانوا يوجهون النشء إلى التعليم لينشيءوا صالحين لأنفسهم ولأمتهم يقول أحدهم لبنيه: "يا بنى تعلموا العلم فإن كنتم سادة ً فقتم وإن كنتم وسطاً سُدتم وإن كنتم سوقة ً عِشتم".
أيها المسلمون: إن التسابق اليوم بين قوى الأرض هو في مِضمار العلم، والأمة الجاهلة المتخلفة لا مكان لها بين الأمم؛ بل إنها الأمة الضعيفة المنهزمة دائماً العالة على غيرها حتى ولو كان عدوها, ودول الغرب المتسلطة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من علو شأنها وقوةِ اقتصادها ونفاذ أمرها إلا بسلاح العلم.
وتعلُّم العلوم المادية يحقق عمارَة الأرض عن طريق استخراج ثرواتها، واستثمار طاقاتها، وتذليل الصعوبات، وتوفير الحاجات تحقيقاً لقول الله: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).
وتعلم العلوم المادية، والتفوق فيها قوة، يجب أن تكون في أيدي المسلمين، ليجابهوا أعداءهم، تحقيقاً لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
لأن القوة في هذا العصر هي قوة العلم، بل إن الحروب الحديثة ليست حرباً بين ساعدين، بل هي حرب بين عقلين.
ولحكمة بالغة؛لم يشأ الله جل وعلا أن يكون الانتفاع بخيرات الأرض وثرواتها وطاقاتها انتفاعاً بشكل مباشر، يلغي دور الإنسان، وإنما جعل هذا الانتفاع متوقفاً على جهد بشري: العلم والعمل.
إن التعلم والتعليم قوام هذا الدين، ولا بقاء لجوهره، ولا ازدهار لمستقبله إلا بهما، والناس العارفون أحد رجلين: متعلم يطلب النجاة، وعالم يطلب المزيد، وفي حديث مروي: "العالم والمتعلم شريكان في الخير".
أيها الأخوة في الله: إن العلم والمعرفة والثقافة لا تولد مع الإنسان؛ بل لابد من اكتسابها من طرقها المتنوعة، وفي كلَِ عصر تتجدد وسائل طلب العلم.
فأحسن طرق كسب العلم الشرعي ملازمة العلماء وسؤالهم، ومن لم يتيسر له ذلك؛ فعليه بالكليات الشرعية وتبقى وسيلة القراءة الفردية وحضور المحاضرات والندوات وسماعها عبر الأشرطة المسجلة -تبقى في متناول كلَِ إنسان بحسبه.
أيها المسلمون: لن تنهض أمة الإسلام من جمودها ولن ترقى سلم العز والمجد ولن تحافظ على أعراضها ودمائها - إلا باعتمادها على ربها ثم اعتمادها على شبابها، والجميع مسئول عن ذلك.
فالشباب المسلم عليه الجد والاجتهاد والبعد عن إضاعة الأوقات منذ دخوله المدرسة حتى يتخرج من الثانوية بهمةٍ عالية وحصولٍ مرتفع وطموح لا نهاية له لنيل الشهادات العالية، والتخصص في علوم الحياة المتنوعة.
وولي أمره عليه متابعة ابنه منذ الصغر وعدم إشغاله وقت الدراسة، والسؤال عنه وتشجيعه على الدراسة وإبعاده عن قرناء السوء وكلَِ ما يشغله عن طاعة ربه وعن مستقبله.
والمجتمع المسلم مسئول عن أبناءه في فتح المدارس والجامعات لهم، واختيار النخب من المعلمين والمسئولين, وبتضافر الجهود والهمم تبني الأمة مجدها وتنتقل من مؤخرة الركب إلى قيادة القافلة، وتكون بحق خير أمةٍ أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وبعد -أيها المسلمون- لا بد من أن يكون المسلم عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً، ولا يكن الخامسة فيهلك.
والعلم الذي نرتزق منه وكفى، ليس إلا حرفة من الحرف، والعلم الذي لا يصل تأثيره إلى نفوسنا، ومن ثم إلى سلوكنا، ما هو إلا حذلقة لا طائل منها.
العلم الذي يجعل صاحبه يتيه به على غيره، ما هو إلا نوع من الكبر والغطرسة، والعلم الذي يسعى لتدمير الإنسان، والفتك به، ويسعى لصناعة المرض وأسلحة الدمار الشامل نوع من الجريمة.
والعلم الذي لا يتصل بما ينفعنا في ديننا، ودنيانا، نوع من الترف المذموم، وفي الدعاء النبوي الشريف: "اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن أذن لا تسمع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها".
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات. اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الخطبة الثانية:
أيها الناس: للعلم الشرعي ولعلماء الشريعة في الإسلام مقام رفيع، ومنزلة كبيرة؛ فهم ورثة خير خلق الله تعالى، وهم الأنبياء عليهم السلام، في خير ما ورثوا وهو دين الله تعالى، فورثوا خير ميراث من أفضل مُوَرِثين، ويكفيهم شرفاً أن الله تعالى أثنى على عقولهم (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ).
وأخبر عن خسارة من لم يأخذوا عنهم: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وكان الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يقول: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم".
ولولا العلماء من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا لضاع الدين؛ فهم حملته ومبلغوه والمدافعون عنه، يقول ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "واعلموا أنه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة".
ولأجل أن العلماء حملة الدين ومبلغوه عن الله تعالى كان انتقاصهم والطعن فيهم، والتنفير منهم، والتأليب عليهم نوعاً من الصد عن دين الله سبحانه، وسبباً لطمس الهدى ونشر الضلال، وطريقاً لإخفاء الحق وإظهار الباطل؛ لأن مَنْ فَعَل ذلك فهو يريد الحيلولة بين الناس وبين من يبلغون الهدى ليصرفهم عنهم فيَضِلوا.
ومن صدَّ عن دين الله تعالى بأي طريق كان، وأراد أن يكون الناس على عِوجٍ فهو ملعون بنص القرآن: (أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا).
إن ظاهرة الطعن في العلماء الناصحين، والتقليل من شأنهم، ودعوة الناس للعزوف عنهم، والمطالبة بإسكاتهم، -كان ولا يزال- دأب المنافقين من عهد الرسالة حين سخروا بقُرَّاء الصحابة رضي الله عنهم في غزوة تبوك إلى يومنا هذا فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
ذلك أن خفافيش الظلام من أهل الأهواء والبدع والتغريب والفساد لا يستطيعون القيام بوظائفهم في إضلال الناس وغوايتهم إلا حين يسود الجهل بالشريعة، ويضمحل العلم بموت العلماء، أو بسكوتهم عن بيان الحق والنصح للخلق.
هذا، وصلوا وسلموا على معلم البشرية الهدى والخير خير نبي أرسل بخير كتاب أنزل وعلى صحبه الكرام البررة وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء والحساب.