البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

سورتا فجر الجمعة (2) سورة السجدة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - الصلاة
عناصر الخطبة
  1. فضائل القرآن الكريم .
  2. كلام الله هدى وشفاء .
  3. تفاضل بعض سور القرآن في الأجر .
  4. تأملات في عظات سورة السجدة .
  5. الحكمة من قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة. .

اقتباس

وَهَذِهِ الْأَحْدَاثُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَهَمُّهَا الْخَلْقُ وَالْبَعْثُ مَبْسُوطَةٌ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، فَكُلَّمَا غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، أَوْ أَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ؛ قَرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ أَوْ سَمِعَهَا فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَعَرَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَصَلُحَ بِالتَّذْكِيرِ قَلْبُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَشْغَلْهُ دُنْيَاهُ عَنْ دِينِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ لِأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يَقْرَئُوا سُورَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ فَجْرِ الْجُمُعَةِ؛...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ تَذْكِرَةً لَهُمْ وَمَوْعِظَةً وَشِفَاءً (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45] وَمِنْ فَضْلِهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَى عِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِتَكُونَ التَّذْكِرَةُ حَاضِرَةً فِي وِجْدَانِ الْمُؤْمِنِ كُلَّ حِينٍ، يَقْرَؤُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَيَسْمَعُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ.

وَسُوَرُ الْقُرْآنِ وَآيَاتُهُ تَتَفَاضَلُ فِي الْأُجُورِ، وَبَعْضُهَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ عَلَى الْقَلْبِ أَشَدَّ مِنْ غَيْرِهِ، فَيُشْرَعُ تَكْرِيرُهُ لِمَعْنًى يَقْتَضِيهِ، كَمَا شَرَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- قِرَاءَةَ سُورَتَيِ السَّجْدَةِ وَالْإِنْسَانِ فَجْرَ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَسَيْرِ الْإِنْسَانِ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُسْتَقَرِّهِ فِي آخِرَتِهِ.

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ عَرْضٌ لِأَبْرَزِ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ السَّجْدَةِ مِنَ الْمَعَانِي الْعِظَامِ، وَشَيْءٍ مِمَّا حَوَتْهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَمَوَاطِنِ الِاعْتِبَارِ؛ تَذْكِيرًا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهَا؛ وَإِحْيَاءً لِلْقُلُوبِ بِمَوَاعِظِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ الْمَوَاعِظِ وَأَنْفَعُهَا.

تَبْتَدِئُ السُّورَةُ بِبَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ -تَعَالَى- الْمُنَزَّلُ حَتَّى تُنْصِتَ الْآذَانُ لِمَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ، وَتَسْتَقْبِلَهَا الْقُلُوبُ بِتَدَبُّرٍ وَخُشُوعٍ، فَلَيْسَ كَلَامُ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ- كَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ مَهْمَا عَلَتْ أَقْدَارُهُمْ، وَحَسُنَ بَيَانُهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي بِدَايَاتِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَلَاحِدَةِ الْيَوْمِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ يُهَوِّنُونَ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ يُشَكِّكُونَ فِي تَنَزُّلِهِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). [السجدة: 1- 3].

ثُمَّ يُذَكِّرُ اللَّهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالْخَلْقِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى الْخَالِقِ –سُبْحَانَهُ-، وَيُخْبِرُهُمْ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ تَدْبِيرَ الْمَخْلُوقَاتِ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ أَحَدٍ سِوَاهُ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة: 4- 7].

وَدَلَائِلُ إِحْسَانِهِ لِمَا خَلَقَ يَرَاهَا النَّاسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَمَامَهُمْ؛ لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُوَفَّقُونَ فِي الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْرِضَ عَنْهَا الْمَخْذُولُونَ.

وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ قَضِيَّةٌ تُهِمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَقَدْ ضَلَّ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالنُّظَّارِ، وَتَاهُوا فِي دَيَاجِيرِ الضَّلَالِ، وَهِيَ تُعْرَضُ فِي الْقُرْآنِ وَاضِحَةً جَلِيَّةً، يَتَلَقَّاهَا الْمُؤْمِنُ صَحِيحَةً نَقِيَّةً، لَا تَعْقِيدَ فِيهَا وَلَا غُمُوضَ، وَلَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا شُكُوكَ، بَلْ يَقِينٌ تَلَقَّاهُ مِنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [السجدة: 8- 10].

وَالْخَلْقُ الْأَوَّلُ دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ، فَمَنْ خَلَقَ وَأَمَاتَ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ مَا تُعَالِجُهُ السُّورَةُ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11- 12].

وَفِي يَوْمِ الْبَعْثِ تَظْهَرُ الْحَقِيقَةُ لِمَنْ أَنْكَرُوهُ، فَيَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا لِيَوْمِهِ، وَيَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ لِلْعَمَلِ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَعُودُوا، فَمَا ثَمَّ إِلَّا الْجَزَاءُ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة: 13- 15].

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الْمُعْرِضِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَتِلْكَ عَاقِبَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُمْ فِي اسْتِجَابَتِهِمْ لِمَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَتَذْكِيرِهِ، وَفِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ وَالتَّهَجُّدِ بِهِ، يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- فَضْلَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَيَخَافُونَ نِقْمَتَهُ وَعَذَابَهُ: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16- 18].

 ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ -تَعَالَى- مَصِيرَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 19- 22]، نَعُوذُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ.

وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ التَّذْكِيرِ، وَيُذَكِّرُنَا اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَيُبَيِّنُ -سُبْحَانَهُ- خُطُورَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرَى الْقُرْآنِ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة: 23].

ثُمَّ يَقُصُّ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا خَبَرَ أُمَّةٍ كَانَتْ قَبْلَنَا، وَكَانَ فِيهَا أَئِمَّةٌ مُهْتَدُونَ، كَمَا كَانَ فِيهَا شِيَاطِينُ مُعْرِضُونَ؛ لِنَتَّعِظَ بِمَنْ كَانُوا قَبْلَنَا، فَنَسِيرَ سِيرَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنُبَاعِدَ عَنْ طَرِيقِ الْمُعْرِضِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة: 24- 25].

ثُمَّ يُذَكِّرُنَا اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَنَا؛ لِئَلَّا نَسِيرَ سِيرَتَهُمْ، وَيَلْفِتَ انْتِبَاهَنَا إِلَى مَا رَزَقَنَا مِنْ نِعَمِهِ لِنَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَنُخْلِصَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة: 26- 27].

وَمِنْ عَادَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعْرِضِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [السجدة: 28]. فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا رَجْعَةَ فِيهِ إِلَى الدُّنْيَا لِلْعَمَلِ، وَلَا وَقْتَ لِلْمَعْذِرَةِ وَالِاسْتِعْتَابِ، إِنْ هُوَ إِلَّا الْعَذَابُ الْخَالِدُ، وَالشَّقَاءُ الدَّائِمُ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) [السجدة: 29- 30].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 281].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ عَظِيمٌ قَدْ فَضَّلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَجَعَلَهُ مَحَلًّا لِأَحْدَاثٍ عِظَامٍ، مِنْهَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ).

وَهَذِهِ الْأَحْدَاثُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَهَمُّهَا الْخَلْقُ وَالْبَعْثُ مَبْسُوطَةٌ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، فَكُلَّمَا غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، أَوْ أَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ؛ قَرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ أَوْ سَمِعَهَا فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَعَرَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَصَلُحَ بِالتَّذْكِيرِ قَلْبُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَشْغَلْهُ دُنْيَاهُ عَنْ دِينِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ لِأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يَقْرَءُوا سُورَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ فَجْرِ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِـ (الم تَنْزِيلُ) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: «مَا شَهِدْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِتَنْزِيلُ، وَهَلْ أَتَى».

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا كَانَ يَقْرَأُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ؛ لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَخَلْقِ آدَمَ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِهَا مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ تَذْكِيرًا لِلْأُمَّةِ بِحَوَادِثِ هَذَا الْيَوْمِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَّذْكِيرِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَلْيُصْغِ لَهُ سَمْعَهُ، وَلْيَتَدَبَّرْهُ بِقَلْبِهِ، وَلْيَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلْيَحْذَرْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّذْكِيرِ (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) [الْأَعْلَى: 9 – 13].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...