البحث

عبارات مقترحة:

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

المأمون عبد الله أبو العباس

عبد الله أبو العباس بن الرشيد؛ ولد سنة سبعين ومائة في ليلة لجمعة منتصف ربيع الأول، وهي الليلة التي مات فيها الهادي واستخلف أبوه، وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت في نفاسها به، وقرأ العلم في صغره. سمع الحديث من أبيه، وهشيم، وعباد بن العوام، ويوسف بن عطية، وأبي معاوية الضرير، وإسماعيل بن علية، وحجاج الأعور، وطبقتهم. وأدبه اليزيدي، وجمع الفقهاء من الآفاق، وبرع في الفقه، والعربية، وأيام الناس ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهرَ فيها؛ فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. روى عنه: ولده الفضل، ويحيى بن أكثم، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، والأمير عبد الله بن طاهر، وأحمد بن الحارث الشيعي، ودعبل الخزاعي، وآخرون. وكان أفضل رجال بني العباس حزمًا، وعزمًا، وحلمًا، وعلمًا، ورأيًّا، ودهاء، وهيبة، وشجاعة، وسؤددًا، وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن، ولم يلِ الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحًا مفوّهًا، وكان يقول: معاوية بعمره، وعبد الملك بحجّاجه، وأنا بنفسي؛ وكان يقال: لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة السفاح، والواسطة المأمون، والخاتمة المعتضد، وقيل: إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكان معروفًا بالتشيع، وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى علي الرضا كما سنذكره. قال أبو معشر المنجم: كان المأمون أمّارًا بالعدل، فقيه النفس، يعدّ من كبار العلماء. وعن الرشيد قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع -يعني نفسه- لنسبته، وقد قدمت محمدًا عليه، وإني لأعرف أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه. استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمانٍ وتسعين وهو بخراسان، واكتنى بأبي جعفر. قال الصولي: وكانوا يحبون هذه الكنية؛ لأنها كنية المنصور، وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كنى بها كالمنصور والرشيد. وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتد ذلك على بني العباس جدًّا، وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولقب: المبارك، فجهز المأمون لقتاله، وجرت أمور وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق، فلم ينشب علي الرضا أن مات في سنة ثلاث، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي، وقد مات، فردوا جوابه أغلظ جواب، فسار المأمون، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أيامًا، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين. ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك. وأسند الصولي أن بعض آل بيته قالت: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يولِ أحدًا من بني هاشم شيئًا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولّى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدًا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدًا منهم حتى ولاه شيئًا؛ فكانت هذه منّة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت. وفي سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وبلغ جهازها ألوفًا كثيرة، وقام أبوها بخلع القواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يومًا، وكتب رقاعًا فيها أسماء ضياع له، ونثرها على القواد والعباسيين؛ فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها، ونثر صينية ملئت جوهرًا بين يدي المأمون عندما زفت إليه. وفي سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وإن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافًا إلى تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر، فاشمأزت النفوس منه، وكاد البلد يفتتن، ولم يلتئم له من ذلك ما أراد، فكفذ عنه إلى سنة ثماني عشرة. وفي سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم، ففتح حصن قرة عنوة، وحصن ماجدة، ثم صار إلى دمشق، ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم وافتتح عدة حصون، ثم عاد إلى دمشق، ثم توجه إلى مصر ودخلها؛ فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسيين، ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق والروم. وفي سنة ثماني عشرة امتحن الناس بالقول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتابًا يقول فيه: وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن؛ فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: 3] فكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1] وقال: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَق﴾ [طه: 99] فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وقال: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت﴾ [هود: 1] والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه، ثم انتسبوا إلى السنة، وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر؛ فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السّمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم، إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظًّا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به من عمى عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبالتوحيد، وكان عمّا سوى ذلك أعمى وأضل سبيلًا، ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، وتخرّص الباطل، ولم يعرف الله حق معرفته، فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي، ولا واثق بمن لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. وكتب المأمون إليه أيضًا في أشخاص سبعة أنفس -وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي- فأشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه، فردهم من الرقة إلى بغداد، وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولًا ثم أجابوه تقيّةً. وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة، وامتنع آخرون؛ فكتب يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفًا من السيف. ثم كتب المأمون كتابًا آخر من جنس الأول إلى إسحاق، وأمره بإحضار من امتنع، فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل، وبشر بن وليد الكندي، وأبو حسان الزيادي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيد الله بن عمرو القواريري، وعلي بن الجعد، وسجادة، والذيال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد، وسعدويه الواسطي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرس، وابن علية الأكبر، ومحمد بن نوح العجلي، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم، وعرض عليهم كتاب المأمون فعرّضوا ووروا ولم يجيبوا ولم ينكروا، فقال لبشر بن الوليد: ما تقول؟ قال: قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة، قال: والآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب، قال: أقول: كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه، ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا أطعنا، وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك، ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟ قال: كلام الله، قال أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، لا أزيد على هذا، ثم امتحن الباقين وكتب بجواباتهم، وقال ابن البكاء الأكبر: أقول: القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: والمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال لا أقول مخلوق، ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون، فورد عليه كتاب المأمون: بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة وملتمسوا الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية، ويقول في الكتاب: فأمّا ما قال بشر فقد كذب، لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، فإن تاب فأشهر أمره، وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده فاضرب عنقه، وابعث إلينا برأسه، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه فإن أجاب وإلا فاضرب عنقه، وأما علي بن أبي مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم؟ وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله، وأما أحمد بن يزيد العوام وقوله: إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله، لا في سنه، جاهل يحسن الجواب إذا أدب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، وأما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير الؤمنين قد عرف فحوى مقالته، واستدل على جهله وأفنه بها، وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخفَ على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، يعني في ولاية القضاء، وأما الزياد فأعلمه أنه كانت منتحلًا ولاء أوّل دعيّ، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه، وذكر أنه إنما قيل له: الزيادي، لأمر من الأمور. قال: وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة متجره، وأما ابن نوح والمعروف بأبي معمر وابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف عن التوحيد، وإن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركًا وصاروا للنصارى شبهًا؟ وأما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام، وأما سعدويه الواسطي فقل له قبح الله رجلًا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة وأما المعروف بسجادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى وحكّه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد، وأما القواريري ففيما تكشّف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وأما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف، وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم، وقد كان أمير المؤمنين وجّه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها، وتلجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيمًا عليه فأشهر ذلك وأظهره، ومن لم يرجع عن شركه -ممن سميت بعد بشر وابن المهدي- فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف. قال: فأجابوا كلهم عند ذلك، إلا أحمد بن حنبل، وسجادة، ومحمد بن نوح، والقواريري، فأمر بهم إسحاق فقيدوا، ثم سألهم من الغد -وهم في القيود- فأجاب سجادة، ثم عاودهم ثالثًا فأجاب القواريري، ووجّه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم. ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم إليه، فحملوا إليه، فبلغتهم وطأة المأمون قبل وصولهم، إليه، ولطف الله بهم، وفرج عنهم. وأما المأمون فمرض بالروم، فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن أنه لا يدركه، فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها: من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده، بهذا النص، فقيل: إن ذلك وقع بأمر المأمون، وقيل: بل كتبوا ذلك وقت غشيٍ أصابه. ومات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة بالبذندون من أقصى الروم، ونقل إلى طرسوس، فدفن بها. قال المسعودي: كان نزل على عين البذندون، فأعبجه بردُ مائها وصفاؤها وطيبُ حسن الموضع، وكثرة الخضرة، فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة، فأعجبته، فلم يقدر أحد أن يسبح في العين لشدة بردها، فجعل لمن يخرجها سيفًا، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها، فقال المأمون: تلقى الساعة، فأخذته رعدة، فغطي باللحف -وهو يرتعد ويصيح- فأوقدت حوله نار، فأتى بالسمكة، فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق المأمون من غمرته، فسأل عن تفسير المكان بالعربي؟ فقيل: مد رجليك، فتطير به، ثم سأل عن اسم البقعة، فقيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة، فكان يتجنب نزول الرقة فرقًا من الموت لما سمع هذا من الروم عرف وأيس، وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأ*****مون أو عن ملكه المأسوس خلّفوه بعرصتي طرطوس*****مثل ما خلّفوا أباه بطوس قال الثعالبي: لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبرًا من الرشيد والمأمون. قال: وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد، ولم يرَ الناس مثلهم: فقبر عبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية. " تاريخ الخلفاء" للسيوطي.