البحث

عبارات مقترحة:

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

تمييز النقلة

قال علي بن المديني: " التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم ". ومعرفة الرجال تبدأ بهذه الخطوة، وهي (تمييز الراوي)، فالبحث فيه يمثل (المرحلة الأولى) من البحث في الأسانيد، وذلك مقدمة لتمييز درجة الحديث من جهة صحته أو إعلاله. وغاية البحث هنا هي: التحقق من أعيان النقلة، فإن الإسناد سلسة من الرواة، هذا مذكور باسمه، وآخر بكنيته، وثالث بنسبه، ورابع بلقبه، وهكذا، فالوقوف على تعيين المراد بكل يحتاج إلى تأصيل يقي من الوقوع في الغلط في هذا الباب، فإن المطلوب في كل راوٍ أن تعرف منزلته من جهة العدالة والأهلية للرواية أو عدم ذلك، ولا سبيل إلى الوقوف على حقيقة أمره إلا بتمييز شخصيته. وهناك طريقان يستعان بهما للوصول إلى تمييز الراوي: الطريق الأول: تتبع مواضع رواية ذلك الحديث في كتب الحديث المختلفة. وهذا ما صار معروفاً بـ (تخريج الحديث)، فإنه يكشف عن حقيقة كثير من الأسماء المهملة من العلامة المميزة. فإسناد يخرج في " الصحيح البخاري " مثلاً يأتي فيه: (فلان عن سفيان عن فلان) تجده في موضع آخر أحياناً في نفس (الصحيح) حيث يأتي الحديث مكرراً، أو عند مسلم في (صحيحه) أو غيره من أصحاب المصنفات في الحديث، فيه (فلان عن سفيان الثوري عن فلان) فتكون زيادة (الثوري) استفيدت من البحث عن موضوع الحديث في محل آخر، فرفع الإشكال عن (سفيان) فإنه ربما احتمل قبل هذا الكشف أن يكون (سفيان بن عيينة)، أو غيره بالنسبة للمبتدئ، وأما أن يكون الثوري أو ابن عيينة فقد يغلط فيه العالم أحياناً، وذلك فيما وقع فيه الاشتراك من الشيوخ والتلاميذ بين السفيانين، مع تعسر وجود قرينة مساعد للتحقق. وتتبع ورود الحديث في المواضع المختلفة مطلوب لازم لكشف علة الحديث كذلك كما ستعلمه في (الباب الثاني) من هذا القسم. والطريق الثاني: البحث عن الراوي باستعمال العلامة المذكورة في الإسناد، في كتب تراجم الرجال. وههنا جدير أن تعلم أن الكتب المصنَّفة في رجال الحديث لم يجري مصنِّفوها على منهج مطرد ثابت، والوقوف على حقيقة الراوي فيها يتفاوت سهولة وصعوبة بحسب ما صنِّفت عليه تلك الكتب. فما روعي فيه الترتيب المعجمي للأسماء فهو أسهلها، وهو موجود في كثير من المصنَّفات الجوامع في هذا الباب، أبرزه في الكتب المتقدمين: 1 _ " التاريخ الكبير" للإمام البخاري صاحب "الصحيح " (المتوفى سنة: 256) وفيه (13782) ترجمة. 2 _ " الجرح والتعديل" للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (المتوفى سنة: 327) وفيه (18040) ترجمة. والقاعدة في الكتابين: احتواء أسماء من نقل عنه شيء من الخبر، حديثاًً مرفوعاً كان أو أثراً عن صحابي أو تابعي، وذلك إلى زمان مؤلفيهما، من غير اقتصارٍ على رواة كتاب معين، أو بلد معين، فلذا لم يقاربهما كتاب في الشمول والاستيعاب في جملة كتب التراجم التي وصلت إلينا، وما تلاحظه من زيادة التراجم في كتاب ابن أبي حاتم إنما سببه أنه عاش بعد البخاري زماناً فاستوعب رجالاً لم يذكرهم البخاري، أحياناً بفوات عليه، وغالباً لدخولهم في جملة النَّقلة بعد تصنيف البخاري، من أقرانه أو ممن جاءوا بعد موته. ويلحق بهما في الشمول والاستيعاب للرواة كتابا الإمام أبي حاتم ابن حبان البستيِّ (المتوفى سنة: 354): " الثقات " و " المرجوحين " فيندر أن يفوته رجل ذكره البخاري، وقلما يفوته رجل ذكره ابن أبي حاتم، وأحسب أن ما وقع له من الفوات مما له ذكر في كتاب ابن أبي حاتم فبسبب أنه التزم شرطاً في الثقات في ذكرهم على الطبقات. والمقصود هنا أن تعلم أن من طرق الكشف عن حقيقة الراوي أن تأخذ ما ذكر به من علامة في الإسناد وترجع للبحث عنه في كتاب البخاري أو ابن أبي حاتم من كتب المتقدمين. وأما في كتاب المتأخرين فإنك تجدها أيسر للوقوف على المقصود منها، وذلك كما لا يخفى؛ لما جرت عليه من التقريب والتبسيط، إلا أن العيب ههنا أنك لا تجد لهم كتاباً جامعاً لكل من روي عنه العلم، وإنما قصرت تأليفاتهم الجوامع في الرجال على تراجم رجال كتاب أو كتب مخصوصة، وأكبر ما وقعت منهم العناية به: رجال الكتب الأمهات الست، وإذا قصدت الحقيقة فاعلم أن أكثر من تدور عليهم الأحاديث والآثار من الرواة لهم أحاديث مخرجة في هذه الكتب، لذا فإنك إذا بحثت عن راوٍِ في إسناد حديث يرويه الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده "، فإنك ستجده غالباً في كتب رجال الأمهات الست، ويندر جداً أن لا يكون فيها. فإذا ظهر فاعلم أنه لم يصنف في هذا الباب على هذا المعنى كتاب أفضل من " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " للإمام الحافظ أبي الحجاج المزِّي (المتوفى سنة: 742)، وليت جميع تراجم الرجال تستوعب على نفس منهاجه، وهو قد حوى من التراجم ثمانية آلاف ترجمة. وتتبعه في ذلك فروعه التي استفيدت منه وبنيت عليه، وأفضلها " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة: 852). فهذه المراجع الثلاثة في الرجال كتاب البخاري وابن أبي حاتم والمزي، جميعها رتب على الحروف المعجم، والبحث عن الراوي فيها أيسر من غيرها مما لم يؤلف على منهاجها. على أنه ينبغي لك أن تعلم بعض الاصطلاحات الخاصة في هذه الكتب، فإنها مع ترتيبها على الحروف المعجم، لكن الأسماء في الحرف الواحد لم يلتزم البخاري وابن أبي حاتم ترتيبها، والتزمه المزي ومن فرع على كتابه، سوى في تقديم من اسمه (أحمد) في حرف الهمزة، ومن اسمه (محمد) في حرف الميم، ومن اسمه (عبد الله) في العبادلة، وصورة نادرة أخرى؛ وهي فصل الراوي المتفق في رسمه وحروفه المختلف في ضبطه وشكله عما وافقه في الرسم، مما يسبب الغلط للمبتدي، كما ترى مثاله في " تهذيب الكمال " بـ (عقيل بن خالد) بضم العين، فإنه فصل عمن اسمه (عقيل) بفتح العين، وجاء بعد الفراغ منه. ومثل هذه التنبيهات لا نأتي على استقصائها، إنما ينبغي للطالب أن ينتبه إلى مثلها، كما عليه أن يلاحظ منهج كل صاحب تصنيف قبل أن يتقحَّم الأخذ عنه البحث عن الراوي في غير المراجع المتقدمة: أما البحث عن الراوي في غيرها مما صنف عشوائياً في الرجال، أو بطريقة تحتاج إلى خبرة سابقة بمنهج مؤلفيها؛ ممكن، إما باستقرائها من أولها إلى منتهاها، وإما بالخبرة بطريقة مؤلفها وإدراك كونها مظنةً لوجود مثل هذا الراوي أو ذاك فيها، وإما بالاستعانة بالفهارس المعجمية التي تلحق بها من قبل محققيها، أو فهارس لها مستقلة عنها، لكني أنبهك إلى خطورة أن تجزم بنفي مجرد أنك لم تقف على ذكر للراوي في الفهرس إلا أن تكون على ثقة تامة بعلم ومعرفة من صنعه، فإنك اليوم ترى كثيراً من الفهارس لكتب رجال الحديث ولأطراف الأحاديث لم يصنعها ذوو خبرة، يقع لهم فيها من الغلط شيء كثير، ومن الفوات أكثر. المقصود: أنه لما كان هذا الباب من العلم شديداً خطيراً لما ينبني عليه من تثبيت دين؛ فإن الباحث لا يستغني بواحد من الطريقين عن الآخر، فربما خرج الحديث، ووجد تقييد (سفيان) بـ (الثوري) في رواية أخرى، لكن حيث يشترك السفيانان في كثير من الروايات فهو محتاج إلى أن يتبين أن التفسير الذي جاء في الموضع الآخر للحديث يقين في أن (سفيان) هو (الثوري) في الموضع الأول، وليست مشاركة وقعت من الثوري لا بن عيينة، وكذلك لو استعمل طريق البحث الثاني دون الأول، فإن ما يرد عليه أكثر مما يرد على الطريق الأول. إذا؛ الوقوف على النتيجة المبدئية باستعمال واحد من الطريقين لا يكفي للتحقق إلى درجة اليقين، فحيث كان مطلوباً؛ فإنه يلزم لتحقيقه استعمال الطريقين. نعم؛ الحافظ والمحدث تحصل له ملكة خاصة يميز بها الرواة، ربما أغنته عن تتبع ما أشرحه في هذا الفصل، لكني أظن أنه ربما احتاج لمعرفة بعضه، خصوصاً في هذا الزمان المتأخر، وإنما هي بمنزلة التبصرة للطالب المبتدي والتذكرة للعارف المنتهي. "تحرير علوم الحديث" للجديع.