البحث

عبارات مقترحة:

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

الحفي

كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...

التعليل بالاختلاف

‌ ‌ معنى الاختلاف على الراوي: قال أبو داود السجستاني: " أسند الزهري أكثر من ألف حديث عن الثقات، وحديث الزهري كله ألفا حديث ومئتا حديث، النصف منها مسند،. . . وأما ما اختلفوا عليه؛ فلا يكون خمسين حديثاً، والاختلاف عندنا ما تفرد قوم على شيء وقوم على شيء ". قلت: هذا يبين معنى الاختلاف على الراوي عند أئمة هذا الشأن، فالزهري حافظ كثير الحديث، وأصحابه الذين رووا عنه الحديث خلق كثير، وهم درجات في حفظهم، والثقات المتقنون عنه كمالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي وعقيل بن خالد وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد وشعيب بن أبي حمزة، وغيرهم، ربما اختلفوا عنه في الرواية، وصلاً وإرسالاً، أو رفعاً ووفقاً، أو على إسنادين مختلفين، أو غير ذلك. وقبل ذكر صور الاختلاف على الراوي، يجب أن تعلم أنه ليس كل اختلاف في الرواية يكون قادحاً مؤثراً في صحتها، وإنما الاختلاف بهذا الاعتبار قسمان: ‌ ‌ القسم الأول: اختلاف غير قادح. ولهذا صور، منها: الصورة الأولى: أن تتكافأ الطرق قوة عن راو ثقة، يروي حديثاً، فيقول فيه مرة: (عن فلان)، ومرة: (عن رجل آخر)، لا على سبيل الشك، وإنما افتراق الوجهان بافتراق طرق كل عن ذلك الثقة. مثل أن يروي بعض أصحاب سهيل بن أبي صالح حديثاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وغيرهم عنه عن أبيه عن أبي سعيد. فهذا لا يخلو من واحد من احتمالين: أولهما: أن يكون صوابه من أحد الوجهين، فيكون أخطأ فيه ذلك الثقة، وقد يترجح الصواب بعينه بقرينة، فيصار إليه، وقد لا يترجح شيء، فتقبل الرواية أيضاً؛ لأنه غاية أمرها أن تكون محفوظة بأحد الإسنادين. وثانيهما: أن يكون محفوظاً من الوجهين جميعاً. وهذا طريق لا يصار إليه إلا إذا كان ذلك الثقة ممن لا يعاب من مثله تعدد الأسانيد، من مثل الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، ومنصور بن المعتمر، وشبههم. وطائفة من المتأخرين يصيرون إلى ترجيح الاحتمال الثاني، بعضهم يقول: " ذلك أولى من تخطئة الثقة "، وبعضهم يجعله منه من أجل ثقته قوة للحديث أن حفظه من وجهين. كما قال ابن حزم في مثل هذا: " هذا قوة للحديث وزيادة في د لائل صحته ". فقال مثلاً في المثال المذكور: " في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة، ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا، ومرة عن هذا ". والتحقيق: أنه لا يكون علة قادحة؛ من أجل أن كلا الاحتمالين لا يمنع القول بثبوت الحديث. ومن أمثلة ما يقوى فيه ترجيح الاحتمال الثاني: حديث رسول الله : " اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ". رواه أبو رجاء العطاردي، فاختلف عنه، فرواه عوف بن أبي جميلة وسلم بن زرير وقتادة وأيوب السختياني من طريق صحيح عن أبي رجاء عن عمران بن حصين. ورواه أيوب السختياني في أكثر الطرق عنه وأبو الأشهب جعفر بن حيان وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن ابن عباس. وأخرج الحديث الشيخان: البخاري من حديث عمران بن حصين، ومسلم من حديث ابن عباس. وقال الترمذي: " كلا الإسنادين ليس فيهما مقال، ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعاً ". ورواه أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا أبو الأشهب، وجرير بن حازم، وسلم بن زرير، وحماد بن نجيح، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، وابن عباس، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله ، به. قلت: وهذا _ فيما أرى _ من صنيع أبي داود أشبه، حمل رواية بعضهم على بعض، وهو مرجح لما ذهب إليه الترمذي. الصورة الثانية: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثاً بإسناد معين، وينفرد ثقة متقن عنهم، فيرويه عن ذلك الثقة بإسناد آخر للحديث. مثاله: ما رواه عامة أصحاب الأعمش عنه، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي في سؤال اليهود إياه عن الروح، ونزول قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن الروح﴾. كذلك قال في إسناده عن الأعمش: وكيع بن الجراح، وأبو معاوية الضرير، وحفص بن غياث، وعيسى بن يونس، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم وهؤلاء من الحفاظ الأثبات من أصحاب الأعمش. خالفهم عبد الله بن إدريس الأودي، فقال: عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود، به. وابن إدريس ثقة حافظ لا يختلف فيه. وهذه الرواية تختلف عن الأولى، لكنها لا تناقضها، ويخاف من مثلها من راو صد وق لم يعرف بمتانة الحفظ، أو كان ثقة قليل الحديث، فلا يحتمل أن يأتي بمثل هذه المخالفة؛ لعدم تبين إتقانه لمثلها لقلة ما جاء به، بل ربما كان مجيء مثل هذه الرواية عنه دليلاً على لينه. أما من ثبت كونه من الثقات المتقنين المكثرين، فالأصل: أن نقبل ما روى حتى يقوم دليل على خطئه، وليس مما يدل على خطئه أن يستقل دون الجماعة بما لا يروونه، وإنما يروي ما يناقض رواية الجماعة، ولا يكون له مخرج سوى الحكم بخطئه أو بخطأ الجماعة، وحيث امتنع الثاني، فقد تعين الأول، وهو (الشذوذ) كما سيأتي. والدارقطني متشدد، وقد يعل رواية الثقة بمجرد المخالفة وإن لم تكن مناقضة لرواية من هو أولى منه، ولكنه قال في هذا الحديث وقد ذكر مخالفة ابن إدريس للجماعة: " ولعلهما صحيحان، وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابع على هذا القول ". وهكذا دل صنيع مسلم حيث أخرج الحديث بالروايتين، وقال ابن حبان عقب إخراجه الحديث من رواية ابن إدريس التي تفرد بها: " ذكر البيان بأن الأعمش لم يكن بالمنفرد في سماع هذا الخبر من عبد الله بن مرة دون غيره " وساق روايته عن إبراهيم كما رواها عنه الجماعة، فأفاد تصحيح الخبر من الطريقين. بل في سياق رواية مسلم ما يشعر بوقوع الحديث لابن إدريس من الوجهين، حيث قال: " سمعت الأعمش يرويه عن عبد الله بن مرة " وذكر إسناده، فكأنه يقول: هذا الحديث الذي رواه الأعمش عن إبراهيم سمعته كذلك يرويه عن عبد الله بن مرة. وكذلك وجدته رواه عبد الله بن محمد الكرماني، وهو ثقة، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. وهذه كرواية الجماعة، دلت على وقوع الحديث لابن إدريس من الوجهين، والأعمش حافظ مكثر لا ينكر له حفظ الحديث من الوجهين. الصورة الثالثة: أن يروي الحديث ثقتان، يختلفان في راو في الإسناد، يسميه أحدهما ويبهمه الآخر. فهذا في التحقيق اختلاف غير مؤثر، إذ لا تضاد فيه، وإنما يؤثر الاختلاف الموجب للترجيح، أو التوقف، وأما في هذه الصورة فرواية من سمى قضت على رواية من أبهم، إذ الذي سمى قد حفظ علماً قصر عنه من أبهم. ‌ ‌ القسم الثاني: اختلاف قادح. وله صور أيضاً: الصورة الأولى: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثاً بإسناد معين، وينفرد واحد دونهم في الحفظ، فيرويه عن ذلك الثقة بإسناد آخر للحديث. مثاله: ما رواه ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، في كفارة المواقع امرأته في نهار رمضان. هكذا رواه الثقات المتقنون من أصحاب الزهري: مالك بن أنس، ومعمر بن راشد، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد الأيلي، وعقيل بن خالد، وابن جريح، وإبراهيم بن سعد، ومنصور بن المعتمر، والأوزاعي، والليث بن سعد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعراك بن مالك، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، ومحمد بن أبي حفصة، وغيرهم. وخالفهم في إسناده: هشام بن سعد، فقال: عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وهشام ثقة في الجملة، لكن لمجيئه بمثل هذه الرواية عن الزهري ضعف فيه خاصة؛ ولذا: قال البخاري: " قال هشام بن سعد: عن الزهري، عن أبي سلمة، ولم يصح: أبو سلمة ". وقال ابن خزيمة: " هذا الإسناد وهم، الخبر عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، هو الصحيح، لا عن أبي سلمة ". وقال العقيلي: " المحفوظ حديث حميد ". وقال ابن عدي في رواية هشام: " خطأ ". وقال الخليلي: " هذا أنكره الحفاظ قاطبة من حديث الزهري عن أبي سلمة؛ لأن أصحاب الزهري كلهم اتفقوا عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخي أبي سلمة، وليس هو من حديث أبي سلمة، ومنهم من رواه عن هشام عن الزهري مقطوعاً عن أبي هريرة، رواه هكذا وكيع، قال أبو زرعة الرازي: أراد وكيع، رحمه الله، الستر على هشام، فأسقط أبا سلمة ". قلت: ولو كان من حفاظ أصحاب الزهري لاحتملنا له ما احتملناه لابن إدريس عن الأعمش. ‌ ‌ الصورة الثانية: الاضطراب. وذلك: بأن يختلف الجماعة من الثقات , ولا يقوم مع اختلافهم مرجح يصير إلى الحكم برواية على أخرى؛ لاستواء الثقات درجة واحدة. مثاله: ما نقله أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد بن محمد بن حنبل يقول: " اختلف شعبة وسعيد وهشام في حديث أنس: (كان أصحاب النبي تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون)، في اللفظ، وكلهم ثقات ". وساق أبو داود ألفاظهم، فلفظ شعبة عن قتادة عن أنس: (ينامون، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون على عهد النبي ) , ولفظ سعيد بن أبي عروبة عنه: (يضعون جنوبهم، فينامون من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ)، ولفظ هشام الدستوائي عنه: (ينتظرون العشاء الآخر حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون). قلت: فأعل أحمد بالاختلاف ولم يرجح، لثقة الرواة وتقارب درجاتهم في الحفظ. وهذه صورة (المضطرب)، وهو قادح. الصورة الثالثة: أن يروي الثقتان حديثاً يتفقان فيه سنداً ومتناً، إلاًّ في لفظة، يرويها أحدهما على ضد ما يرويها الآخر. مثل: رواية عبد الله بن نمير، وهو من الثقات، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي في قصة المسيء صلاته: " ثم اسْجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ". فذكر في القصة الجلوس بعد السجدة الثانية، وهذه الجلسة هي التي تسمى ب (جلسة الاستراحة). خالفه أبو أسامة حماد بن أسامة، وقد رواه عن عبيد الله بن عمر، فقال في لفظه: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ". فأسقط ذكر الجلسة من روايته، وبلفظ مخالف لإثباتها. ورجح البيهقي روايته على رواية ابن نمير؛ لأنه أثبت في الجملة منه. لكن وجدنا من القرائن ما بين الخطأ في رواية أبي أسامة، وذلك أن الرواية عنه قد اختلفت، فرواه عنه إسحاق بن منصور وهو ثقة حافظ بترك الجلسة، ورواه إسحاق بن راهويه موافقة لرواية ابن نمير، ولا سبيل إلى الطعن على من دون أبي أسامة، فلم يبق إلا الوهم عليه، كما وجدنا الترجيح لذلك بغير ذلك من القرائن. "تحرير علوم الحديث" للجديع.