الهجرة لم تكن هروبا من الواقع

عناصر الخطبة

  1. الحياة جُبلت على الكدر
  2. دروس الهجرة النبوية
  3. الهجرة لم تكن هروبًا
  4. تحقيق كلمة التوحيد سبب العزة
  5. هجرة المعاصي والذنوب
اقتباس

إن الهجرة لم تكن سياحةً في الأرض، ولا هروبًا من الواقع، ولا رغبةَ في السلامة، أو استكشافًا لعالمٍ جديد، فالهروب من الواقع في مثل هذا الحدث أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ..

الحمد لله الذي منّ علينا بالإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلنا من الراشدين. ونشهد أن لا إله إلا الله يحب التائب ويقبل الآيب، وليس لديه بواب ولا حاجب، إذا قال العبد: يا رب قد أذنبت، قال الله له: يا عبدي: وأنا قد سترت، فإذا قال العبد: يا رب: قد ندمت وتبت، قال الله تعالى: يا عبدي: وأنا قد قبلت، من ذا الذي جاء إلى بابنا فطردناه؟! من ذا الذي مدّ إلينا يده فما أجبناه؟! من ذا الذي سألنا فما أعطيناه؟! 

ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسول الله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الغُر الميامين، والقادة المظفرين، أعلام الهدى وأُسد الوغى، ومنارات التقى، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: مع كثرة المشاكل وتنوع الابتلاءات التي تصيب الإنسان في حياته وحجم التكاليف والأعباء التي ينبغي أن يؤديها ويقوم بها، فإنه وفي حالة ضعف قد لا يستطيع أن يصمد أو يواجه كل هذه التحديات فيهرب من واقعه وحياته إلى واقع آخر يصنعه بنفسه يوافق هواه ويستجيب لرغباته، والإنسان خلقه الله وجعل من سننه في هذه الحياة أن يبتليه بشتى أنواع الابتلاءات ليرفع من مكانته ويزيد في أجره، ليستحق أن يكون خليفة الله في أرضه، ووارثًا لنعيم الله في جنته، وأمره -سبحانه وتعالى- بالصبر والثبات ومواجهة نوائب الدهر وعقبات الزمان بالإيمان والأمل؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22]، وقال سبحانه: (ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

هذه الحياة جُبلت على كدر لم يسلم منها الأنبياء قدوة الخلق -عليهم صلوات الله وسلامه-، ولم يسلم منها عباد الله المقربون، وهم مع ذلك لم يضعفوا ولم يستكينوا ولم يهربوا من واقع الحياة ومتطلباتها وواجباتهم ومسؤولياتهم، فكان لهم النصر والتمكين وتهيئة الأسباب والمكانة العالية والمقام الرفيع؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف: 35].

وفي ذكر الهجرة النبوية وفي بداية عام هجري جديد يأخذ المسلم الدروس من هذا الحدث التاريخي العظيم، وإنها لذكرى الاعتبار والاتعاظ، ووقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة، ودرسًا من دروس معلم البشرية ومحطم الوثنية -صلى الله عليه وسلم-، لماذا؟! لأنها هجرةٌ نفثت في الأرواح والأجساد والأوطان الحياة بما تحمله من معانٍ وقيم، فالإنسان لا يكون حيًّا وإن أكل وشرب وتنفس إلا بالإيمان؛ قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:122].

إن الهجرة لم تكن سياحةً في الأرض، ولا هروبًا من الواقع، ولا رغبةَ في السلامة، أو استكشافًا لعالمٍ جديد، فالهروب من الواقع في مثل هذا الحدث أن يرضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما عرضت عليه قريش من الملك والمكانة والمنصب والمال، ويترك دينه ودعوته.

والهروب من الواقع أن يستسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للضغوطات، ويؤثروا السلامة لأنفسهم وأهليهم بترك هذا الدين.

والهروب من الواقع أن تخرج من بلادك تبحث عن مكان تخلد فيه للراحة وتعتزل الناس، فتموت أفكارك وقيمك وأهدافك وترضخ للواقع، كلاَّ، لم يكن ذلك من أهداف هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل كانتْ خيارًا لا مفرّ منه، وحلاً أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت، وتغيَّرَ عليهم الناسُ، وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر، وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً وإرهابًا وتطرفًا، عندها كان لابد من الهجرة للحفاظ على الدين وتبليغ الرسالة وبناء الأمة لمواجهة الباطل وتحدياته من جديد، فكانت حدثًا غيّر مجرى التاريخ، حمل في طياته معاني القيم العظيمة والحب الخالد للدين والشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، جعله الله سبحانه طريقًا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسًا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.

عباد الله: إنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ بأسرهِ هي عمارةُ الأرضِ بالتوحيدِ والإيمان، وإقامةُ حكمُ اللهِ وشرعهِ في عظائمِ الأُمورِ وصغارها، ومتى ما تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما، أو في وظيفة ما، أو في منصبٍ ما، أو في مدينة ما، أو مع شلة وأصحاب وكبراء يركنُ إليهم ويخافهم، فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها من أرض أو وظيفة أو منصب مهما كان الثمن، ومهما كانتِ التضحيات، والله -عز وجل- يقول محذرًا أن يضعف الإنسان وأن يهرب من واقع الحياة دون بذل أو عطاء أو مساهمة أو إيجابية تبرهن استحقاقه وشرف الانتساب لهذا الدين، والحق والخير الذي أمر به، أما أن يبيع دينه وقيمه ومبادئه بحجة الضعف والخنوع والاستسلام للظروف، فهذا مما لا يرضاه الله القائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء:97].

لقد أراد الصحابي الجليل صهيب الرومي الهجرة إلى المدينة، وهو التاجر صاحب المال الوفير، فواقعه الذي يعيش فيه أنه في مأمن على نفسه وماله، وإن كان يكتم إيمانه ففي ذلك خير، لكن عندما يكون هناك تمايز بين الحق والباطل والخير والشر والمصلحة والمفسدة كانت الهجرة استجابة لأمر الله ورسوله، وتقوية للصف والمساهمة في البناء، ولو كان في ذلك خسارة للمكانة والشرف والمال فيما يبدو للناس، وإلا فإن ما عند الله خير وأبقى، لقد تبعته قريش وقالوا: والله لا ندعك تلحق بصاحبك، لقد أتيتنا صعلوكًا لا مال لديك، والآن تريد أن تهاجر، والله لن ندعك، فقال: يا معشر قريش: أرأيتم إن أخبرتكم أين مالي أتخلون سبيلي؟! قالوا: نعم، فدلهم على ماله وهاجر بدينه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه سلم عليه وقال له: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى"، وأنزل الله قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:207].

أيها المؤمنون، عباد الله: لقد هرب كثير من الناس من واقع الحياة وظروفها، فهذا تخلى عن واجباته الأسرية تجاه أولاده وأهله، وآخر هرب من واقعه وتنازل عن أخلاقه تماشيًا ومسايرة للواقع، وآخر هرب من واقعه ودفن رأسه في الرمال يرى واقع أمته ومجتمعه في خطر محدق وفساد مستشرٍ، فلم ينصح أو يوجه أو يساهم أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، فآثر السلامة فيما يبدو له، لكن ذلك هو الضعف والذل والقصور في فهم الدين ونواميس الكون وسنن الحياة، أين هذا الإنسان وأمثاله من تلك النملة الصغيرة في الوادي المترامي الأطراف، وقد رأت جيش سليمان -عليه السلام- قد قرب من مجتمعها وبلادها وأهلها، فصاحت محذرة قومها وبني جنسها، محذرة إياهم من هذا الخطر؛ قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 18].

فأين الإيمان وأين هذه العقيدة السليمة التي تربي المسلم على القوة والعظمة والخيرية والبذل والعطاء؟! أين هذا الإيمان في قلوب المسلمين اليوم؟!

يجب أن يدرك المسلمون أن سبب عزتهم وقوتهم وثباتهم على الحق تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التاريخ يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتساهل في جانب الثوابت المعنوية مهما تقدمت الوسائل المادية، فقوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقًا في الثقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، هذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ينظر إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيجيبه -صلى الله عليه وسلم- جواب الواثق بنصر الله: "يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما". البخاري 3653.

بل لقد تبعتهم قريش بفرسانها، وأرصدت لمن يأتي بمحمد حيًّا أو ميتًا مائة ناقة، وهو في ذلك الوقت مال عظيم، ولقد صوّر الله مكرهم وحقدهم وتآمرهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]، وكان من بين هؤلاء الفرسان سراقة بن مالك المدلجي الذي كاد أن يمسك بهما، فلما رآه سيدنا أبي بكر قال: أُتينا -يا رسول الله- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن إن الله معنا"، فدعا -صلى الله عليه وسلم- على سراقة فساخت يدا فرسه في الرمل، فقال سراقة: إني أراكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية أن النبي -صلى عليه وسلم- قال لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواريْ كسرى وتاجه؟!"، فيعجب الرجل ويبهت ويقول: كسرى بن هرمز؟! فيقول: "نعم". وكأن سراقة يضحك ويقول في نفسه: هذا ضربٌ من الخيال، أهذا يستولي على إمبراطوريات الدنيا؟! أهذا يلغي ممالك العالم، وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه؟! أيمكن لهذا الرجل المطلوب حيًّا أو ميتًا أن يوزع كنوز الملوك وثرواتهم لمن يشاء، ويتصرف بها كيفما يشاء، وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه؟!

وبالفعل تمّ ذلك، ودكدك الظلم، وفتح فارس، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان، فلما غنم المسلمون كنوز كسرى أتى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها بين يدي عمر بن الخطاب، فأمر عمر بأن يأتوا له بسراقة، وقد كان وقتها شيخًا كبيرًا قد جاوز الثمانين من العمر، وقد مضى على وعد رسول الله له أكثر من خمس عشرة سنة، فألبسه سواري كسرى وتاجه، فقال له: ارفع يديك وقل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة الأعرابي. وأصل القصة في صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة 3419، كنز العمال 35752.

فما أحوجنا إلى إعادة الثقة بأنفسنا وقدراتنا وقيمنا ومبادئنا وديننا، فنحن أمة اختارها الله واصطفى منها رسولها، وتكفل بحفظ كتابها، وتعهد بنصرها وتمكينها.

اللهم ردنا إلى دينك ردًّا جميلاً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: ما أحوجنا اليومَ ونحنُ نستقبلُ عامًا جديدًا إلى فتحِ صفحةٍ بيضاء، نصطلحُ فيها مع اللهِ سبحانه الذي أمهلَنا كثيرًا، وصبرَ علينا طويلاً، ومنحنَا الفرصةَ تلوَ الفرصة، قال تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء:132-135]، وإنه لينبغي أن يهجر كل مسلم ما نهى الله عنه حتى يكون مهاجرًا إلى الله سبحانه، أخرج ابن ماجه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب"، فهل فكّرنا في هذه الهجرة التي لا تتطلب مالاً ولا سفرًا ولا تعرضًا لخطر، بل تتطلب عزمًا وحزمًا، وتتطلب صدقًا وإخلاصًا في التوجه إلى الله سبحانه وفي نصرة دينه وإقامة شرعه؟!

إننا مُطالَبون جميعًا بهجرةِ ما نهى اللهُ عنه إن كُنَّا نُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر ونُوقنُ بالجنةِ والنار، وهجرة ما نهى اللهُ عنه تُطالبُ بها الأمةُ كلُها من أعلى القمةِ إلى أسفلِ القاع؛ فالأمةُ كُلها تستقلُ سفينةً واحدة، فليسَ لأحدٍ أن يخرقَ في نصيبهِ خرقًا، فمتى خُرقت السفينةُ فإن الخطر الداهم والهلاك سيعم الجميع.

عباد الله: إن فهمنا لحدث الهجرة النبوية ودروسها ينبغي أن يطبق في واقع حياتنا ويظهر في سلوكياتنا من حب وتضحية لهذا الدين، واتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحبه والسير على نهجه والدفاع عن سنته وتقوية روابط الأخوة والحب والتراحم فيما بيننا، والتخطيط والتعليم والأخذ بالأسباب لبناء الحضارة وإعداد القوة لمواجهة الأعداء وحسن التربية لأولادنا وأهلينا، وربطهم بقيم هذا الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزرع الأمل في النفوس، والثقة بنصر الله، ولن يكون الهروب من الواقع والرضا بالدون والتنازل عن القيم فيه نجاة ولا سعادة ولا راحة، إنما يكون ذلك بتقوية الإيمان وإجادة العمل ونشر الخير ودفع الباطل ومواجهته، ومعرفة غاية الخلق وواجبنا في الحياة والتعلق بمعالي الأمور والبعد عن سفاسفها، والصبر واليقين حتى يأتي أمر الله، ولن يخلف الله وعده بالتمكين لعباده ونصرهم والدفاع عنهم، وما ذلك على الله بعزيز.

اللهُمَّ إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قُلوبنا، ويقينًا صادقًا، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ، في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مُضلة.

اللهُمَّ زينَّا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مُهتدين، لا ضالين ولا مُضلين، بالمعروفِ آمرين، وعن المُنكرِ ناهين يا ربَّ العالمين.

ألا وصلوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين وقائد الغُرِّ المُحجلين، وعلى آلهِ وصحابته أجمعين، وارض اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين.