القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه، ودنياه، ودفع ما يضره في دينه، ودنياه، مع الأخذ بالأسباب المشروعة . قال الله تعالى : ﱫﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﴾ ﴿ ﮂ ﮃﱪإبراهيم :12. قال الإمام أحمد : "جملة التوكل تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه، والثقة به ". شعب الإيمان للبيهقي، 2/57
اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه، ودنياه، ودفع ما يضره في دينه، ودنياه، مع الأخذ بالأسباب المشروعة.
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَكُّل فِي اللُّغَةِ: إِظْهَارُ الْعَجْزِ وَالاِعْتِمَادُ عَلَى الْغَيْرِ وَالتَّفْوِيضُ وَالاِسْتِسْلاَمُ، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْوَكَالَةُ. يُقَال: وَكَّل أَمْرَهُ إِلَى فُلاَنٍ أَيْ فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَوَثِقَ بِهِ، وَاتَّكَل عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ كَذَلِكَ. وَالتَّوَكُّل أَيْضًا قَبُول الْوَكَالَةِ، يُقَال وَكَّلْتُهُ تَوْكِيلاً فَتَوَكَّل. (1)
وَفِي الشَّرِيعَةِ يُطْلَقُ التَّوَكُّل عَلَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ وَالإِْيقَانِ بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ، وَاتِّبَاعٍ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي السَّعْيِ فِيمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ الأَْسْبَابِ. (2)
حُكْمُ التَّوَكُّل:
2 - التَّوَكُّل بِمَعْنَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ، وَالاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي كُل الأُْمُورِ وَاجِبٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَفِي سُنَّةِ الرَّسُول ﷺ:
قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (3) وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ بِالتَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ، وَقَال: تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} (4) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَال مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (5) .
3 - أَمَّا التَّوَكُّل بِمَعْنَى جَعْل الْغَيْرِ وَكِيلاً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِي شُؤُونِهِ فِيمَا يَقْبَل النِّيَابَةَ، فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْتِي بَحْثُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَةٌ) .
4 - وَأَمَّا التَّوَكُّل بِمَعْنَى: الاِعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي كُل الأُْمُورِ: فَهُوَ مِنْ أَعْمَال الْقَلْبِ كَالإِْيمَانِ، وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالتَّفَكُّرِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الرَّذَائِل الْبَاطِنَةِ كَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالرِّيَاءِ فِي الْعَمَل، لاَ يَدْخُل فِي مَبَاحِثِ الْفِقْهِ. وَمَوْطِنُهُ الأَْصْلِيُّ: كُتُبُ التَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الأَْخْلاَقِ. (6)
التَّوَكُّل لاَ يَتَنَافَى مَعَ الأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ:
5 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ لاَ يَتَنَافَى مَعَ السَّعْيِ وَالأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَتَحَرُّزٍ مِنَ الأَْعْدَاءِ وَإِعْدَادِ الأَْسْلِحَةِ، وَاسْتِعْمَال مَا تَقْتَضِيهِ سُنَّةُ اللَّهِ الْمُعْتَادَةُ، مَعَ الاِعْتِقَادِ أَنَّ الأَْسْبَابَ وَحْدَهَا لاَ تَجْلُبُ نَفْعًا، وَلاَ تَدْفَعُ ضَرًّا، بَل السَّبَبُ (الْعِلاَجُ) وَالْمُسَبَّبُ (الشِّفَاءُ) فِعْل اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُل مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ، وَقَال سَهْلٌ: مَنْ قَال: التَّوَكُّل يَكُونُ بِتَرْكِ الْعَمَل، فَقَدْ طَعَنَ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ. (7)
وَقَال الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (8) دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّوَكُّل أَنْ يُهْمِل الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْجُهَّال وَإِلاَّ كَانَ الأَْمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ مُنَافِيًا لِلأَْمْرِ بِالتَّوَكُّل. بَل التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ: أَنْ يُرَاعِيَ الإِْنْسَانُ الأَْسْبَابَ الظَّاهِرَةَ وَلَكِنْ لاَ يُعَوِّل بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا، بَل يُعَوِّل عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. (9)
وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّل الصَّحِيحَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ. وَبِدُونِهِ تَكُونُ دَعْوَى التَّوَكُّل جَهْلاً بِالشَّرْعِ وَفَسَادًا فِي الْعَقْل.
وَقِيل لأَِحْمَد: مَا تَقُول فِيمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَمَسْجِدِهِ وَقَال لاَ أَعْمَل شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ رِزْقِي. فَقَال أَحْمَدُ: هَذَا رَجُلٌ جَهِل الْعِلْمَ، أَمَا سَمِعَ قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: جُعِل رِزْقِي تَحْتَ ظِل رُمْحِي (10) . وَقَال عُمَرُ ﵁: لاَ يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُول اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لاَ تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً. (11) وَقَدْ تَوَاتَرَ الأَْمْرُ بِالأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ فِي الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُول ﷺ.
أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ نَاقَتَهُ وَقَال: أَأَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّل، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّل؟ فَقَال ﷺ: اعْقِلْهَا، وَتَوَكَّل (12) .
وَقَال ﷺ: لأََنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ (13) .
وَقَال تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} (14) وَالْغَنِيمَةُ اكْتِسَابٌ، وَقَال تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ} (15) وَالضَّرْبُ عَمَلٌ، وَقَال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (16) وَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (17) ، وَقَال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} (18) .
وَأَمَرَ الرَّسُول ﷺ بِالتَّدَاوِي: وَقَال تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ الشِّفَاءَ (19) .
وَقَال شَارِحُ ثُلاَثِيَّاتِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: وَصَفَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: بِالْعُبُودِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل: أَيْ تَدَاوَوْا وَلاَ تَعْتَمِدُوا فِي الشِّفَاءِ عَلَى التَّدَاوِي. بَل كُونُوا مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالتَّدَاوِي لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل، كَمَا لاَ يُنَافِيهِ رَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَتَجَنُّبُ الْمُهْلِكَاتِ، وَالدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَال: وَفِي الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ إِثْبَاتٌ لِلأَْسْبَابِ، وَأَنَّهَا لاَ تُنَافِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ لِمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَلاَ تَشْفِي بِذَوَاتِهَا بَل بِمَا قَدَّرَ اللَّهُ فِيهَا. (20)
وَقَدْ قَرَنَ النَّبِيُّ ﷺ: التَّوَكُّل بِتَرْكِ الأَْعْمَال الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: يَدْخُل الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (1) .
وَقَال ﵊: لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ( x662 ;) . وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّوَكُّل يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ؛ لأَِنَّهُ ذَكَرَ لِلطَّيْرِ عَمَلاً وَهُوَ الذَّهَابُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَهِيَ فَارِغَةُ الْبُطُونِ، وَالرُّجُوعُ وَهِيَ مُمْتَلِئَتُهَا.
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، والمصباح المنير مادة: " وكل "، وإحياء علوم الدين 2 / 65.
(2) تفسير القرطبي في تفسير آية 122 من سورة آل عمران 4 / 189.
(3) سورة آل عمران / 159.
(4) سورة آل عمران / 122.
(5) سورة يونس / 84.
(6) نهاية المحتاج 2 / 106 - 107 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر.
(7) تفسير القرطبي 4 / 189 في تفسير آية 122 من آل عمران.
(8) سورة آل عمران / 159.
(9) تفسير الرازي 9 / 68 الآية 159 من آل عمران.
(10) حديث: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " وهو جزء من حديث أوله " بعثت بين يدي الساعة بالسيف. . . " أخرجه أحمد (7 / 142 / 5114 ط دار المعارف وصححه أحمد شاكر) .
(11) إحياء علوم الدين 2 / 63.
(12) حديث: " أعقلها وتوكل ". أخرجه الترمذي (4 / 668 ط مصطفى الحلبي) من حديث أنس بن مالك وحسنه.
(13) حديث: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ". أخرجه البخاري (3 / 335 ط السلفية) ، ومسلم 2 / 721 ط عيسى الحلبي من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(14) سورة الأنفال / 69.
(15) سورة الأنفال / 12.
(16) سورة الملك / 15.
(17) سورة النساء / 71.
(18) سورة الأنفال / 60.
(19) حديث: " تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع معه الشفاء ". أخرجه أبو داود (4 / 192 - 193 ط عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 383 ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2 / 1137 ط عيسى الحلبي) .
(20) شرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 636 - 637.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 185/ 14