المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
قطع الطَّرِيقِ على الناس، وإشهار السلاح عليهم . ويطلق على قطع الطريق . ومن شواهده قوله تَعَالَى : ﭽﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﭼ المائدة : 33.
قطع الطَّرِيقِ على الناس، وإشهار السلاح عليهم.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ: يُقَال: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً، وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ.
بِفَتْحِ الرَّاءِ: وَهُوَ السَّلْبُ.
يُقَال: حَرَبَ فُلاَنًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ (1) .
وَالْحِرَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْبُرُوزُ لأَِخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لإِِِرْعَابٍ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ (2) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ كَابَرَ رَجُلاً عَلَى مَالِهِ بِسِلاَحٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي زُقَاقٍ أَوْ دَخَل عَلَى حَرِيمِهِ فِي الْمِصْرِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحِرَابَةِ (3) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَغْيُ:
2 - الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الْجَوْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْعُدُول عَنِ الْحَقِّ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ إِمَامِ أَهْل الْعَدْل بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعِ الْفَسَادِ (5) .
وَفَرَّقَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: الْبَغْيُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَلَى تَأْوِيلٍ - غَيْرِ قَطْعِيِّ الْفَسَادِ - وَالْمُحَارِبُونَ خَرَجُوا فِسْقًا وَخُلُوعًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلٍ (6) "
ب - السَّرِقَةُ:
3 - السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ خُفْيَةً. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي بَابِهَا.
فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِرَابَةَ فِيهَا مُجَاهَرَةٌ وَمُكَابَرَةٌ وَسِلاَحٌ.
ج - النَّهْبُ، وَالاِخْتِلاَسُ:
4 - النَّهْبُ لُغَةً: الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَال. وَاصْطِلاَحًا: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلاَنِيَةً دُونَ رِضًا. وَالاِخْتِلاَسُ: خَطْفُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، مَعَ الاِعْتِمَادِ عَلَى الْهَرَبِ.
فَالنَّهْبُ وَالاِخْتِلاَسُ كِلاَهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ عَلاَنِيَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ: سُرْعَةُ الأَْخْذِ فِي الاِخْتِلاَسِ بِخِلاَفِ النَّهْبِ فَإِِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ (7) .
أَمَّا الْحِرَابَةُ فَهِيَ الأَْخْذُ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ.
د - الْغَصْبُ:
5 - الْغَصْبُ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مَعَ الْمُجَاهَرَةِ.
وَشَرْعًا: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقِيل: هُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ (8) . فَالْغَصْبُ قَدْ يَكُونُ بِسِلاَحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلاَحٍ مَعَ إِمْكَانِ الْغَوْثِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مِنَ الْحُدُودِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مُرْتَكِبِيهَا: مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَاعِينَ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ، وَغَلَّظَ عُقُوبَتَهَا أَشَدَّ التَّغْلِيظِ، فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ (9) } إِلَخْ.
وَنَفَى الرَّسُول ﷺ انْتِسَابَهُمْ إِِلَى الإِِْسْلاَمِ فَقَال فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: مَنْ حَمَل عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا (10) .
الأَْصْل فِي جَزَاءِ الْحِرَابَةِ:
7 - الأَْصْل فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْحِرَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ (11) . . .} إِلَخْ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَيَأْتِي. وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَال: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلاً، فَقَال مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِِبِل رَسُول اللَّهِ ﷺ، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّل النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. وَقَال أَبُو قِلاَبَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (12) .
مَنْ يُعْتَبَرُ مُحَارِبًا:
8 - الْمُحَارِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ كُل مُلْتَزِمٍ مُكَلَّفٍ أَخَذَ الْمَال بِقُوَّةٍ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ (13) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لاَ تَخْرُجُ فِي مَفْهُومِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ شُرُوطٍ فِي الْمُحَارِبِينَ حَتَّى يُحَدُّوا حَدَّ الْحِرَابَةِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ:
أ - الاِلْتِزَامُ.
ب - التَّكْلِيفُ.
ج - وُجُودُ السِّلاَحِ مَعَهُمُ.
د - الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ.
هـ - الذُّكُورَةُ.
و الْمُجَاهَرَةُ. وَلَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، بَل بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا اخْتِلاَفٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
أ - الاِلْتِزَامُ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ: أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، فَلاَ يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ، وَلاَ الْمُعَاهَدُ، وَلاَ الْمُسْتَأْمَنُ (14) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ (15) } وَهَؤُلاَءِ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ قَبْل الْقُدْرَةِ، وَبَعْدَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (16) } وَلِخَبَرِ: الإِِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ (17) . وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ فَلَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِ فِي أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا أَوْ لاَ (18) .
ب - التَّكْلِيفُ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْل شَرْطَانِ فِي عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ لأَِنَّهُمَا شَرْطَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ (19) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ مَنْ اشْتَرَكَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ. وَقَالُوا: لأَِنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتُصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْبَاقِينَ. كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الزِّنَى بِامْرَأَةٍ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَحَصَرُوا مُسْقِطَاتِ الْحَدِّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي تَوْبَتِهِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مُسْقِطًا آخَرَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ هَارِبًا وَقَتَلَهُ صَبِيٌّ يُقْتَل الْمُمْسِكُ عِنْدَهُمْ (20) . وَمُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ يُحَدُّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِ الْمَارَّةِ فَلاَ حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَاشَرَ الْعُقَلاَءُ الْفِعْل أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا، وَقَالُوا: لأَِنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُل، فَإِِنْ لَمْ يَقَعْ فِعْل بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، كَانَ فِعْل الْبَاقِينَ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحُكْمُ. وَقَال وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَ الْعُقَلاَءُ الْفِعْل يُحَدُّونَ (21) .
ج - الذُّكُورَةُ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ.
فَلَوْ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ وَلاَ تَأْثِيرَ لِلأُْنُوثَةِ عَلَى الْحِرَابَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ مَا لِلرَّجُل فَيَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الرَّجُل مِنْ أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ (22) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ: فَلاَ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَإِِنْ وَلِيَتِ الْقِتَال وَأَخْذَ الْمَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْحِرَابَةِ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلاَ يَكُنَّ مِنْ أَهْل الْحِرَابَةِ.
وَلِهَذَا لاَ يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلاَ يُحَدُّ كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْقَطْعِ مِنَ الرِّجَال، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. سَوَاءٌ بَاشَرُوا الْجَرِيمَةَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقِتَال وَأَخْذَ الْمَال، يُحَدُّ الرِّجَال الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، لأَِنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ، لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ، بَل لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَال الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، فَلاَ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ (23) .
د - السِّلاَحُ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السِّلاَحِ فِي الْمُحَارِبِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُحَارِبِ سِلاَحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعِصِيُّ سِلاَحٌ " هُنَا " فَإِِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالأَْحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ (24) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْل السِّلاَحِ بَل يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَال وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ (25) . هـ - الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ وَإِِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ.
وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلاَ يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.
فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْل الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ.
فَإِِنْ دَخَل قَوْمٌ بَيْتًا وَشَهَرُوا السِّلاَحَ وَمَنَعُوا أَهْل الْبَيْتِ مِنَ الاِسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ فِي حَقِّهِمْ (26) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ آيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ وَالأَْمْصَارِ وَالْقُرَى كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ أَوْلَى بِحَدِّ الْحِرَابَةِ (27) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى اشْتِرَاطِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ. فَإِِنْ حَصَل مِنْهُمُ الإِِْرْعَابُ وَأَخْذُ الْمَال فِي الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ، وَقَالُوا: لأَِنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلأَِنَّ مَنْ فِي الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ غَالِبًا فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ (28) .
و الْمُجَاهَرَةُ:
14 - الْمُجَاهَرَةُ أَنْ يَأْخُذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَال جَهْرًا فَإِِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِِنِ اخْتَطَفُوا وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ وَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ، وَالاِثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ. وَإِِنْ تَعَرَّضُوا لِعَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ (29) .
حُكْمُ الرِّدْءِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرِّدْءِ أَيْ الْمُعِينِ لِلْقَاطِعِ بِجَاهِهِ أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ أَوْ بِتَقْدِيمِ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَطْعَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، لأَِنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ يَحْصُل بِالْكُل، وَلأَِنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَعْضُ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْبَعْضُ الآْخَرُ، فَلَوْ لَمْ يُلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لأََدَّى ذَلِكَ إِِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ (30) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُحَدُّ الرِّدْءُ، وَإِِنَّمَا يُعَزَّرُ كَسَائِرِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا (31) .
عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُحَارِبِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لاَ تَقْبَل الإِِْسْقَاطَ وَلاَ الْعَفْوَ مَا لَمْ يَتُوبُوا قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (32) } .
17 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ: أَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَمْ عَلَى التَّنْوِيعِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ " أَوْ " فِي الآْيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الأَْحْكَامِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا فِي الْجِنَايَاتِ: فَمَنْ قَتَل وَأَخَذَ الْمَال، قُتِل وَصُلِبَ. وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَال قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُل، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً نُفِيَ مِنَ الأَْرْضِ (33) .
وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ حَدًّا، فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ إِنْ رَأَى الإِِْمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الآْيَةَ فَقَال: الْمَعْنَى: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا. أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْل إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال. أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَال، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ، إِنْ أَرْعَبُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ " أَوْ " عَلَى التَّنْوِيعِ لاَ التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أَيْ قَالَتْ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى وَلَمْ يَقَعْ تَخْيِيرُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الآْيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لأَِمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا بِمُقْتَضَى الْعَقْل وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَال تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (34) } فَالتَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِمَا يَشْمَل جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِمَا يَشْمَل جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلاَفُ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ.
يَزِيدُ هَذَا إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ عَلَى أَنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال، لاَ يَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الْمَعْقُول النَّفْيَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الأَْحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، فَإِِنَّهُ يُخْرِجُ التَّخْيِيرَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِكُل وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ.
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي الْجَرِيمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَال فَقَطْ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْل لاَ غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ فَحَسْبُ، فَكَانَ سَبَبُ الْعِقَابِ مُخْتَلِفًا. فَتُحْمَل الآْيَةُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ كُل نَوْعٍ فَيُقَتَّلُونَ وَيُصَلَّبُونَ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال، وَتُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَال لاَ غَيْرُ، وَيُنْفَوْنَ مِنَ الأَْرْضِ، إِنْ أَخَافُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالاً. وَيَدُل أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَدَأَ بِالأَْغْلَظِ فَالأَْغْلَظِ وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، الْبُدَاءَةُ بِالأَْخَفِّ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالأَْغْلَظِ فَالأَْغْلَظِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْل (35) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ قَبْل قَتْل نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ حُبِسَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ فِي الآْيَةِ، وَإِِنْ أَخَذَ مَالاً مَعْصُومًا بِمِقْدَارِ النِّصَابِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلاَفٍ، وَإِِنْ قَتَل مَعْصُومًا وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً قُتِل. أَمَّا إِنْ قَتَل النَّفْسَ وَأَخَذَ الْمَال، وَهُوَ الْمُحَارِبُ الْخَاصُّ فَالإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَإِِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ فَقَطْ، وَإِِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلْبِ هُنَا طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلاَ يُتْرَكُ أَكْثَر مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ إِفْرَادُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَل لاَ بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ الْقَتْل أَوِ الصَّلْبِ إِلَيْهِ، لأَِنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ وَأَخْذُ مَالٍ، وَالْقَتْل وَحْدَهُ فِيهِ الْقَتْل، وَأَخْذُ الْمَال وَحْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَفِيهِمَا مَعَ الإِِْخَافَةِ لاَ يُعْقَل الْقَطْعُ وَحْدَهُ. وَقَال: صَاحِبَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلاَ يُقْطَعُونَ (36) . وَقَال قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الآْيَةَ تَدُل عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءَاتِ الأَْرْبَعَةِ.
فَإِِذَا خَرَجُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَيْهِمُ الإِِْمَامُ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَيْ هَذِهِ الأَْحْكَامَ إِنْ رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالاً. وَإِِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
وَهُوَ إِنْ قَتَل فَلاَ بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، إِلاَّ إِنْ رَأَى الإِِْمَامُ أَنَّ فِي إِبْقَائِهِ مَصْلَحَةً أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ (37) .
وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ، وَلاَ نَفْيِهِ، وَإِِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ. وَإِِنْ أَخَذَ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل لاَ تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلاَفٍ، وَإِِنْ أَخَافَ السَّبِيل فَقَطْ فَالإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ، بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ. هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَال.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ تُصْلَبُ، وَلاَ تُنْفَى، وَإِِنَّمَا حَدُّهَا: الْقَطْعُ مِنْ خِلاَفٍ، أَوِ الْقَتْل الْمُجَرَّدُ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ الآْيَةِ، فَإِِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِكَلِمَةِ " أَوْ " وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ " فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ (38) . كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ:
أ - (النَّفْيُ) :
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً وَلَمْ يَقْتُل نَفْسًا فَعُقُوبَتُهُ النَّفْيُ مِنَ الأَْرْضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ (39) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ إِبْعَادُهُ عَنْ بَلَدِهِ إِِلَى مَسَافَةِ الْبُعْدِ (40) ، وَحَبْسُهُ فِيهِ (41) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْحَبْسُ أَوْ غَيْرُهُ كَالتَّغْرِيبِ كَمَا فِي الزِّنَى (42) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: نَفْيُهُمْ: أَنْ يُشَرَّدُوا فَلاَ يُتْرَكُوا يَسْتَقِرُّونَ فِي بَلَدٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ كَنَفْيِ الزَّانِي (43) .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهَا تُغَرَّبُ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} .
وَاشْتَرَطُوا لِتَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَإِِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إِِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِتَقْرَبَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْفَظُوهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤَخَّرُ التَّغْرِيبُ (44) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلاَ صَلْبَ (45) .
ب - الْقَتْل:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُغَلَّبُ فِي قَتْل قَاطِعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَل فَقَطْ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِِلَى أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْحَدُّ، فَيُقْتَل وَإِِنْ قَتَل بِمُثَقَّلٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْمَقْتُول، فَيَقْتُل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، كَمَا لاَ عِبْرَةَ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْقَوَدِ (46) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ: يُغَلَّبُ جَانِبُ الْقِصَاصِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ فَيُقْتَل قِصَاصًا أَوَّلاً، فَإِِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَنْهُ يُقْتَل حَدًّا، وَيُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْمَقْتُول، لِخَبَرِ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ (47) وَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَل مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوِ الْحُرُّ غَيْرَ حُرٍّ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً، لَمْ يَقْتُل قِصَاصًا، وَيَغْرَمُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، وَقِيمَةَ الرَّقِيقِ (48) .
ج - الْقَطْعُ مِنْ خِلاَفٍ:
20 - يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ (49) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَرِقَةٌ) .
د - الصَّلْبُ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلْبِ، وَمُدَّتِهِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَل مَصْلُوبًا (50) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الإِِْمَامِ (51) . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا لِلتَّشْهِيرِ بِهِ ثُمَّ يُنْزَل فَيُقْتَل (52) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْل، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْل عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا. فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا ذُكِرَ أَوَّلاً فِي الْفِعْل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (53) } . وَلأَِنَّ فِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبًا لَهُ (54) . وَقَال ﷺ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ (55) .
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ: يُقْتَل، ثُمَّ يُغَسَّل، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَيُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلاَ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالصَّلْبِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْلِيبٌ) .
ضَمَانُ الْمَال وَالْجِرَاحَاتِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
22 - إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَهَل يُضْمَنُ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمَال، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْجِرَاحَاتِ؟ اخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ فِي ذَلِكَ: فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالاً وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ضَمِنُوا الْمَال مُطْلَقًا (56) .
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الآْخِذِ فَقَطْ، لاَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الأَْخْذَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالُوا: لأَِنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ (57) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنًا لِلْمَال الْمَأْخُوذِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْل صَاحِبِهِ لأَِنَّهُمْ كَالْحُمَلاَءِ (الْكُفَلاَءِ) فَكُل مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِتَقَوِّي بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمَنْ دَفَعَ أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ (58) .
أَمَّا الْجِرَاحَاتُ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا جَرَحَ جَرْحًا فِيهِ قَوَدٌ فَانْدَمَل لَمْ يَتَحَتَّمْ بِهِ قِصَاصٌ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَل يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لأَِنَّ التَّحَتُّمَ تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ، فَاخْتُصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْمُحَارِبِ بِالْجِرَاحِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ: يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالنَّفْسِ لأَِنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْل فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْل حُكْمِهِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لأَِنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا إِذَا سَرَى الْجُرْحُ إِِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ يَتَحَتَّمُ الْقَتْل (59) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالاً وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ فَإِِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا رَدُّوهُ، وَإِِنْ كَانَ تَالِفًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لاَ يَضْمَنُونَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً أَمْ عَمْدًا، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِِنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الأَْمْوَال، وَلاَ يَجِبُ ضَمَانُ الْمَال مَعَ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ (60) .
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِرَابَةُ:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بِالإِِْقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. وَتُقْبَل شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، فَإِِذَا شَهِدَ عَلَى الْمُحَارِبِ اثْنَانِ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لأَِنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَإِِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الإِِْجَابَةُ، أَمَّا إِذَا تَعَرَّضُوا لأَِنْفُسِهِمَا بِأَنْ يَقُولاَ: قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا لَمْ يُقْبَلاَ، لاَ فِي حَقِّهِمَا وَلاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ. وَقَال مَالِكٌ: تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُقْبَل عِنْدَهُ فِي الْحِرَابَةِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ. حَتَّى لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِالْحِرَابَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحِرَابَةِ تَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِِنْ لَمْ يُعَايِنَاهُ (61) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (شَهَادَةٌ وَإِِقْرَارٌ) .
سُقُوطُ عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ:
24 - يَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحَتُّمُ الْقَتْل، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ مِنْ خِلاَفٍ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (62) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ (63) } فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. فَيَغْرَمُونَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، وَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْحَقِّ فِي مَالٍ أَوْ قِصَاصٍ (64) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) بدائع الصنائع 7 / 90، وروض الطالب 4 / 154، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 238، والمغني 8 / 287.
(3) جواهر الإكليل 2 / 294.
(4) المصباح المنير ومطالب أولي النهى 6 / 262.
(5) نهاية المحتاج 7 / 402، وروض الطالب 4 / 111.
(6) الزرقاني 8 / 192.
(7) المصباح المنير وابن عابدين 3 / 199 والزرقاني 8 / 192.
(8) الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 55، وبدائع الصنائع 7 / 142.
(9) سورة المائدة / 33.
(10) حديث: " من حمل علينا السلاح فليس منا " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 23 - ط السلفية) ومسلم (1 / 98 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(11) سورة المائدة / 33.
(12) حديث العرنيين أخرجه البخاري (الفتح 12 / 111 - ط السلفية) . وانظر بداية المجتهد 2 / 490، وروض الطالب 4 / 154، ومطالب أولي النهى 6 / 251، والمغني 8 / 286، 287.
(13) بدائع الصنائع 7 / 95، وروض الطالب 4 / 154، والمغني 8 / 286.
(14) ابن عابدين 3 / 112، وروض الطالب 4 / 154، وروضة الطالبين 10 / 154، وكشاف القناع 6 / 146، وبداية المجتهد 2 / 491، والمدونة 6 / 268.
(15) سورة المائدة / 34.
(16) سورة الأنفال / 38.
(17) حديث: " الإسلام يجب ما كان قبله " أخرجه أحمد (4 / 199 - ط الميمنية) من حديث عمرو بن العاص. وأورده الهيثمي في المجمع (9 / 351 - ط القدسي) وقال: " رجاله ثقات ".
(18) روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8 / 2.
(19) المصادر السابقة.
(20) مغني المحتاج 4 / 8، 21، 183، وشرح الزرقاني 8 / 109، والمغني 8 / 298.
(21) ابن عابدين 3 / 214، وبدائع الصنائع 7 / 91.
(22) روضة الطالبين 10 / 155، والمغني 8 / 298، وشرح الزرقاني 8 / 109.
(23) بدائع الصنائع 7 / 91.
(24) ابن عابدين 3 / 213، والمغني 8 / 288.
(25) المدونة الكبرى 6 / 303، وروضة الطالبين 10 / 156، وروض الطالب 4 / 154.
(26) نهاية المحتاج 8 / 4، ووروض الطالب 4 / 154.
(27) شرح الزرقاني 8 / 109، ونهاية المحتاج 8 / 4، والمغني 8 / 287.
(28) ابن عابدين 3 / 214، والمغني 8 / 287.
(29) روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 4، والمغني 8 / 288.
(30) بدائع الصنائع 7 / 91، وشرح الزرقاني 8 / 110، والمغني 8 / 297.
(31) روض الطالب 4 / 154.
(32) سورة المائدة / 33، 34.
(33) روض الطالب 4 / 155، والمغني 8 / 288، وروضة الطالبين 10 / 156 - 157 ومطالب أولي النهى 6 / 252 - 253، ونهاية المحتاج 8 / 3 ط - المكتبة الإسلامية.
(34) سورة الشورى / 40.
(35) بدائع الصنائع 7 / 93 - 94 روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 27، والمغني 8 / 289.
(36) بدائع الصنائع 7 / 94، وابن عابدين 3 / 213، والاختيار 4 / 114.
(37) هذا المنحى عند المالكية هو من باب السياسة الشرعية وقواعد المذاهب الأخرى لا تأباه فيما نرى.
(38) بداية المجتهد 2 / 491 - 492 وشرح الزرقاني 8 / 110، وحاشية الدسوقي 4 / 350 وتفسير القرطبي 6 / 152.
(39) ابن عابدين 3 / 212.
(40) ويدل كلام ابن رشد على أن المراد بها مسافة القصر فما زاد. (بداية المجتهد 2 / 496) .
(41) حاشية الدسوقي 4 / 349.
(42) نهاية المحتاج 8 / 5.
(43) المغني 8 / 294.
(44) نهاية المحتاج 7 / 409، والمغني لابن قدامة 8 / 169.
(45) بداية المجتهد 2 / 491 - 492، شرح الزرقاني 8 / 110، وحاشية الدسوقي 4 / 350.
(46) ابن عابدين 3 / 213، وحاشية الدسوقي 4 / 350.
(47) حديث " لا يقتل مسلم بكافر " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 260 - ط السلفية) من حديث علي بن أبي طالب.
(48) روضة الطالبين 10 / 160، وأسنى المطالب 4 / 156، والمغني 8 / 290.
(49) المصادر السابقة وابن عابدين 3 / 213، والزرقاني 8 / 115، والدسوقي 4 / 349.
(50) ابن عابدين 3 / 213، وحاشية الدسوقي 4 / 349.
(51) المصادر السابقة.
(52) نهاية المحتاج 8 / 5.
(53) سورة البقرة / 158.
(54) المغني 8 / 290 - 291، وروض الطالب 4 / 155، ونهاية المحتاج 8 / 6.
(55) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.
(56) حاشية الدسوقي 4 / 350، ونهاية المحتاج 8 / 8 ومغني المحتاج 4 / 182، والمغني 8 / 298.
(57) نهاية المحتاج 8 / 8 ومغني المحتاج 4 / 483 والمغني 8 / 292.
(58) أسهل المدارك 3 / 157.
(59) نهاية المحتاج 8 / 8، ومغني المحتاج 4 / 483، والمغني 8 / 292.
(60) بدائع الصنائع 7 / 95، والاختيار 4 / 111، وابن عابدين 3 / 213.
(61) بداية المجتهد 2 / 494، وحاشية الدسوقي 4 / 351، ونهاية المحتاج 8 / 311، وروض الطالب 4 / 158، والمغني 8 / 302 - 303 ومطالب أولي النهى 6 / 631.
(62) بدائع الصنائع 7 / 96 وحاشية الدسوقي 4 / 351 - 352 وروض الطالب 4 / 156، وروضة الطالبين 10 / 159 والمغني 8 / 295.
(63) سورة المائدة / 34.
(64) المصادر السابقة.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 153/ 17