الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
عِبَادَ اللهِ: نَتَأَمَّلُ اليومَ سُورَةً بَيَّنَتْ مَكَانَةَ البَلَدِ الحَرامِ، بَلَدٌ صَارَ لِلنَّاسِ مَثَابَةً وَأَمْنًا، يَأمَنُ النَّاسُ فِيهِ على دِمَائِهِمْ وَأَموَالِهمِ وَأَعرَاضِهِم. بَلَدٌ مَنْ أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أَذَاقَهُ اللهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ! لَيسَ الأمْرُ فَحَسْبُ، بَلْ سُورَتُنا بَيَّنتْ أنَّ هَذا البَلَدَ ازْدَادَ شَرَفَاً لَمَّا حَلَّ فِيهِ...
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ الذي نَزَّلَ الفُرقَانَ على عَبدِهِ لِيكُونَ لِلعالَمِينَ نَذِيرًا، جَعَلَ العِلْمَ ضِيَاءً، والقُرَآنَ نُورًا وَتِبْيَانًا، وَبُشْرَى لِلمُسلِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيَاً وَنَصِيرًا.
نَشْهَدُ أن لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لَهُ وتَوحِيدًا وَتَوقِيرًا.
وَنَشهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ أُرْسِلَ هَادِيًا وَبَشِيرًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ وتَسلِيمًا مَزِيدًا.
أمَّا بَعْدُ:
أيُّها المُسلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ الوَاحِدَ الأَحَدَ، الفَرْدَ الصَّمَدَ، الذي خَلَقَ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي كَبَدٍ!
عِبَادَ اللهِ: نَتَأَمَّلُ اليومَ سُورَةً بَيَّنَتْ مَكَانَةَ البَلَدِ الحَرامِ، بَلَدٌ صَارَ لِلنَّاسِ مَثَابَةً وَأَمْنًا، يَأمَنُ النَّاسُ فِيهِ على دِمَائِهِمْ وَأَموَالِهمِ وَأَعرَاضِهِم.
بَلَدٌ مَنْ أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أَذَاقَهُ اللهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ!
لَيسَ الأمْرُ فَحَسْبُ، بَلْ سُورَتُنا بَيَّنتْ أنَّ هَذا البَلَدَ ازْدَادَ شَرَفَاً لَمَّا حَلَّ فِيهِ مُحَمَّدٌ -عَلَيهِ أفْضَلُ صَلاةٍ وَأَزْكى سَلامٍ-!
سُورَتُنَا تَكْريْمٌ وَتَسْلِيَةُ لِلنَّبِيِّ الكَريمِ لِمَا سَيُكَابِدُهُ مِنْ أَذَى المُشرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ.
وَهِيَ تَرْبِطُ النَّبِيَّ بِأَسْلافِهِ مِنْ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَذُرِّيَّاتِهم مِن الأَنْبِياءِ والمُرسلَينَ -عليهمُ السَّلامُ-.
سُورَتُنا سَلْوَى لِكُلِّ مَهمُومٍ، وَفَرجٌ لِكُلِّ مَكْرُوبٍ! بَيَّنَتْ أنَّ طَبِيعَةَ الحَيَاةِ آلامٌ وَهُمُومٌ، وَشَدَائِدُ وَمُعَانَاةٌ!
سُورَتُنَا دَرْسٌ لِمَنْ تَكَبَّرَ وطَغَى! أنَّ أَمَرَهُ بِيَدِ القَوِيِّ العَزِيزِ.
سُورَتُنَا تُبَيِّنُ نِعَمَ اللهِ على عِبَادِهِ بِالنَّظَرِ والتَّأمُّلِ، والنُّطْقِ والبَيَانِ!
أظُنُّكم -أيُّها المُصَلُّونَ- عَرَفْتُمُ تِلْكَ السُّورةَ العَظِيمَةَ.
نَعَمْ إنَّها سُورَةُ البَلَدِ التي يَحتَاجُ إلى تَدَبُّرِها كُلُّ أَحَدٍ!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 1- 4].
أيُّها المُؤمِنُونَ: اللهُ -تَعَالى- يٌقْسِمُ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ وَلِلهِ أَنْ يُقسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَمَّا نَحْنُ فَلا يَجُوزُ لَنا إلَّا أنْ نُقسِمَ بِاللهِ -تَعَالى- وَأَسمَائِهِ وَصِفَاتِه، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ".
فلا يَجُوزُ أنْ نَحْلِفَ بالنَّبِيِّ ولا بالوَلِيِّ ولا بِالأَمَانَةِ ولا بالآبَاءِ ولا بِالعَشِيرَةِ وَالأَوْلادِ، يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ لِيَحْلِفْ حَالِفٌ بِاللَّهِ أَوْ لِيَسْكُتْ" [حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
عبادَ اللهِ: أَقْسَمَ اللهُ بِمَكَّةَ التي هِيَ حَاضِنَةُ التَّكْلِيفِ الأُولى، وَمُنْطَلَقُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ.
بَلَدُ الأَمْنِ والإيمَانِ، وَمَهْبِطُ الوَحْيِ والرِّسالَةِ، وَمَهْوَى الأَفْئِدَةِ، زَدَهَا اللهُ تَشْرِيفَاً وَتَكْرِيمَاً: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)[البلد: 1].
لَيسَ نَفْيَاً لِلقَسَمِ، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلقَسَمِ، فَلا يَلِيقُ أنْ نُعَبِّرَ بِأَنَّ فِي القُرآنِ حَرْفٌ زَائِدٌ، فَالزِّيَادَةُ فِي المَبْنَى زِيَادَةٌ فِي المَعْنَى.
وَابْتُدِئَتْ السُّورَةُ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقًا لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ!
وَكَذَلِكَ إِشْعَارٌ بِحُرْمَتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ حُرْمَةَ مَنْ يَحِلُّ بِهَا، فَكَيفَ قُريشٌ تُحَرِّمُ أَنْ يُعتَدَى على الدَّوَابِّ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى رَسُولٍ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ -تَعالى-؟!
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ مَكَانَةَ نَبِيِّهمِ، فَقَالَ: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد: 2].
والمَعْنى: أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ، حَالَةَ كَوْنِكَ حَلَلْتَ بِهِ، فَتَضَاعَفَ شَرَفُ البَلَدِ الحَرَامِ، بِشَرَفِ وُجُودِ نَبِيِّنَا الأَكْرَمِ!
وَفِيها نَذَارَةٌ لِقُرَيشٍ التي آذَتْ رَسُولَ اللهِ وأَهدَرَتْ دَمَهُ، أنَّ مَكَّةَ سَتَكُونُ حَلالاً لمُحَمَّدٍ وَلو بَعْدَ حِينٍ وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ!كُلُّ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِنا الذي عاشَ في مَكَّةَ طَرِيدَاً في فِجَاجِهَا، مُحَاصَرَاً فِي شِعَابِهَا!
اللهُ أَكْبَرُ -يَا مُؤمِنُونَ-: يالَهُ مِنْ دَرْسٍ عَظِيمٍ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ أَنْ يَصْبِرَ وَيَتَّقِ، فَإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحسِنينَ.
وَأَبْشِرُوا -يَا دُعَاةَ الحَقِّ والخَيرِ- فاللهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ يَقُولُ: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ".
فَلا تَظُنُّوا -يَا كِرامُ- أنَّ مَنْ يُعادِي دُعاةَ الخَيرِ والاحتِسَابِ أنَّهُ نَاجٍ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعِقَابِهِ: "فإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" [مُسلمٌ].
قَالَ تَعَالَى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) [البلد: 2] وَهُنَا تَقَابَلٌ، فَقِيلَ: يَشمَلُ كُلَّ مَنْ يَلِدُ مِنْ الأِنْسِ والجِنِّ، والطَّيرِ وَالوَحْشِ، وَكُلَّ شَيءٍ.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُم بِأنَّهُ آدَمُ -عَليهِ السَّلامُ- وَذُرِّيَتُهُ، والأَوَّلُ أَعَمُّ وَأَوْلَى، فَقَسَمُ اللهِ بِتَوَالُدِ الأَجْيَالِ وَتَتَابُعِ الأَنْسَالِ؛ آيَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَحُسْنِ خَلْقِهِ، فَنُطفَةٌ فِي الرَّحِمِ كَيفَ تَكْبُرُ وَتَنْشَطُ ثُمَّ تَكُونُ مَولُودًا: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) [الطارق: 5].
فَوُجُودُنا فِي الحَيَاةِ مُعْجِزَةٌ وَنِعْمَةٌ، وَلَمْ يَجْعَلْنا رَبُّنا مَقْطُوعِيِّ النَّسَبِ فَلَنَا آبَاءٌ وأَجْدَادٌ نُعْرَفُ بِهم: "فَكُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ".
فَالَّلهمَّ انفَعْنَا وارْفَعْنَا بالقُرآنِ العَظِيمِ، وبِهَدْيِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ.
أَقُولُ مَا سَمِعتُم، وأستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسلِمينَ مِن كُلِّ ذَنْبٍّ وَخَطِيئَةٍ، فاستَغفِروا اللهَ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ ذِي الجَلالِ وَالكَمَالِ، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ، وَنَشهَدُ أن لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الكَبِيرُ المُتَعَالِ.
وَنَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ حَسَنُ الأَخْلاقِ والفِعَالِ، تَحَمَّلَ في سَبِيلِ تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى وَنَالَ، فَلَمْ تَزِدْهُ إلَّا تَمَسُّكُاً بِأَوثَقِ العُرَى والحِبَالِ، فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحَابِهِ وَالتَّابِعينَ لَهُم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحسانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ المَآلِ.
أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -يا مُؤمِنُونَ- فَتَقوى اللهِ خَيرُ زَادٍ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا وَيَومَ المَعَادِ.
لم نَزَلْ -يا مُؤمِنُونَ- نَتَأمَّلُ سُورَةَ البَلَدِ، وَمنْها نَستَلْهِمُ أَعْظَمَ الدُّروسِ وَالعِبَرِ، خَاصَّةً ونَحنُ نُواجِهُ في هذهِ الدُّنيا مِن أَصْنَافِ المَتَاعِبِ والمَشَاقِّ فِي بَعْضِ الأَحيَانِ مَا يَنُوءُ عَنْ حَمْلِهِ أَشِدَّاءُ الرِّجَالِ! فَجَاءَتْ سُورَةُ البَلَدِ بَلسَمَاً لِكُلِّ مَكْرُوبٍ، وَفَرجَاً لِكُلِّ مَهمُومٍ، قَالَ اللهُ -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] هَذَا جَوابُ الأَقْسَامِ السَّابِقَةِ، فَقَدْ تَبيَّنَ أَنَّ اللهَ -تَعالَى- أَقْسَمَ لِيُبَيِّنَ لَنَا أنَّهُ خَلَقَ الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ يَعْنِي فِي شِدَّةٍ، وَنَصَبٍ، وَتَعَبٍ وَعَنَاءٍ.
وَمَنْ تَأمَّلَ وَجَدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً فَالإنْسَانُ مِنْ حَمْلِهِ إلى وَضْعِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَعَ أَضْيَقِ المَسَالِكِ وَأَحْرَجِهَا بِحَالٍ الأُمُّ فِيهَا بَينَ حَيَاةٍ وَمَوْتٍ يُدْرِكُ ذَلِكَ تَمَامَاً، يَخْرُجُ لِدلُّنْيَا ويَسْتَهِلُّ صَارِخًا كَمَا قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ" [رَواهُ مُسلِمٌ].
ثُمَّ يُكَابِدُ الرَّضَاعَةَ والإطْعَامَ، وَيطْرَأُ عَليهِ مِنْ أَنْوَاع الصِّحَّةِ وَالأَمْرَاضِ، وَالهَمِّ والقَلَقِ النَّفْسِيِّ والجَسَدِيِّ، وَيَلْحَقُهُ كِبَرٌ وَهَرَمٌ، وَغِنىً وَفَقْرٌ، وَنقْصٌ فِي الأَمْوالِ والأَنْفُسِ والثَّمَراتِ، وَرِبْحٌ وَخَسَارَةٌ ما اللهُ بِهِ عَليمٌ، فَهَكَذا الدُّنْيَا كَبَدٌ فِي كَبَدٍ، بَل والإنْسَانُ وَهُوَ يُفَارِقُ دُنْياهُ تَعتَصِرُهُ السَّكَرَاتُ وَالشَّدَائِدُ، وَالكُرُوبُ والآهَاتُ،كُلُّ بَنِي آدَمَ في ذَلِكَ يَستَوُونَ؛ مُؤمِنُهُمِ وَكَافِرُهُم، بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُم.
وَهُنا دَرْسٌ لِلمُؤمِنِينَ: أَنَّا لَمْ نُوعَدْ بِنَعِيمٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيا، إنَّما هَدَفُنا هُناكَ: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].
جَعَلَنَا اللهُ جَمِيعَاً وَوالِدِينَا وَذُرِّيَاتِنَا مِن أَهلِهَا.
وَهذا مَا يُمَيِّزُنَا بِفَضْلِ اللهِ -تَعالى- أنَّنَا نُؤمِنُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرِ، وَإنَّما عَلينَا أنْ نَبْذُلَ وُسْعَنَا وكُلُّ شَيءٍ بِيَدِ الوَاحِدِ الأحَدِ، وَنَضَعُ نُصْبَ أَعيُنِنَا قَولَ اللهِ -تَعَالَى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22- 23].
كَمَا أنَّ رَسُولَنَا بَشَّرَنَا بِقَولِهِ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" [رَواه البخاريُّ].
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ أَعظَمِ هِدَايَاتِ قَولِهِ تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] أَنَّ على العَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي الدُّنْيا وَيَكْدَحَ فِي عَمَلٍ يُرِيحُهُ مِنْ شَدَائِدِ يَومِ القِيامَةِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ الدُّنيا عَلى تَعَبِ الإِنْسَانِ وَكَدْحِهِ فِيهَا، وَلَكِنْ شَتَّانَ بَينَ مَنْ يَتْعَبُ فِي سَبِيلِ الحَقِّ وَبَينَ مَنْ يَتْعَبُ فِي سَبِيلِ الهوَى والشَّيطانِ.
وَصَدَقَ النَّاصِحُ الأَمِينُ -عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأزكَى التِّسلِيمِ- حِينَ قَالَ: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا"[رواهُ مُسلِمٌ].
فَأُناسٌ يُعتِقُونَ أنْفُسَهُمْ مِنْ عَذابِ اللهِ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ، واجتِنَابِ نَواهِيهِ، وأُنَاسٌ يُوبِقُونَ أَنْفُسَهُم وَيُهلِكُونَها بالمَعَاصِي والآثَامِ -نَعُوذُ باللهِ مِن حَالِهِمْ-.
فَلا يَغْتَرَّ جَاهِلٌ بِقُوَّتِهِ، وَلا يَرْكَنَنَّ مَغْرُورٌ إِلى مَا بَينَ يَدَيْهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ وَسُلْطَانٍ، فَكُلٌّ زَائِلٌ بِلَمْحِ بَصَرٍ! وَلِهَذا قَالَ تَعَالى عن المُخالِفينَ لِلرُّسُلِ: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون: 54- 56].
قَالَ السَّعدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَيَظُنُّونَ أَنَّ زِيَادَتَنَا إِيَّاهُمْ بِالأَمْوَالِ وَالأَولادِ، دَلِيلٌ على أَنَّهُم مِنْ أَهْلِ الخَيرِ وَالسَّعَادَةِ، أو أَنَّ لَهُم خَيْرَ الدُّنَيا وَالآخِرَةِ؟ فَلَيسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، بَل إنَّمَا نُمْلِي لَهُم وَنُمْهِلُهُم وَنَمَدُّهُم بِالنِّعَمِ، لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً، وَلِيَتَوَفَّرَ عِقَابُهُم فِي الآخِرَةِ"
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَاءَتْ سُورَةُ البَلَدِ لِتَكْبَحَ جِمَاحَ كُلَّ مَنْ يُحَاوِلُ أنْ يَضِلَّ وَيَطْغى بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عليهِ مِنْ مَالٍ وَصِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ! جَاءَتْ لِتُبَيِّنَ لَنا مَشَّقَةَ الآخِرَةِ، وَكَيفَ نَتَجَاوَزُ ذَلِكَ؟ وَمَا وَاجِبُنا مَعَ أَصْحَابِ الفَقْرِ وَذَوِي المَجَاعَةِ الشَّدِيْدَةِ، ثُمَّ رَسَائِلُ إلى أَهْلِ الإيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَا مَصِيرُ أَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ!
وهَذا ما سَنَتَدَارَسُهُ فِي جُمُعَةٍ قَادِمَةٍ -بإذنِ اللهِ تَعَالَى-.
نَسْألُ المَولى أنْ يَنْفَعَنَا وَيَرْفَعَنا بالقُرآنِ العَظِيمِ، وأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ القُرآنَ ويُعَلِّمُهُ ويَعْمَلُ بِهِ وَيَتَعَلَّمُ تَأْوِيلَهُ.
اللهُمَّ ارزُقْنا تِلاوَتَهُ آنَاءَ الَّليلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ إيمَانَا واحْتِسَابَا.
الَّلهمَّ أَصْلِح لَنَا دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إلى النَّارِ مَصِيرَنا.
الَّلهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَدُورِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أُمُورِنَا، وَأَبْرِم لِأُمَّتِنَا أَمْرِاً رَشِيدَاً، وَعَملاً سَدِيداً، وَحِّدْ صُفُوفَنا وانْصُرْ جُنُودَنا، واحْمِ حُدُودَنا، وَاشْفِ مَرْضَانَا، وارْحَمْ مَوتَانَا، واكْبِتْ عَدُوَّنا، وَأظْهِرْ عِزَّنا وَأَمْنَنا، واجْعَلنا لَكَ مِن الشَّاكِرينَ، وَلَكَ مِنْ الذَّاكِرينَ.
والحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا.