الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
إنَّ دعوةَ المجتمعِ والأمةِ إلى الاجتماعِ لا يعني الاتفاق على رأيٍ واحد؛ فالاختلافُ في مسائلِ الشريعةِ موجود، والتفرقُ غير الاختلاف، فقد اختلفتْ آراءُ الصحابةِ في مسائلَ كثيرةٍ في العباداتِ والمعاملاتِ والجهادِ وغيرِ ذلك، ولم يتفرقوا. إنَّ الاجتماعَ المنشود في كلِّ مجتمعٍ أنْ يُجْتَمعَ على ..
الخطبة الأولى:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَحْدَةُ الْأُمَّةِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، وَهَدَفٌ مَنْشُودٌ سَعَى لِتَحْقِيقِهِ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، فَقَدْ جَاءَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قَوْمِهِ وَهُمْ فِي هُوَّةٍ سَحِيقَةٍ مِنَ التَّشَتُّتِ وَالتَّمَزُّقِ.
كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى تَسُلُّ سُيُوفَهَا، وَتَسِيلُ أَرْوَاحُهَا لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، فَعَاشُوا أَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ مُتَنَاحِرِينَ، تَجْمَعُهُمُ الْقَبِيلَةُ، وَتُفَرِّقُهُمُ الْعَصَبِيَّةُ، فَعَمَّتْ فِيهِمُ الْفَوْضَى وَالتَّحَزُّبَاتُ، وَشُرْعِنَ لِلظُّلْمِ وَالِانْتِقَامَاتِ، حَتَّى قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ | يُهَدَّمْ، وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ |
فَأَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَحْمَةً، لِلْخَلْقِ عَامَّةً، وَلِقَوْمِهِ خَاصَّةً، فَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَنَاحُرٍ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ تَنَافُرٍ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
فَنَقَلَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّةَ الْعَرَبِ مِنْ ضِيقِ التَّحَزُّبِ إِلَى رَحَابَةِ الدِّينِ، وَأَضْحَتْ عُبِّيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ وَشَتَاتُهَا مِنْ أَحَادِيثِ الذِّكْرَيَاتِ.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: لَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ آمِرَةً وَحَاسِمَةً فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ، وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الْحُجُرَاتِ: 10]، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) [آلِ عِمْرَانَ: 105].
وَجَاءَتِ النُّصُوصُ نَاطِقَةً صَرِيحَةً أَنَّ اجْتِمَاعَ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَا رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، وَلَا عَلَى عِرْقٍ، أَوْ تُرَابٍ، بَلْ يَكُونُ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آلِ عِمْرَانَ: 103].
وَأَخْبَرَ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ثُمَّ أَرْشَدَهَا إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَالِاجْتِمَاعِ بِقَوْلِهِ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي".
فَبِقَدْرِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ، وَبِبُعْدِهَا عَنْ نُورِهِمَا يَكُونُ الِافْتِرَاقُ وَالشَّتَاتُ؛ كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنِ النَّصَارَى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الْمَائِدَةِ: 14].
فَالْأُمَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُتَطَلَّعُ إِلَيْهَا هِيَ أُمَّةٌ تَعِيشُ مَعَ النَّصِّ؛ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَتُقَدِّسُهُ وَتَحْتَرِمُهُ، وَلَا تُقَدِّمُ عَلَيْهِ قَوْلَ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
الْأُمَّةُ الْوَاحِدَةُ يُحْيِي أَهْلُهَا السُّنَّةَ، وَيُمِيتُونَ الْبِدْعَةَ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
الْأُمَّةُ الْوَاحِدَةُ يَسْعَى أَفْرَادُهَا فِي حِفْظِ سُمْعَتِهَا، وَرَدِّ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا.
لَقَدْ عَاشَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مُجْتَمَعٍ قَدْ تَبَايَنَ أَفْرَادُهُ فِي إِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، فَكَانَ فِيهِمُ السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ -وَهُمُ الْأَغْلَبُ-، وَفِيهِمُ الْمُقْتَصِدُ، وَفِيهِمُ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ، وَفِيهِمْ مُنَافِقُونَ، وَفِيهِمْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْطُرْ مُجْتَمَعَهُ، بَلْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، وَرَدْمِ أَيِّ فَجْوَةِ شِقَاقٍ وَافْتِرَاقٍ.
تَرَكَ قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ جُرْأَتِهِمْ وَاسْتِفْزَازِهِمْ، حَتَّى يُحَافِظَ عَلَى سُمْعَةِ الدَّعْوَةِ، وَحَتَّى لَا يَقُولَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقِيقِيَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، فَيَحْصُلُ التَّفَرُّقُ بِسَبَبِ هَذَا، وَتَرَكَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَبْنِهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَلَنْ يَسْتَوْعِبُوا ذَلِكَ.
وَلِذَا قَرَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ؛ كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ تُتْرَكُ الْمُسْتَحَبَّاتُ مِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى مَقْصِدِ الِاجْتِمَاعِ.
هَذِهِ الْغَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ أَنْ لَا يُخْتَلَفَ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَسْعَى الْكُلُّ أَفْرَادًا، وَأَحْزَابًا وَحُكُومَاتٍ نَحْوَ تَحْقِيقِهَا.
نَعَمْ... قَدِ افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ كَمَا أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بَيْدَ أَنَّ هَذَا الِافْتِرَاقَ، لَا يَعْنِي الرِّضَا بِالْوَاقِعِ، وَتَرْكَ إِصْلَاحِهِ؛ فَالَّذِي أَخْبَرَ بِافْتِرَاقِ أُمَّتِهِ هُوَ الَّذِي أَوْصَاهَا بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ.
إِنَّ دَعْوَةَ الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ لَا يَعْنِي الِاتِّفَاقَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ؛ فَالِاخْتِلَافُ فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مَوْجُودٌ، وَالتَّفَرُّقُ غَيْرُ الِاخْتِلَافِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا.
إِنَّ الِاجْتِمَاعَ الْمَنْشُودَ فِي كُلِّ مُجْتَمِعٍ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مُحْكَمَاتِ الدِّينِ وَأُصُولِ الِاعْتِقَادِ، وَيَتَعَاذَرُونَ [[وَيَعْذُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا]] فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَيَسَعُهُمْ مَا وَسِعَ سَلَفَ الْأُمَّةِ، فَهُمْ أَبَرُّ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَأَتْقَى.
وَعَبْرَ تَارِيخِ الْأُمَّةِ كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُمْ مَنْ يَجْمَعُ الْأُمَّةَ وَيُوَحِّدُ صَفَّهَا، فَقَرَّرُوا أَنَّ الِاجْتِمَاعَ غَايَةٌ وَمَقْصِدٌ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ لِأَهَمِّيَّتِهِ. فَكَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُمْ أَرْحَمَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ، وَأَنْصَحَ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ.
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُمْ مَنْ يَتَّبِعُونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَنِ، وَتَعْبِيدِ الْخَلْقِ وَفْقَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ؛ فَالسَّلَفِيَّةُ إِذًا لَيْسَتْ حِزْبًا، وَلَا طَائِفَةً، وَلَا شَخْصًا، وَلَا بَلَدًا، وَلَا رُؤْيَةً ضَيِّقَةً.
السَّلَفِيَّةُ لَيْسَتْ مُفَاخَرَةً، وَلَا اسْتِعْلَاءً، أَوْ مُتَاجَرَةً.
السَّلَفِيَّةُ هِيَ الْمِظَلَّةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ؛ فَالْمُسْلِمُ بِفِطْرَتِهِ لَوْ تُرِكَ بِلَا مُشَوِّشَاتٍ وَلَا غُذِّيَ بِالْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ فَهُوَ بِفِطْرَتِهِ يَتَّبِعُ الدَّلِيلَ وَيَحْتَرِمُ فَهْمَ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ شَذَّ فَهُوَ الْمُخَالِفُ؛ فَالسَّلَفِيَّةُ هِيَ الْقَاعِدَةُ وَالْأَصْلُ، وَلَيْسَتِ اسْتِثْنَاءً.
نَعَمْ لِلسَّلَفِيَّةِ، بِمَفْهُومِهَا الشَّامِلِ، السَّلَفِيَّةُ الَّتِي تَجْمَعُ وَلَا تُفَرِّقُ، تُبَشِّرُ وَلَا تُنَفِّرُ، تُؤَلِّفُ وَلَا تَشْطُرُ.
السَّلَفِيَّةُ الَّتِي تُقَرِّرُ التَّوْحِيدَ فِي النُّفُوسِ، وَتُطَهِّرُ الْبَوَاطِنَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ.
السَّلَفِيَّةُ الَّتِي تُعَظِّمُ النَّصَّ وَتَجْعَلُهُ أَصْلًا، وَلَا تَرُدُّهُ لِهَوًى أَوْ ذَوْقٍ، أَوْ مَصْلَحَةٍ يُقَدِّرُهَا بَشَرٌ؛ يُصِيبُ حِينًا، وَيُخْطِئُ أَحَايِينَ.
السَّلَفِيَّةُ الَّتِي تُؤْمِنُ بِشُمُولِيَّةِ الدِّينِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاقْتِصَادِ وَجَمِيعِ شُؤُونِ الْحَيَاةِ؛ فَلَا تَفْصِلُ شَيْئًا مِنَ الْحَيَاةِ عَنِ الدِّينِ.
وَعَلَيْهِ: فَلَيْسَ هُنَاكَ نَاطِقٌ رَسْمِيٌّ أَوْ مُمَثِّلٌ لِلسَّلَفِيَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ خَالَفَ السَّلَفِيَّةَ.
وَعَلَيْهِ: فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ مُسْلِمٍ مِنَ السَّلَفِيَّةِ إِلَّا إِذَا خَالَفَ أَصْلًا كُلِّيًّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ.
وَعَلَيْهِ: فَكَوْنُ مُسْلِمٍ مَا لَا يَتَسَمَّى بِالسَّلَفِيَّةِ لَا يُخْرِجُهُ هَذَا عَنِ السَّلَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفِيَّةَ لَيْسَتْ جَمَاعَةً تَقْتَصِرُ عَلَى أَفْرَادِهَا الْمُنْتَسِبِينَ لَهَا.
وَعَلَيْهِ: فَوُقُوعُ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلسَّلَفِيَّةِ فِي أَخْطَاءٍ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلسَّلَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ الْأَخْطَاءُ إِلَى قَائِلِهَا لَيْسَ إِلَّا.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: وَنَظْرَةٌ خَاطِفَةٌ لِبَعْضِ مَا يُقَالُ فِي الْمَجَالِسِ، وَيُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ، وَيُغَرَّدُ بِالْأَنَامِلِ نَرَى مَا يُمَزِّقُ صَفَّ الْمُجْتَمَعِ، وَيَبْذُرُ سُمُومَ الشِّقَاقِ فِيهِ.
تَصْنِيفَاتٌ وَتَبْدِيعَاتٌ، وَتَحْزِيبٌ وَتَضْلِيلَاتٌ، وَإِسْقَاطٌ بِالْجُمْلَةِ وَتَنْبِيشٌ [[وَنَبْشٌ]] فِي النِّيَّاتِ.
شَتَائِمُ تُرْجَمُ فِي الْهَوَاءِ، وَتَصَيُّدٌ لِأَيِّ مَوْقِفٍ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَفَرَحٌ بِزَلَّاتِ الْفُضَلَاءِ.
تَنْزِلُ النَّوَازِلُ وَتَتَجَدَّدُ الْحَوَادِثُ فَيُدْلِي بِرَأْيِهِمْ عُلَمَاءُ وَبَاحِثُونَ، فَيَتَحَرَّكُ هُوَاةُ الْخَسْفِ وَالتَّنْسِيفِ [[وَالنَّسْفِ]] وَالتَّصْنِيفِ فَيَنْصِبُونَ أَعَمِدَتَهُمْ؛ لِيَصْلُبُوا هَذَا بِالْبِدْعِيَّةِ، وَيَرْجُمُوا ذَاكَ بِالْحِزْبِيَّةِ، وَيَجْلِدُوا آخَرَ بِالْغُلُوِّ وَالدَّاعِشِيَّةِ.
وَتَنْزِلُ النَّازِلَةُ فَيَتَكَلَّمُ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا يَعْتَقِدُونَ دِيَانَةً، فَيُلْمَزُونَ وَيُحَزَّبُونَ، وَيَسْكُتُ آخَرُونَ، فَيُخَوَّنُونَ وَيُشَيْطَنُونَ؛ لِأَنَّهُ سَاكِتٌ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي بِهِ يَقُولُونَ.
وَأَضْحَتْ سَاحَاتُنَا الثَّقَافِيَّةُ مَلِيئَةً بِالتَّشْوِيشِ وَالتَّحْرِيشِ وَالتَّشْكِيكِ فِي سَابِقَةٍ لَمْ نَشْهَدْهَا!
فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ... يَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:
عَلَى مَاذَا التَّنَاحُرُ وَالضَّغِينَهْ | وَفِيمَ الْحِقْدُ يُفْقِدُنَا السَّكِينَهْ |
عَلَامَ نَسُدُّ أَبْوَابَ التَّآخِي | وَنَسْكُنُ قَاعَ أَحْقَادٍ دَفِينَةْ |
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "مَنْ عَادَى مُخَالِفَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَفَّرَ وَفَسَّقَ وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ مُخَالِفِهِ فِي مَسَائِلِ الْآرَاءِ وَالِاجْتِهَادَاتِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافَاتِ" ا. ه
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ فَغَيْرُهَا مِنَ النَّوَازِلِ أَوْلَى بِالتَّعَاذُرِ [[لِالْتِمَاسِ الْعُذْرِ]] فِيهِ وَالتَّسَامُحِ.
فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ وَالرَّحْمَةَ الرَّحْمَةَ فِي مُعَالَجَةِ كُلِّ خَطَأٍ فِيمَا يَخْدِمُ جَمْعَ الْكَلِمَةِ وَوَحْدَةَ الصَّفِّ... نَعَمْ لِلنَّقْدِ وَمَرْحَبًا بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لِيَكُنْ بِعِلْمٍ وَأَدَبٍ، بِلَا تَقْزِيمٍ، وَلَا سَلَاطَةِ اللِّسَانِ؛ فَهَذَا مِنَ الْبَذَاءَةِ، وَسُوءِ الْخُلُقِ وَإِنِ ادَّعَى صَاحِبُهَا الْغَيْرَةَ عَلَى الدِّينِ أَوِ التَّوْحِيدَ.
حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبِدَعِ فَيَبْقَى لِلْمُخَالِفِ اسْمُ الْإِسْلَامِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُ، وَتُحْفَظُ لَهُمْ حُقُوقُ الْأُخُوَّةِ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "إِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ اسْتَحَقَّ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ" ا. ه
عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ وَتَشْذِيبِهِ مَا نَرَاهَا مِنَ الطَّرْحِ التَّحْرِيضِيِّ، وَتَجْيِيشِ النَّاسِ عَلَى كَلِمَةٍ قِيلَتْ، أَوْ هَفْوَةٍ نَدَّتْ بِأَنَّ وَرَآهَا مَا وَرَآهَا مِنَ الْأَهْدَافِ الْخَفِيَّةِ.
وَمِنَ الطَّرْحِ الِاسْتِعْدَائِيِّ الْمَقِيتِ رَجْمُ تَصَرُّفَاتِ الْآخَرِينَ بِالتَّشَدُّدِ وَالْغُلُوِّ وَالدَّعْشَنَةِ فِي وَقْتٍ يُعَانِي فِيهِ بَلَدُنَا مِنْ فِئَةٍ ضَالَّةٍ غَالِيَةٍ تَتَحَيَّنُ التَّخْرِيبَ وَالتَّفْجِيرَ.
فَمَعَ كُلِّ عَمَلِيَّةٍ أَمْنِيَّةٍ نَاجِحَةٍ أَصْبَحْنَا مُسْتَعِدِّينَ وَلِأَيَّامٍ أَنْ نَقْرَأَ وَنَسْمَعَ عَنِ التَّشَدُّدِ، وَمَنْ يُنَمِّي أَرْضِيَّةَ التَّشَدُّدِ، وَأَصَابِعُ الِاتِّهَامِ تُشِيرُ بِوُضُوحٍ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ، وَالْمَنَاهِجِ وَالْحَلَقَاتِ وَالْمُحَاضَرَاتِ، يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الْوَطَنِ الْمُخْتَطَفِ، وَالتَّعْلِيمِ الْمُخْتَطَفِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفَخَّخَةِ، الَّتِي تُحَرِّضُ وَتُخَوِّفُ، وَتَجْعَلُ النَّاسَ فِي مَوْقِفِ التَّوَجُّسِ وَالْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْمَحَاضِنِ الْإِصْلَاحِيَّةِ.
هَذَا الطَّرْحُ الِاسْتِعْدَائِيُّ -لِلْأَسَفِ- بُلِينَا بِهِ، وَلَا تَزَالُ بَعْضُ قَنَوَاتِ الضِّرَارِ تَرْقُصُ لِمِثْلِ هَذَا الطَّرْحِ، فَأَصْبَحَتِ السَّاحَاتُ الْإِعْلَامِيَّةُ مَنَابِرَ لِلْهُجُومِ وَأُخْرَى لِلدِّفَاعِ، فِي ظَاهِرَةٍ مُؤْسِفَةٍ مُحْزِنَةٍ لَا يَفْرَحُ بِهَا إِلَّا الْعَدُوُّ وَالْمُتَرَبِّصُ.
إِنَّ عَلَى عُقَلَاءِ أَهْلِ الْإِعْلَامِ أَنْ يَسْتَشْعِرُوا أَثَرَ تَجْيِيشِ النَّاسِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ وَعَلَى الْأَمْنِ وَالسِّلْمِ الِاجْتِمَاعِيِّ؛ فَحَمَلَاتُ التَّجْيِيشِ بِمَا يُصَاحِبُهَا مِنْ مُبَالَغَةٍ وَكَذِبٍ وَتَهْوِيلٍ سَتُقَابَلُ بِمِثْلِهَا جَزَاءً وِفَاقًا، وَسَيَغِيبُ حِينَهَا صَوْتُ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ.
ثُمَّ أَيُّ اسْتِفْزَازٍ تَصْنَعُهُ بَعْضُ الْقَنَوَاتِ الَّتِي يُفْتَرَضُ أَنْ تَكُونَ لِسَانًا لِهَذَا الْبَلَدِ حِينَ تُلَمَّعُ شَخْصِيَّاتٌ ضَارِبَةٌ فِي انْحِرَافِهَا الْعَقَدِيِّ وَأَيَادِيهَا الَّتِي لَمْ تَجِفَّ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَهَلْ تَنْتَظِرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَخْلُقَ جَوًّا مِنَ التَّآلُفِ وَالْوِئَامِ بَعْدَ هَذَا الطَّرْحِ الِاسْتِفْزَازِيِّ.
وَأَخِيرًا -يَا عَبْدَ اللَّهِ- وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ مَقْصِدًا شَرْعِيًّا وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حِينٍ، فَهُوَ آكَدُ وَأَحْرَى فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي نَعِيشُهُ وَقَدْ كَشَّرَتْ فِيهِ الصَّفْوِيَّةُ عَنْ أَنْيَابِهَا، وَكَشَحَتْ عَنْ وَجْهِهَا الطَّائِفِيِّ الْحَاقِدِ، فَهِيَ الْمُسْتَفِيدُ أَوَّلًا وَأَخِيرًا مِنْ تَفَرُّقِنَا وَاخْتِلَافِنَا.
فَكُنْ -يَا أَخَا الْإِيمَانِ- لَبِنَةَ بِنَاءٍ، وَضَعْ بَصْمَتَكَ فِي هَذَا الْبِنَاءِ، ضَعْ ذَلِكَ، بِلِسَانِكَ وَبَنَانِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِصَمْتِكَ عَنْ إِشَاعَةِ أَيِّ فُرْقَةٍ وَإِعْرَاضٍ، فَهِيَ صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ، وَتَأَمَّلْ مَعِي هَذَا الْمَوْقِفَ مِنْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ سَمِعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ، فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: "أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ"، فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَتَسْفِكُ الدَّمَ، وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ، فَسَكَتَ ابْنُ عُمَرَ.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا، وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ...